علاقة الكنيسة المارونية بالاسلام
أقول، دون أي مجاملة، ان هذا النص المكثف جدا (35 صفحة) هو من اهم النصوص وأجملها (وهي نادرة جدا) التي قرأت حول العلاقات المسيحية – الاسلامية الصادرة عن مرجع ديني مرموق. إنه نص جامع، يشمل تقريباً كل وجوه العلاقة ما بين المسيحية والاسلام. عدد من تلك الوجوه يتعلّق بالنطاق الكنسيّ الماروني الأنطاكي، والعدد الآخر يرتقي الى مصف الفكر المسيحي الكاثوليكي الجامع في هذا الشأن. الى ذلك، فالنص، من جهة، يستند الى مواقف كنسيّة فاتيكانية مجمعية وراعوية ومواقف كنسية شرق أوسطية صادرة عن أعلى المرجعيات، إنطلاقاً من المجمع الفاتيكاني الثاني (1962 – 1965) وصولا الى أيامنا هذه.
النص يتضمّن 70 هامشاً. هذه الهوامش تشير الى المراجع التي استند اليها النص. وأهم هذه المراجع، فقط في التاريخ الحديث: نصوص المجمع الفاتيكاني الثاني، العديد من عظات ورسائل وخطابات البابا يوحنا بولس الثاني، الإرشاد الرسولي: "رجاء جديد للبنان"، الرسائل الرعوية لرؤساء الكنائس في الشرق، الرسائل المشتركة لبطاركة الشرق الكاثوليك، نصوص للمجلس الحبري للحوار بين الأديان، ونصوص من عظات ورسائل البطريرك الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير.
ومن هة اخرى، يتميز النص بصدقه وشفافيته لاسيما في ذكر كل ما للكنيسة وما عليها في علاقتها بالإسلام، وكل ما للإسلام وعليه في علاقته بالمسيحية.
من وجوه اهمية النص أنه لا يقارب العلاقة مع المسلمين والاسلام كبحث في التاريخ بل يقاربها كـ"دعوة" على الكنيسة أن تقوم بها، حيث يقول: "اللقاء الطيب بالاسلام والمسلمين في العالم العربي هو حقاً من صلب رسالة كنيستنا ومن أبرز علامات حضورها في الشرق العربي". ومستعيراً نص الرسالة الرعوية الثالثة لرؤساء الكنائس في الشرق، عام 2000، يقول: وتدعو كنيستنا، مع شقيقاتها وشريكاتها في مجلس كنائس الشرق الأوسط" مواطنينا المسلمين، الذين يشدنا اليهم الانتماء الوطني الواحد، والأرض الواحدة، والهمّ الواحد، والمصير الواحد، لنواصل العمل معاً في حوار حياة من اجل مجتمع يحترم التنوّع، ويحقق المساواة، ويحافظ على الحريات، ويصون كرامة الانسان وحقوقه".
ويأتي النص، بداية، الى قراءة متأنية وصريحة لخبرة الماضي الماروني – الاسلامي في الشرق الاوسط الانطاكي الذي عرف "أيام عز وبؤس"، وذلك بغية بناء نظرة صافية الى حاضر العلاقة. والهدف من هذه العملية هي الوصول الى "تطهير حقيقي للذاكرات والضمائر"، عبر ممارسة النقد الذاتي والتماس المغفرة من الآخر عند حصول انتهاك لكرامة الأفراد والجماعات، وذلك بغية إقصاء كل حقد مترسّب من موروث الماضي، إن في نفوس الأفراد أو في الوجدان الجماعي، ودون الوقوع فريسة التجني على الآخرين أو الانحراف في الملاومة الذاتية.
وفي القسم الأول من النص وهو تحت عنوان: "خبرة الماضي المارونيّ الإسلاميّ في ضوء ثوابت التاريخ"، نقرأ عرضاً موجزاً ومكثّفاً لسمات العلاقة المارونية الاسلامية منذ بدايات البطريركية المارونية، وتكاد تتزامن هذه البداية مع نشوء الاسلام (فقرة 5)، حتى أيامنا هذه.
هنا، أقف عند وصف آباء المجمع الماروني لميزات المرحلة الراهنة من تاريخ لبنان على صعيد العلاقة المسيحية – الاسلامية، أي منذ قيام دولة لبنان المستقل، وقيام هذه الدولة على "الميثاق الوطني"، لأذكر ما يلي (وفي هذا الأمر عبرة لما يعيشه لبنان اليوم من أزمات): "كان عنوان هذا الميثاق (الوطني) الحرية الكاملة للمواطنين الافراد والشراكة التعددية التضامنية بين عائلات لبنان الدينية. وهكذا أضحى لبنان، بنظامه التوافقيّ الحر، الإبن البكر للتلاقي المنشود بين المسيحية والإسلام في الشرق، بل وفي العالم" (فقرة 19). وأيضا: "إن النموذج الشراكي المسيحي – الاسلامي في لبنان هو تحول تاريخي للعلاقة المسيحية الاسلامية في المطلق" (فقرة 21). وايضاً: "النموذج اللبناني قائم على شراكتين بين مسيحييه ومسلميه: شراكة الثقافة وشراكة المصير" (فقرة 22).
بعد هذه القراءة في الماضي والحاضر، يستخلص واضعو النص المجمعي جملة "حقائق" و"متطلبات" و"معوّقات" يتسم بها حاضر العلاقة المسيحية – الاسلامية. ولعل اهم ما في هذه الخلاصات، في رأينا، هو إبراز الحقائق الجديدة في تلك العلاقات. لقد تولّد عندي، من خلال متابعتي لتجارب الحوار الاسلامي – المسيحي في لبنان والعالمين العربي والغربي، انطباع بان أهداف الحوار تكاد اليوم تقتصر على ما سمي "حوار الحياة" في سبيل دعم عيش مشترك يتحاشى التأزيم في العلاقات، وبحث التضامن في القضايا الوطنية والقومية. ولقد تُرك جانبا "حوار المبادرات اللاهوتية "بنوع خاص، وأحياناً "حوار الاختبار الروحي".
وفي قناعتي أنه لا يمكن إنجاح الحوار الحياتي، إن لم يحرص على مبادىء لاهوتية، أي أن يكون الحوار منطلقا من دوافع دينية مبنية على أسس لاهوتية تلزم المؤمن بان ينظر الى الآخر نظرة محبة وتقدير واحترام. ما عدا ذلك فالنظرات الاخرى الحوارية، والتضامنية، تبقى رهن الظروف السياسية والاجتماعية التي قد تتغير.
من هنا، فإن الحقيقة الأولى المدرجة في الحقائق الجديدة في العلاقات المسيحية – الاسلامية المعاصرة، في متن النص المجمعي، هي النظرة اللاهوتية الرسمية الايجابية الى الاسلام والمسلمين، والتي أقرها المجمع الفاتيكاني الثاني، ومن ثم وثائق صادرة عن المجلس الحبري للحوار بين الاديان، وإرشادات ومواقف البابا الراحل يوحنا بولس الثاني. ولعل العنوان الاساسي في هذا المجال هو خلاص غير المسيحيين في منظور اللاهوت المسيحي. فمنذ المجمع الفاتيكاني الثاني، ما عادت الكنيسة اليوم تنبذ من دائرة الخلاص الانسان المسلم الملتزم بما ينطوي عليه القرآن من مبادىء. وهكذا، ينقل النص المجمعي الماروني ما جاء، في هذا الشأن، من نصوص للمجمع الفاتيكاني الثاني، ولاسيما في بيان "علاقة الكنيسة بالاديان غير المسيحية" (عدد 3)، وفي الدستور العقائدي "في الكنيسة" (نور الامم – عدد 6) حيث ورد ما يلي: "إن تدبير الخلاص يشمل أيضاً أولئك الذين يعترفون بالخالق، وأولهم المسلمون". كما ينقل النص ما جاء في وثيقة "حوار وبشارة" الصادرة عن المجلس الحبري للحوار بين الاديان (عدد 38)، حيث نقرأ: "إن السبب الساسي لالتزام الكنيسة بالحوار (مع الاديان الاخرى، ومن بينها الاسلام)، ليس أنتروبولوجيا فحسب، بل هو لاهوتيّ أيضاً. فالله (كما تضيف هذه الوثيقة) قد أنعم وما فتىء ينعم على البشرية بالخلاص، وذلك في حوار دائم دوام الدهور. لذا فإن الكنيسة ملزمة، في امانة للمبادرة الإلهية، بالدخول في حوار خلاصيّ مع الجميع".
لن أتوقف طويلا في باب ما يسميه النص المجمعيّ المارونيّ "المعوّقات" في طريق العلاقات المسيحية – الاسلامية. إنما، من المفيد أن نذكر هنا عناوين تلك المعوّقات. "وليس المقصود بالمعوّقات – كما يقول النص – الاختلافات العقائدية بين الدينين في أمور التثليث، وألوهية المسيح، وموته على الصليب، وقيامته من بين الأموات لإفتداء خلاصنا، إضافة الى اختلاف النظرة في علاقة الله بالبشر. فهذه كلها موجودة، ولا أحد يتعامى عنها". (فقرة 48).
"المعوقات الحقيقية – كما جاء في النص – هي التي تولدها الأوهام والاحكام المسبقة في حق الدين الآخر، والصورة المشوّهة التي تعلق عنه في الاذهان بسبب رواسب الماضي السلبية، أو بسبب تربية دينية مبتورة تسجن صورة الدين الآخر في تصانيف اختزالية تتحجّر لتصبح اقتناعات خبيثة تتشاطرها الجماعة دون تدقيق" (فقرة 49).
ثم يتناول النص معوّقات اخرى، منها: اختلاف النظرة الى الحق في الحرية الدينية بين الاسلام والمسيحية (فقرة 54 – 55) – مسألة الزيجات المختلطة، والنظرة المختلفة لدى الدينين الى حقوق طرفي الزواج عند قيامه، وأثناءه، وعند انحلاله (فقرة 57) – تنامي الأصولية في الخطاب الدينيّ الاسلامي بين الفينة والاخرى (فقرة 58) – تنامي العنف باسم الدين، في الشرق العربيّ وفي العالم أجمع (فقرة 59).
أما "مستقبل" العلاقات المسيحية – الإسلامية، في منظور النص المجمعي الماروني فهي، من جهة، ممارسة الحوار بصدق وعمق، والحوار بكونه "موقفاً روحياً قبل كل شيء" (فقرة 60)، وعلى أنه "ليس نتيجة استراتيجية أو مصلحة" (فقرة 61). ومن جهة ثانية، يرى المجمع الماروني ضرورة تعزيز أشكال الحوار الثلاثة، أي "حوار الحياة" و"حوار الأعمال" و"حوار الاختبار الروحيّ"، ولكنه يرى أيضاً إعادة إطلاق "الحوار اللاهوتي" "في انفتاح ذهن وطواعية قلب، من اجل النمو المشترك في الحقيقة" (فقرة 64). من جهة ثالثة، وعلى الصعيد الرعائي، "تود الكنيسة المارونية ان تضع موضع التطبيق، في اطار تثقيف كهنتها وأكليريكييها، نداء المجمع الفاتيكاني الثاني القائل: فلتقدم لهم المعارف عن الأديان الاخرى" (فقرة 63)...
وتأتي خاتمة النص المجمعيّ المارونيّ لتعبر عن "رغبة الكنيسة المارونية العميقة في تصالح الاسلام مع المسيحية، وتصالح المسيحية مع نفسها في المسكونية، لاسيما في النطاق الأنطاكي، وتصالح الإسلام مع نفسه" (فقرة 70) "فالاسلام والمسيحية هما أصحاب مصير واحد في هذا المشرق الانطاكيّ على الصعيد الحضاري" (فقرة 71).
جيروم شاهين
المصدر: النهار
إضافة تعليق جديد