مراجعة كتاب توماس كون: بنية الثورات العلمية
في الوقت الذي قام فيه توماس كون بتدوين كتاب ”بنية الثورات العلمية“. كان يُنظر إلى التَغيُّر العلمي على أنه عمليّة منظَمَة وخطيّة؛ يتم تجميع الحقائق الجديدة فوق الحقائق السابقة، وهذا التراكم التدريجيّ يؤدي إلى تقدم علمي مستمر.
لكن توماس كون – الذي يُعد واحدًا من أكبر فلاسفة العلم في تاريخ البشرية – يرى أنّ التقدم العلمي في أي مجال يعتمد علي مجموعة مشتركة من الافتراضات، وبعض القواسم المشتركة في كيفيّة رؤية الناس للطبيعة؛ أي يعتمد على وجود نموذج مشترك. في كثير من الأحيان، يتبيّن أنّ هذا النموذج العلميّ المشترك أو السائد الذي يتبنّاه غالبيّة العلماء في عصرٍ ما من العصور لتفسير مجموعة من الملاحظات التجريبية ليس كافيًا، وتبدأ المشاكل في التراكم –على سبيل المثال، الملاحظات التجريبية التي لا يستطيع هذا النموذج تفسيرها، وفي النهاية يقترح قلّة من العلماء أو حتى عالم واحد يفكّر خارج صندوق النموذج السائد منظورًا بديلًا يحلّ المشكلات التي يعجز النموذج العلمي السائد عن حلها، ويحدث تحول –تغيّر في النموذج (تحول البارادايم Paradigm Shift) هذا التحول لا يشبه إلى حدٍ كبير مجرد تحسين أو تعديل على النموذج السائد السابق بقدر ما هو بديلٌ كاملٌ للطريقة السابقة في النظر إلى الأشياء.
حسب توماس كون غالبًا ما يتم إخفاء الثورات العلميّة في صورة العلم التراكمي. على سبيل المثال ينظر معظمنا إلى نظريّة أينشتاين على أنّها مجرد تعديل وتحسين لنظرية نيوتن عن الجاذبية. لكن في الواقع تصوير النظرية النسبية لأينشتاين أنها ”ثورة علمية“ أفضل من تصويرها بأنها مجرد تحسين لنظرية نيوتن. فالجاذبية تحوّلت من كونها قوى غير مرئية بين الأجسام المادية إلى كونها مجرد انحناء في نسيج الزمكان، والزمن والفضاء تحولا من شيءٍ مطلق لشيءٍ نسبي (هذه تصورات مختلفة تماماً عن الطبيعة، تؤكد أن تصورات نيوتن كانت خاطئة).
يُقسّم توماس كون مسار التغيّر العلمي إلى عدد من المراحل:
– مرحلة ما قبل النموذج (Pre-paradigm): في هذه المرحلة يكون هناك الكثير من الأُطر أو النماذج التفسيريّة المتنافسة لشرح مجموعة من الملاحظات التجريبية، ولا يتم إنجاز الكثير في هذه المرحلة، ولا يصل العلماء إلى إجماع علميّ على إطار معيّن (Scientific Consensus).
– تشكيل النموذج (Paradigm formation): يتقدم إطارُ واحدُ من ضمن هذه الإطارات ويفوز.
– مرحلة العلم القياسي (Normal science): بمجرد تشكيل نموذجًا ما، يركّز المجتمع العلمي على تحسين هذا النموذج بطرقٍ مختلفة مثلًا: تبسيط صياغته، جمع ملاحظات تجريبية أخرى تدعمه بشكل أكبر وأكبر، ويصبح هذا النموذج هو النموذج العلمي السائد والمقبول، وعليه إجماع غالبية العلماء، ويركز العلماء جُلَّ عملَهم عليه.
– الأزمة (Crisis): في مرحلةٍ ما، تبدأ مشاكل هذا النموذج السائد في الظهور مثلًا: يعجز هذا النموذج عن تفسير ملاحظات تجريبية جديدة، ومع تراكم العديد والعديد من الملاحظات التجريبية التي يعجز النموذج السائد عن تفسيرها، تظهر المرحلة التالية.
– مرحلة الثورة (Revolution): يتم اقتراح نموذج جديد بديل عن النموذج السائد لحل المشاكل المتراكمة في النموذج السائد.
– القبول (Acceptance): نادرًا ما يتم قبول النموذج الجديد البديل على الفور؛ وفي أغلب الأحيان يستغرق هذا وقتًا أطول، وفي النهاية يحدث تحول البارادايم، ونعود مرة أخرى إلى مرحلة العلم القياسي لكن هذه المرة مع النموذج البديل الجديد.
يعد نموذج توماس كون لكيفية حدوث التغير العلمي، نموذجًا قويًا. لكن الجزء الأكثر إثارة للاهتمام من الكتاب ليس نموذجه الذي اقترحه لكيفية حدوث التغير العلمي، بل كان في تفاصيل ماهية البارادايم (النموذج العلمي السائد) وكيف يؤثر البارادايم على المجال العلمي.
يؤثر النموذج السائد على المجال العلمي بطريقتين رئيسيتين:
1- الاعتقاد القويّ في النموذج السائد (البارادايم) قد يجعل العلماء يتجاهلون الملاحظات التجريبية الشاذة (Anomalies) التي لا يستطيع هذا النموذج السائد تفسيرها أو قد تجعلهم هذه الملاحظات يضيفون افتراضات إضافيّة (Ad Hoc Hypothesis) في النموذج السائد لمنع تخطئته، حتى لو لا يوجد أدلة تجريبية تدعم هذه الافتراضات الإضافية.
ضرب توماس كون في كتابه “بنية الثورات العلمية” العديد من الأمثلة التاريخية التي تؤيّد هذه النقطة في كتابه. لكن سأضرب أنا مثالاً من العصر الحالي على هذه النقطة كتأكيد لموثوقية أفكار توماس كون.
النموذج الكوني السائد الآن وسط علماء الكونيات والفيزياء هو (نموذج الانفجار الكوني العظيم Big bang model) والذي ينص باختصار على أنّ الكون توسّع من حالة شديدة الحرارة والكثافة. وأكبر الأدلة الداعمة لهذا النموذج هي:
1) الانزياح الأحمر للضوء القادم من المجرات، وبالتالي فالمجرات تبتعد عنّا، ويتم تفسير هذا من خلال افتراض أنّ الكون يتوسّع.
2) وجود إشعاع الخلفية الكونية الميكروي (CMBR)، وهو الإشعاع الحراري الذي خلّفه الانفجار العظيم.
هذه هي أبرز الأدلة الداعمة للنموذج السائد، معظم الناس تقريبًا يعرفونها وستجدها منتشرة بكثرة في مجلّات العلم الشعبية وفي وسائل الإعلام المختلفة.
لكن نادرًا ما ستجد شخص على علم بالملاحظات التجريبية التي تتعارض مع نموذج الانفجار الكونيّ العظيم. على سبيل المثال في أي كون متوسّع يجب أن تُخفِت درجة سطوع أسطح المجرّات أكثر فأكثر كلما ابتعدت عنا، بناءًا على ملاحظات آلاف المجرات فإن سطوع أسطح المجرات في الواقع ثابت، كما هو متوقع في كون لا يتوسع. إن كان الكون لا يتوسّع فالمجرات البعيدة عنّا ستبدو أصغر في الحجم، في حين إن كان الكون يتوسّع فالمجرات البعيدة عنا ستبدو أكبر في الحجم، الأرصاد تقول أنّ المجرات البعيدة أصغر في الحجم [1]. نادرًا ما ستجد أي مواقع تتحدث عن هذه الملاحظات لماذا؟ لأنّ غالبية العلماء يتجاهلون مثل هذه الملاحظات التجريبية الشاذة ببساطة ولا يتكلمون عنها لأنها لا تتوافق مع النموذج الحالي السائد الذي يقبلونه عن الكون [2].
وعندما لا يتجاهل العلماء هذه الملاحظات الشاذة التي يعجز النموذج السائد عن تفسيرها فإنهم لا يتخلّون عن النموذج السائد، بل غالباً يضعون افتراضات إضافيّة للنموذج السائد لحمايته من التخطئة. على سبيل المثال نموذج الانفجار الكونيّ العظيم كان يواجه معضلةً كبيرة تُسمّى (مشكلة الأفق Horizon problem). لِمَ حافظ الكون على تجانسه الحراريّ أثناء التمدد الكوني؟ حينما تنظر إلى أي منطقة من مناطق الكون تجد أن لها نفس درجة حرارة مناطق أخرى (2.7 كلڨن) حتى وإن كان البعد بين هذه المناطق شاسع جدًا. لِمَ لا نجد مناطق حرارتها أعلي من حرارة مناطق أخرى مثلًا؟ نموذج الانفجار الكوني العظيم كان عاجزًا تمامًا عن تفسير هذه الملاحظة التجريبية.
فأضاف العلماء افتراضًا جديدًا له، أضافوا فترة لعمر الكون وأطلقوا عليها (فترة التضخم الكونيّ Cosmic Inflation) في هذه الفترة من عمر الكون، زاد حجم الكون بمعدّل مليون مليار مليار مليار مليار مليار مليار مليار مليار مرةً من حجمه في زمن قدرة مليون مليار مليار مليار جزء من الثانية، من خلال هذا الافتراض تمكّنوا من حل مشكلة الأفق. لكن هل يوجد دليل تجريبي مباشر على حدوث ما يسمّى بالتضخّم الكوني؟ لا، لا يوجد مجرّد تخمين بلا دليل مباشر [3].
2- النموذج السائد يحدّد ما هو مقبول علميًا.
أي نماذج جديدة لتفسير الملاحظات التجريبية بطريقة مختلفة عن طريقة النموذج السائد يعتبرها العلماء علمًا زائفًا، أو يحاولون تسخيفها والسخرية منها أو يرفضونها (يقاوم غالبية العلماء عملية تغيير النموذج السائد ويتحيّزون له). فقط ما يتوافق مع افتراضات النموذج السائد هو المقبول وما دونه علم زائف أو سخافات أو غير مقبول في المجتمع العلمي.
ومثال ذلك من التاريخ كما يذكر توماس كون في كتابه بنية الثورات العلمية؛ نظرية الانجراف القاري. لعقود من الزمن اعتبر غالبية علماء الجيولوجيا نظرية الانجراف القاري علمًا زائفًا وسخروا منها؛ لأن النموذج السائد في ذلك الوقت كان يفترض أنّ القارات ثابتة لا تتحرك. نظرية نيوتن عن الجاذبية أيضاً. كانت أفكاره لعقود محطَّ سخرية؛ لأنّه اقترح فكرة تجاذب المواد لبعضها البعض بفضل قوة غامضة وغير مرئيّة أطلق عليها اسم (الجاذبية).
مثال ذلك من العصر الحالي كتأكيد لموثوقية أفكار توماس كون؛ (حركة التصميم الذكي Intelligent Design). النموذج العلمي السائد حاليًا لتفسير تطوّر الكائنات الحية بين علماء الأحياء هو (الداروينية الجديدة Neo-Darwinism) أو (التطور بفعل الانتخاب الطبيعي للطفرات العشوائية Evolution by Natural selection) أي الآلية الأساسية التي يحدث بها التطور هي الانتخاب الطبيعي (آلية طبيعية غير-هادفة) للطفرات العشوائية.
لذلك نظريّة التصميم الذكي التي تحاول تفسير نفس الملاحظة من خلال افتراض وجود مصمم أو ذكاء هو ما يحدث تطور الكائنات الحية (Evolution by intelligent designer) يتم اعتبارها علمًا زائفًا لأنها غير متوافقة مع النموذج السائد الذي يتبناه غالبيّة علماء العصر الحالي والمعتمد على آلية الانتخاب الطبيعي كمحرك رئيسي للتطوّر مع استثناء وجود أي ذكاء أو تصميم وراء العملية التطورية .
مثال آخر من العصر الحالي؛ (حركة العلوم ما بعد المادية Post-Materalist Science). النموذج السائد الآن في علم النفس وعلم الأعصاب هو أن أفكارك، مشاعرك، ذكرياتك، وعيك بذاتك، إدراكك لما حولك، الشيء الذي يصنع كينونتك البشرية (عقلك أو ما سماه القدامى روحك/نفسك) هي مجرد نشاطات كهروكيميائية في دماغك وجهازك العصبي ولاشيء أكثر من ذلك.
لذلك فالتجارب الواعية الشاذّة التي تتحدَّى هذا النموذج السائد والتي يحاول علماء حركة العلوم ما بعدَ الماديّة إبرازها مثل تجارب الاقتراب من الموت التي تحدث أثناء السكتة القلبية، الظواهر الباراسيكولوجية المختلفة، مثل القدرة على التخاطر عن بُعد، القدرة على التنبّؤ بالمستقبل، التأثير العقلي على الأشياء الماديّة، …إلخ، والتي تشير إلى أنّ العقل أكبر من كونه مجرد نشاط دماغيّ منظّم لابُدّ من تفسيرها بأيّ طريقة ضمن النموذج السائد (نفسّر تجارب الاقتراب من الموت على أنّها مجرد هلوسات دماغيّة، ونفسّر التجارب التي حصلت على نتائج إيجابية تدعم وجود ظاهرة مثل التخاطر عن بعد على أنّها مجرّد تجارب تحتوي على عيوب منهجيّة وتحيّزات لاغير).
أمّا أن تحاول تفسيرها ضمن نموذج جديد مختلف عن النموذج السائد (تفترض أن الوعي أو العقل هو كينونة منفصلة تتفاعل مع الدماغ فقط، ولكنّه غير منتج من الدماغ) فهذا مجرّد علم زائف مرفوض لأنه يعارض النموذج السائد حاليًّا وسط غالبيّة علماء الأعصاب والنفس في العصر الحالي عن العقل كمجرد نشاط دماغي .
فالعلماء قد يتحيّزون للنموذج السائد بغض النظر عن إن كانت الأدلة تدعمه كأفضل تفسير أم لا؟ أي أنهم لا يحضِرونَ كافّة الملاحظات التجريبية التي نملكها، ثم يقارنون مثلًا بشكلٍ عقلانيّ بين نموذج (العقل ليس نتاج الدماغ) ونموذج (العقل نتاج الدماغ) أو نموذج (التطور بدون مصمم) ونموذج (التطور بمصمم) ثم يكتشفون أنّ نموذج (العقل نتاج الدماغ) أو نموذج (التطور بدون مصمم) يفسرها بشكل أفضل.
بل هم عندهم تحيّز من البداية للنماذج السائدة حاليًّا (التطور بلا مصمم)، (العقل نتاج الدماغ) ويعترف بعضهم بأنفسهم بذلك [4]. فيحاولون تحت تأثير هذا التحيّز تفسير كافّة الأدلّة بأي طرق تتوافق مع هذه النماذج بغض النظر عن مدى عقلانيّة هذه التفسيرات، كما كانوا في الماضي متحيزين لفكرة القارات الثابتة مثلًا.
علي سبيل المثال تفسير تجارب الاقتراب من الموت التي تحدث أثناء السكتة القلبية علي أنها هلوسات دماغية تفسير غير-منطقي، ويناقض مئات الدراسات الرصدية العصبية. مع ذلك ستجد أن غالبية علماء النفس والأعصاب يصرون علي أن هذه التجارب هي مجرد هلوسات دماغية.
عندما يموت شخص إكلينيكياً (يصاب بالسكتة القلبية) ثم يعود مرة أخري بالإنعاش القلبي الرئوي إلى الحياة ويخبر عن وجود تجارب واعية (يري نفسه في نفق نهايته ضوء، يري أقارب له ماتوا قبله، يري ويسمع الأحداث التي جرت أثناء فترة توقف قلبه في غرفة الإنعاش.. إلخ) بعد أن يتم إنعاشه. فأغلب العلماء يفترضون أن دماغه كان يهلوس أثناء السكتة القلبية فقط ولاشيء أكثر من ذلك.
لكن يوجد عشرات الدراسات الرصدية علي البشر والحيوانات تؤكد أن الدماغ يتوقف عن العمل أثناء السكتة القلبية، كيف الدماغ سيهلوس وهو لا يعمل أصلاً؟ يرد أغلب العلماء: لا، الأجهزة الحالية التي نملكها الآن هي ما تُظهر أنه لا يوجد نشاط دماغي أثناء السكتة القلبية، هناك نشاطات في الدماغ أثناء السكتة القلبية ونحن فقط لا نستطيع رصدها بتكنولوجيا العصر الحالي. هذا الكلام صحيح، لأنه فعلاً نحن لا نملك أي أجهزة نستطيع من خلالها قياس كامل الأنشطة الدماغية. لكنه رد غير-منطقي ويناقض مئات الدراسات الرصدية العصبية.
الوعي حسب نموذج (الوعي نتاج الدماغ) هو ظاهرة انبثاقية (من مئات الدراسات الرصدية العصبية)، بمعني أنه لكي تكون واعي حسب هذا النموذج، فيجب أن يكون هناك نشاط عصبي من نوع خاص في دماغك، ليس أي نشاط عصبي قادر علي خلق وعي حسب هذا النموذج. يجب أن يكون هناك تفاعل بين أجزاء الدماغ البعيدة عن بعضها البعض في نفس الوقت (تفاعل بين مناطق القشرة المخية وجذع الدماغ والأعضاء الدماغية الداخلية الموجودة تحت القشرة المخية – نشاط عصبي خاص).
هذا النشاط من المستحيل أن يكون موجوداً أثناء ظروف مثل السكتة القلبية، فحتي لو احتوى الدماغ علي نشاطات دماغية نحن لا نستطيع رصدها، فهو بكل تأكيد لا يحتوي – في ظروف مثل السكتة القلبية – علي النشاط العصبي الخاص اللازم لظهور الوعي . وعليه الوعي يجب أن يختفي من الوجود لما يختفي هذا النشاط أثناء السكتة القلبية. في تجارب الاقتراب من الموت التي تنتج من السكتة القلبية الوعي يظل موجوداً حتي في غياب هذا النشاط وعليه نموذج (العقل ليس نتاج الدماغ) يفسر هذه الظاهرة بشكل أفضل من نموذج (العقل نتاج الدماغ) [5]. على الرغم من ذلك كما ذكرت بالأعلي ستجد تحيز واضح لنموذج (العقل نتاج الدماغ).
الصورة التقليديّة التي يحملها الناس في أذهانهم عن العالم الموضوعي المنفتح، الذي يترك التحيّز عند عتبة مختبره دائمًا، مبالغ فيها بشكلٍ كبير. وتاريخ العلم يناقض هذه الصورة التقليدية، كما يذكر توماس كون في الكتاب ”لا يهدف العلماء عادةً إلى ابتكار نظريات جديدة، وهم غالبًا ما يكونون غير متسامحين مع تلك التي يبتكرها آخرون“.
– النسبيّة العلميّة (Scientific Relativism).
حسب نموذج توماس كون المذكور بالأعلى، فالنظريات العلمية السائدة تتغير مع تغير معلوماتنا عن العالم (عندما تتراكم الملاحظات التجريبية الشاذة التي تعجز النظريات السائدة عن تفسيرها) مهما كان مستوى الدعم العلمي لها في عصر من العصور؛ هذا دفع بعض الفلاسفة في العالم الأكاديمي الغربي لتبنّي فكرة النسبية العلمية. هذه الفكرة تَنُص على أنّ ”الادعاءات العلمية التي تقوم عليها النظريات العلميّة السائدة ليست حقائق مطلقة بل هي حقائق بالنسبة فقط للنظريات أو النماذج العلميّة التي تتبناها“.
بمعنى ادعاء توسع الكون مثلًا هو حقيقة بالنسبة لنموذج الانفجار الكوني العظيم فقط. لكنّه ليس حقيقةً مطلقةً. في المستقبل قد تتراكم ملاحظات كونيّة شاذّة متعددة، تعجز نظرية الانفجار الكوني العظيم عن تفسيرها. ويظهر نموذج كونيٌّ آخر مختلف في افتراضاته الرئيسية عن نموذج الانفجار الكوني العظيم (نموذج لكونٍ ساكن مثلًا) يفسّر لنا كافة هذه الملاحظات التجريبية الشاذّة التي يعجز نموذج الانفجار الكوني العظيم عن تفسيرها بالإضافة لكافّة الملاحظات التجريبية التي تُستخدم لدعم الانفجار الكوني العظيم، فيحدث تحوّل في النموذج ويصبح هذا النموذج لكون ساكن هو النموذج الكوني السائد مرةً أخرى كما كان سائدًا في الماضي قبل ظهور نظرية الانفجار العظيم. ويتم التخلي عن نموذج الانفجار الكوني العظيم.
تمامًا كما حصل في الماضي مع نظرية الفلوجستون للاحتراق مثلًا، في الماضي اعتقد غالبية العلماء أنّ المواد تحترق لأن بها مادة تسمي الفلوجستون. وهذا النموذج كان ناجح تجريبيًّا في تفسير بعض الملاحظات التجريبية. وجود الفلوجستون كان حقيقة بالنسبة لنظرية الفلوجستون للاحتراق، وقد تمّ التمسك بنظرية الفلوجستون للاحتراق هذه لمدة قرنين من الزمن. بعد اكتشافنا للأكسجين، أصبح الفلوجستون مجرّد خيال بالنسبة لنظرية الأكسجين للاحتراق وتم التخلي عن هذه النظرية واستبدالها بنظرية الأكسجين للاحتراق.
أو مع النموذج البطلمي (نموذج مركزية الأرض)، هذا النموذج كان سائدًا لمدة طويلة من الزمن بين العلماء. وكان هو الآخر نموذج ناجح تجريبيًّا في تفسير بعض الملاحظات التجريبية بل كان يعطي تنبؤات صحيحة متفقة مع الملاحظات الفلكية. ومع ذلك فمركزيّة الأرض الآن مجرد خيال بالنسبة للنموذج الكوبرنيكي (نموذج مركزية الشمس) السائد حاليًّا.
في الواقع يوجد حالياً بعض علماء الكونيات والفيزياء (وهم قله الآن) الذين يجادلون بأن هناك نماذج كونية أخري متعددة بديلة عن نموذج الانفجار الكوني العظيم، يمكنها أن تفسر معظم الملاحظات التجريبية التي تدعم نموذج الانفجار الكوني العظيم مثل (الانزياح الأحمر للضوء القادم من المجرات، إشعاع الخلفية الكونية الميكروي)، إضافة لملاحظات شاذة أخري يعجز نموذج الانفجار الكوني العظيم عن تفسيرها – أي أنها نماذج كونية تفسر بشكل أفضل أو (علي الأقل مماثل) للانفجار العظيم كامل الأدلة التجريبية المتاحة حالياً، وأن الأدلة الرصدية في الواقع لا تدعم نموذج الانفجار الكوني العظيم فوق بعض هذه النماذج المنافسة له.
مثالٌ آخر من البيولوجيا؛ أحد الادعاءات الرئيسية لنظرية التطور السائدة حاليًّا التي يقبلها غالبيّة علماء الأحياء (الداروينية الجديدة Neo-Darwinism) هو أن الصفات المكتسبة لا يمكن أن يتم توريثها. هذا الادّعاء هو حقيقة فقط بالنسبة للداروينية الجديدة وليس حقيقة مطلقة. في الواقع الأدلة التجريبية الحديثة تدحض هذا الادّعاء، الصفات المكتسبة يمكن في الواقع توريثها عبر عدد كبير من الأجيال (Transgenerational epigenetic inheritance).
ادّعاء رئيسيّ آخر لنظرية التطور السائدة حاليًّا هو أن الطفرات أو التغيرات الجينية تحصل بشكلٍ عشوائيّ؛ أي أنها تحدث بغض النظر عن احتياجات الكائن الحي، هذا الادعاء هو أيضًا حقيقة فقط بالنسبة لنموذج الداروينية الجديدة، لكنّه في الواقع ليس حقيقة مطلقة. هناك الكثير من العلماء الذين يجادلون الآن بأنّ الأدلة التجريبية الحديثة تؤكّد أنّ أغلب التغيّرات الجينية في الواقع ليست عشوائية بل غائيّة ولها أهداف (Directed mutagenesis).
في المستقبل قد تتراكم الكثير من الملاحظات التجريبية التي تتعارض مع الداروينية الجديدة فيتخلّى علماء المستقبل عن الداروينية الجديدة ويبحثون عن نموذجٍ آخر لتفسير كيفية حدوث عملية تطور الكائنات.
في الواقع يوجد في الفترة الراهنة علماء كبار (وهم قلة الآن) مثل (James A. Shapiro: عالم جينات وميكروبيولوجي من جامعة شيكاغو) و (Denis Noble: عالم فيسيولوجي من جامعة أكسفورد) ينادون بضرورة الاستغناء عن نموذج الداروينية الجديدة واستبداله بنموذج تطوريّ جديد يسمى (التطوّر بفعل الهندسة الوراثية الطبيعية Evolution by Natural genetic engineering).
لأن حسبهم فالأدلة التجريبية الحديثة تناقض كل افتراضات الداروينية الجديدة (التغير الجيني ليس عشوائيًّا في الغالب، التطور لا يحدث في الغالب بالتدريج كما تفترض الداروينية الجديدة {Gradualism}، بل يحدث بالقفز {Saltationism} أي أنّ التغيّرات التطورية تحصل بشكل سريع في زمن قصير بالنسبة للوقت التطوري، الصفات المكتسبة يمكن توريثها عبر الأجيال، لا يوجد دليل أن الانتخاب الطبيعي هو القوّة الأساسية المحرّكة لمعظم {وليس كل} التغيرات التطورية الكبيرة كما تفترض الداروينية الجديدة، أغلب حمضنا النووي ليس خردة بلا وظيفة كما تفترض الداروينية الجديدة) أما نموذجهم الجديد فمتفق مع هذه الأدلة التجريبية الحديثة.
بل ويتهمون المناصرين للداروينية الجديدة بأنّهم يتجاهلون إلى حدٍّ كبير في كتبهم الشعبية والأكاديمية عن التطوّر هذه الأدلة التجريبية الحديثة مثل جيري كوين وكتابه: لماذا التطور حقيقي؟ ودوجلاس فوتوياما ومارك كيركباتريك والإصدار الرابع من كتابهما: التطور. وريتشارد دوكنز وكتبه: الجين الأناني، صانع الساعات الأعمى، النمط الظاهري الموسع. وهذا يذكرك بالنقطة الأولى في هذا المقال وهي أن غالبية العلماء الذين يناصرون النماذج السائدة في العلم عادة ما يتجاهلون الأدلة التجريبية التي تتعارض مع افتراضات هذه النماذج السائدة.
قد يتزايد في المستقبل عدد العلماء الداعمين لنموذج التطور بفعل الهندسة الوراثية الطبيعية؛ فيحدث تحوّل في النموذج ويصبح هذا النموذج هو النموذج التطوريّ السائد ويتم الاستغناء عن نموذج الداروينية الجديدة. وقد يصبح حتى نموذج التصميم الذكي (نموذج معتمدة علي وجود عقل أو ذكاء مستقل عن الكائنات الحية يقوم بعملية تطويرهم، ولا يشترط هذا النموذج أن يكون هذا العقل أو الذكاء إله أو كيان فوق طبيعي بالضرورة) هو النموذج السائد في المستقبل . كُل شيء ممكن، النظريات السائدة حاليًّا ليست استثناء مما حصل مع النظريات السائدة في الماضي، والتاريخ يكرر نفسه غالباً .
مثال ثالث؛ حسب النظرية النسبية لأينشتاين، فالجاذبية هي انحناء الزمكان. هذا التصور عن الجاذبيّة ليس حقيقةً مطلقة أيضًا، بل هو حقيقة فقط بالنسبة للنظريّة النسبية. بعض الناس ستظن أنّه من المستحيل أن تكون النظرية النسبية لأينشتاين خاطئة.
هذه النظرية اجتازت كل الاختبارات التجريبية بنجاح، وفسّرت لنا العديد والعديد من الملاحظات التجريبية وأعطتنا تنبؤات متفقة تمامًا مع الملاحظات الرصدية.؛ تنبأت بوجود موجات الجاذبية ، وتم رصد هذه الموجات بالفعل والعلماء الذين قاموا برصد هذه الموجات حصلوا على جائزة نوبل في الفيزياء عام 2017، تنبّأت بوجود الثقوب السوداء أيضًا، وتم منح جائزة نوبل في الفيزياء عام 2020 لعلماء عملوا على فهم الثقوب السوداء.
مع ذلك في المستقبل قد تتراكم ملاحظات تجريبية شاذّة تعجز النظرية النسبية عن تفسيرها وقد نكتشف أن هذا التصور عن الجاذبية ليس صحيحًا. قد تكون هذه أول ملاحظة تجريبية شاذّة، في عام 2021 قام 400 عالم من 25 مؤسسة أكاديمية في سبع دول برسم أكبر خريطة مفصّلة لتوزيع المادة المظلمة في الكون، ووجدوا أنّ هذه الخريطة لا تتوافق مع تنبؤات النظرية النسبية لأينشتاين.
علّق في إذاعة (BBC) أحد العلماء المشاركين في رسم الخريطة: ”لو هذه الخريطة صحيحة، فأينشتاين ربما يكون مخطئًأ“، علّق آخر: ”لقد أمضيت حياتي في العمل على هذه النظرية ويخبرني قلبي بأنني لا أريد أن أرى انهيارها، لكن عقلي يخبرني أن القياسات كانت صحيحة، وعلينا النظر في إمكانية وجود فيزياء جديدة“.
هذه النتائج ليست مؤكدة، لكنها تخبرك بأنّ هناك احتماليّة أن تكون النظرية النسبية خاطئةً عاديٌّ جدًا، لو تراكمت المزيد والمزيد من الملاحظات التجريبية الشاذة التي تعجز النظرية النسبية عن تفسيرها قد يتم استبدالها في المستقبل بنظرية أخرى تَصوّرها عن الجاذبية مختلف تمامًا عن تصوّر أينشتاين (الجاذبية=انحناء الزمكان) ويصبح صاحب هذه النظرية هو أينشتاين المستقبل. كما كان تصور أينشتاين عن الجاذبية مختلف تمامًا عن تصوّر نيوتن (الجاذبية=قوى غير مرئية بين الأجسام).
وتفسّر لنا هذه النظرية الجديدة هذه الملاحظات التجريبية الشاذة، بالإضافة لكل الملاحظات الأخرى التي تدعم النظرية النسبية من خلال تصوّر مختلف تماماً عن الجاذبية (كما فسرت النسبية كل الملاحظات التجريبية التي فسرتها نظرية نيوتن مثل حركة الأقمار حول الكواكب، بالإضافة لملاحظات شاذة عجزت نظرية نيوتن عن تفسيرها مثل حركة كوكب عطارد) وتصبح هذه النظرية الجديدة هي النظرية السائدة.
فباختصار الإجماعات العلمية والنظريات السائدة في أيّ عصرٍ من العصور قد تتعرّض للتغيّر والاستبدال مع الزمن. لأنها مجرد تصورات نسبيّة عن الطبيعة فقط، حتى إن كانت هذه النظريات ناجحة تجريبيًا في تفسير بعض الملاحظات أو ناجحة في التنبؤ ببعض الأشياء المتوافقة مع الأدلة الرصديّة [13].
يُعَد كتاب توماس كون واحدًا من أكثر الكتب تأثيرًا في تاريخ فلسفة العلم، وكذلك أكثرها مبيعًا. فمنذ نشره تم بيع أكثر من مليون نسخة من بنية الثورات العلمية، وتُرجِم إلى حوالي 16 لغة مختلفة. لابد أن يدرسه أيّ طالب فلسفة علوم في الجامعة. وقد أحدث ثورة في فهمنا لكيفية حدوث التغير العلمي.
إضافة تعليق جديد