أدونيس: الحضور الغائب
– 1 –
نبدو، نحن العرب، أنّ لنا ” حضوراً ” قويّاً في العالم كلّه، على مستوى “الصّورة “، ونبدو في الوقت ذاته، أنّنا في غِيابٍ عن العالم كلِّه، على مستوى ” المعنى “.
وربّما سأكون أكثرَ دِقَّةً لو نَوَّعْتُ التّعبيرَ عن هذه المُشكِلة، فقلت مثلاً، بطريقةٍ أخرى:
نتقدّم نحن العرب، أو يتقدّمُ بعضٌ منّا باسمِنا جميعاً، في ابتكارِ فنٍّ جديدٍ هو فنُّ الغياب: غيابُ ” حقيقتِنا ” بحيث لا يبقى منّا إلاّ ” اسمُنا “.
وإلى أن يكْتَملَ هذا ” الغياب “، يُمضي بعضُنا الآخرُ، باسمِنا جميعاً أيضاً، في الإقامةِ تحتَ سقفِ بيتٍ سياسيٍّ ” واحد ” ـــ نادبين، نائحين:
البيتُ السّياسيُّ العربيّ الواحد !
ما أجملَه ! ما أكبرَه !
ولا يخطرُ لأيٍّ منهم أن يسأل: أين ينهضُ، عملِيّاً، هذا البيت؟
هل لهُ أسُسٌ حقّاً؟ وما هي في الواقِعِ، في العمل؟
ـــ 2 ـــ
غيرَ أنّ المشكلةَ في هذا المَسار ليست في ” النّهاية “. إنّها، على العكس، في ” اللانهاية “. الغيابُ مُتواصِلٌ، وهو يرتبِطُ عُضويّاً بكَوْن النّهاية هي نفسُها لانهاية ـــ إلاّ إذا أمكنَ القيامُ بثورةٍ ( صار هذا الاسمُ شديدَ الالتباس) ـــ إنسانيّةٍ حقّاً، أعني ثورةً لا يكون مَدارُها الغزْوَ، نَهباً، وقَتلاً، وتدميراً. بل يكون أساسُها الفَصلُ الكامِلُ بين ” الدّنيا ” و ” الآخرة “، لكي يمكنَ إعطاءُ كلٍّ منهما حقوقَها الخاصّة.
ـــ 3 ـــ
” الحُسّادُ مناشيرُ لأنفسِهم “: كلمةٌ مأثورةٌ لمفكِّرٍ عربيٍّ، قديمٍ ومجهول. بعضُ الباحثين الجُدُد يحاوِلون أن يقوموا بإحصاءٍ ” أنتروبولوجيّ ” لهذه
” المَناشير “، لكن عبثاً. ويفسِّرون ذلك بأنّ الفردَ العربيّ لا يحزن لِما ينزلُ به من الشرّ فقط، وإنّما يحزن كذلك لِما ينالُه غيرُه من الخير.
استطراداً، أحبُّ هنا أن أنقلَ للقارىء خبَراً رواه أبو حيّان التّوحيديّ في كتابه ” البصائر والذّخائر “، قال ” إنّ شخصاً اسمُه عبد العزيز بن دُلف، دعا بجاريةٍ له كان يرى الدّنيا بعينها، فضربَ عنقَها. فقيل له : لِمَ فعلْتَ ذلك؟ فقال: مخافةَ أن أموت في حبِّها، فتبقى هي بعدي، تحت غيري.”
ويعلِّق التّوحيديّ، قائلاً: ” هذا نمَطٌ من الجنون “.
غير أنّ العربيّ الحديثَ سيكون تعليقُه مُخالِفاً على الأرجح، وسوف يقول مُعَلِّقاً: هذا نمَطٌ من الفحولة !
ـــ 4 ـــ
ـــ نعم، أعرف أشخاصاً ” يبلغون من العمر، قبل وصولهم إلى
الشّيخوخة، عشرةَ قرون ” : هذا ما قالَه مرّةً، الشاعر الفرنسيّ هنري ميشو.
لهذا الشّخص وأمثالِه القدرةُ العجيبة، نفسيّاً وعقليّاً، على الاعتقادِ بأنّ للقمر رأساً وذيلاً، وبأنّ للشمس قدَمَين ونهدَين.
ــ 5 ــ
إنّها لحظةُ الثّقبِ الأسود، لا في الثّقافة العربيّة وحدَها، بل في الثّقافة الأميركيّة ــ الأوروبّيّة أيضاً. ولا في الحياة وحدها، بل أيضاً في النّفس والعقل.
تقول هذه اللحظة :
الدّيمقراطيّات، حقوق الإنسان، الحريّات،
هي المَهازِلُ الثّلاثُ الكُبرى
على مسرحِ السّياسةِ الحديثة، في هذا العالَم الذي يُهَيْمِنُ عليه الغربُ
الأميركيّ ــ الأوروبّيّ.
إنّه مسرحٌ ــ طريقٌ طويلة ــ أوّلُها يحيا العَدْل،
وآخِرُها: يحيا القتل !
ــ 6 ــ
أين تكمن جوهَرِيّاً، هويّةُ الإنسان، في منظور السّياسة الأميركيّة ــ الأوروبّيّة:
في ما يَقْبَلُه،
أو في ما يرفُضُه،
أو في ما يبتكِرُه؟
هل يصحُّ هذا السّؤال في بلدانٍ كمثلِ البلدانِ العربيّة يكادُ كلُّ فردٍ فيها أن يعيشَ في جِلدٍ ليس جلدَه الحقيقيّ؟
وهل الإنسانُ، في مثل هذه البلدان، مَقودٌ في كلّ لحظة من لحظات حياته، إلى أن يكون مُتَناقِضاً مع نفسه، أو أن يكونَ نفسَه ونقيضَها
في آن؟
شَرارة
كنتُ أظنُّ مثلكَ يا صديقي، أنّ الدّاءَ القديمَ يُمكِنُ أن يشفيَه دواءٌ جديد.
يبدو، حتّى الآن، أنّه ظنٌّ خائِب.
الضّوْءُ الذي أبحَثُ عنه لا يزالُ مُعتَزِلاً في مَلْجَأٍ شبهِ آمِنٍ.
أحياناً تزورُه الشّمس
في طريقِ طلوعِها من بَحرِ المَشرِقِ،
مُبَلَّلةً بماءٍ موحِل.
ريحٌ لا تستطيعُ أن تحملَ على كتفيها ريشةً واحدةً من جَناح التّاريخ،
غيرَ أنّها تستطيعُ أن تقتَلِعَ جبالاً وغابات.
ما أجملَ قدمَ الشّمس ـــ هذه اللّحظة !
كم هي ثقيلةٌ على عنقِ الغولِ الذي يسبَحُ
هانئاً في الحَوْضِ الخاصّ،
الذي تستأْثِرُ به السَّماء.
لكن لماذا، أيّتها الشّمس، كلّما شاهَدْتُ على الورق كلمة ” أميركا ” أو كلمة ” مسلم ” تمتلىء عيناي بالمَوتى؟
عفواً، يا أهْدابي،
لا أستطيع أن أرُدّ عنك غبارَ المقابِر.
أيّامُنا مَحاريثُ
تحرثُ حقولَ الدّم.
يُريد، ( هو، هو نفسه،)
أن يُهاجِرَ، أن يقطعَ البحرَ ولو في سفينةٍ من الورَق.
لُطفاً بالأشرعةِ، يا ريحَ البحر.
أدونيس: أثر
إضافة تعليق جديد