ماذا عن الميتافيزيقا اليوم؟
- موسى وهبه
ماذا عن الميتافيزيقا اليوم؟ أيّ ميتافيزيقا لهذا العصر؟ ما المشكلة مع هذه الملكة المخلوعة عن عرشها؟ أي مقصد يملي كلَّ هذا النعف؟ ما العمل أمام كلّ هذه الميتات؟
أسئلةٌ ما فتئت تراودني من ثلاثين ونيّف، منذ معاقرتي المتّصلة لنصوص فلاسفة العصر المنصرم ( هل ينصرم حقًّا؟)، وبخاصةٍ فلاسفة النّهايات وما يروّجون له من نهاية الميتافيزيقا...نهاية الفلسفة...موت الانسان...موت الذّات...ما بعد الحداثة...الخ.
وما يقترحون من بديلٍ، مثال: فلسفة الحياة...فلسفة اللغة...الهرمينوطيقا...تحليل القول العلمي. هذا في جانب. ونقد المنطق والعقلانيّة...الصّمت عن الأسئلة المقلقة...النَّشيد الخلاصيّ...التفكيك...في جانبٍ آخر.
لكن، نلاحظ، منذ قليلٍ، عودةً خجولةً الى الميتافيزيقا أو الى ما يشبه...وأحيانًا الى بعض صورها السابقة، مثال الأنطولُجيا التحليليّة.
قد يستحقُّ الأمرُ دراسةً تفصيليّةً، تأريخًا موثَّقًا، مع التوقُّف عند هيغل وهيدغر والفلسفة التحليليّة. لكنّ هذا ليس مقصدي الآن. وسأكتفي بالعبور من دون التّوقُّف الّا قليلًا في المطلوب اليوم.
أقول: الميتافيزيقا صارت مشكلةً فلسفيّة مع كنط إثر نقد العقل المحض، وابتدأ رذلها مع فيشته، مرورًا بهيغل، ليكتمل مع هيدغر ومن جرى مجراه.
١-من كنط الى نتشه
١.١- يشكّل كنط منعطفًا حاسمًا في ما نحن بصدده الآن: فهو من أنهى كلّ دعوى ميتافيزيقيّة بمعرفة نظريّة لما يتخطّى شروط التجربة ( نظريّة بمعنى يمكن إثباتها بالتجربة أو التّأكّد من صدقها). فأسئلةٌ من نوع: هل النّفس خالدةٌ أم فانيةٌ؟ هل الكوسمس متناهٍ أم غير متناهٍ، وهل تحكمه الحتْميّة المطلقة، أم ثمّة عليّة حرّة؟ هل الله موجود؟
أسئلةٌ من هذا النوع، وعلى الرّغم من أصالتها، لا يمكن الإجابة عنها نظريًّا، لأنّ الإجابة المرجوّة تتخطّى قدرة العقل البشري النّظريّ.
الخلاصة: الميتافيزيقا الكلاسيكيّة برمّتها تتهاوى كنصّ، إلّا أنّ مطالبها، إلّا أنّها كرغبة عليا باقية وملازمة لطبيعة العقل: وهذا ما يفسّر كون تاريخها مسرحًا لصراع الجبابرة، ساحة حربٍ فعليّة، إنّما بالكلمات؛ والرّهان ليس أقلّ من انتزاع عرش الأقاويل جميعًا، وربّما ليس أقلّ من تغيير العالم ( ماركس يغفل عن هذه في قولته الحادية عشرة عن فويرباخ).
قوّة النّقد الكنطيّ تعتّم لاحقًا على إعطائه أماثيل العقل النظريّ دورًا تنظيميًّا للمعرفة، وعلى اقتراحه ميتافيزيقا عمليّة قوامها جملة فروض تؤمّن السلام في جمهوريّة العقل.
٢.١-هيغل يُحسّ بالضيق نفسه من خراب الميتافيزيقا. يوافق كنط على نقده أقاويلها وإصراره على المطالب. لكنّه يرى أنّ كنط ما زال في كنف ما انتقده، ولم يستطع دفع ما بدأه حتّى نهايته المنطقيّة، لم يدرك أنّ ما سيأخذ على عاتقه مهام التّصدي للأسئلة القديمة هو "علم المنطق". فعيب الميتافيزيقا القديمة هو المنهج التفكّري الذي يبقى ثنائيًّا ويحرن أمام التّناقض، فيظلّ قاصرًا عن الارتقاء الى فهم نسخ التّناقض بتحقق الأمثول (die Idee)، إذ يقوم على الفصل الثابت بين الذات والموضوع، بين الكون والتّفكير، بين ما هو كائن وما يجب أن يكون.
مع هيغل ومن لحق به أو تأثّر، صارت الميتافيزيقا تهمةً يُقذف بها الخصم، وتعني عنده الفصل الثّنائي، ومعه يناقض المنهج الجدليّ والتّاريخي المنهجَ الميتافيزيقيَّ. وهذا يصحّ على ماركس وأوغست كومت الذي حسب الميتافيزيقا عمرًا انقضى من أعمار العقل لصالح العمر العلميّ، بعد أن كان عمرها قضى بدوره على العمر اللاهوتيّ. ويصح ذلك أيضًا على نتشه وإن بدرجةٍ أقلّ.
٣.١- نتشه يحسب الميتافيزيقا تعبيرًا عن توق العبيد الى الإمرة، وذلك بفصل السّماء عن الأرض، واعتماد ثنائيّة الخير والشّر، وتأبيد مُثُل العبيد. الميتافيزيقيّ قاتل. الأفهوم يقضي على الحيّ ويحيله الى جثّة، وصولًا الى العدميَة. ويقترح نتشه فلسفةً للمستقبل تعتمد منهج البحث عن الحسب والنّسب ( الجينولُجيا) والتّفلسف بالمطرقة. وفي مواجهة كلّ "وضعيّة" ممكنة، يضع العلماء وموضوعيّتهم في خدمة فيلسوف المستقبل وذاتيّته.
٢-أوان التّحليل
١.٢- النّيّو-كنطيّون يتابعون كنط مخلَّصًا من الميتافيزيقا، أي هم يزمّون الكنطيّة الى مجرّد إبيستمولُجيا. ويُعمِّمون رفض الميتافيزيقا بما فيها الرّواسب الميتافيزيقيّة عند كنط نفسه ( وأوّلها الشّيء فيّاه).
٢.٢- الوضعيّة المنطقيّة وعموم الفلسفة التّحليليّة، في مرحلتها الأولى، تُفتي لجهة استبعاد الميتافيزيقا من القول الفلسفيّ بوصفها كلامًا خاليًا من المعنى. وفي مرحلتها الثانية تهتمُّ بالأنطولُجيا والميتافيزيقا بمعنًى ما.
١.٢.٢- الهدف من كرّاس فتغنشتاين: لا أن تُقال حقيقة العالم، بل أن يُحدَّد ما هو قابل لأن يُفكّر فيه، أي لأن يُعبَّر عنه باللغة. وحدها عبارات العلم، صادقة كانت أم كاذبة، تُلبّي هذا الطلب. أمّا تحليل قول الفيلسوف فيبيّن السّمة الموهمة لاستعمال اللغة حين يزعم الذّهاب الى ما بعد الوصف العلميّ الحقّ للوقائع. وعن التّركتتوس يحفظ السّلف حكمة الختام: " حول ما لا يمكن قوله، ينبغي لزوم الصّمت".
كرناب: " الأقاويل المبثوثة في الميتافيزيقا خالية تمامًا من المعنى" ولا دلالة حقّة لها لأنّها لا تلبّي الشّروط الدّلالية والإبستميّة اللازمة لتأدية المعنى ( لا تحيل الى أي مشاهدة ممكنة، ولا نعثر لها على تأييد في التجربة(.
وبعامة، ما النّفع من التّساؤل إن كانت الطّاولة، مثالًا، موجودة بذاتها أم كانت مجموعة من جزيئات بسيطة. وأي معنى يستفاد من القول: "العدم يعدم". إنّ نزاع الميتافيزيقيّين حول وجود العالم الخارجيّ أو ثنائية الرّوح والجسد نزاع لا طائل تحته. والأهمّ من كلّ ذلك أن هذه المسائل يترك البتّ بها للإعتقاد.
٢.٢.٢- لكنّ تنبيه بوبر الى أنّ العلوم نفسها تستند الى عبارات أساسيّة (مبادىء) هي نفسها " لا تُلبّي الشروط الدّلاليّة والإبستيميّة اللازمة لتأدية المعنى"، أسهم، إضافةً الى النّقد اللاحق، بعودة مدارس التّحليل الى تبنّي نوع من الأنطولُجيا والميتافيزيقا، إنّما بمعنى قبل-نقديّ: الأنطولُجيا (١) تقول الكائن، أي تعدّ جدولًا بأثاث العالم/ أو (٢) هي تهتمّ بمجمل ما هو ممكن؛ والميتافيزيقا (١) تقول ما هو الكائن، أي تُعيّن ماهيّة الكيانات التي أثبتت وجودها/ أو (٢) هي تهتمّ بما هو فعليّ وراهن.
٣- أوان هيدغر
هوسرل يفتتح القرن العشرين بمباحثه المنطقيّة متجنّبًا حلبة الصّراع الميتافيزيقي، فالفيمياء تُعلِّق الكلام على الميتافيزيقا بانتظار الانتهاء من مشروع تحليل بنية الوعي القصديّة. لكنّها تقترح، حيث لا يمكن إغفال ما لا بدّ منه، أنطولُجيا صوريّة.
٢.٣- هيدغر ينطلق من فيمياء هوسرل بنظرة أخرى الى الإنسان، لا بوصفه وعيًا أو ذاتًا عارفة ( وعيانًا) بل بوصفه موجودًا، بوصفه هوذيّة فِعْلميّة ( قائمة في العالم). يكشف تحليل هذه البنية، بالتّالي، أواجيد لا أفاهيم. ذلك أنّه تحليل انتروبولُجي مجاوز وليس تحليلًا منطقيًّا، والمشروع إقامة أنطولُجيا أساسيّة بدلًا من الميتافيزيقا القائمة منذ البدء على نسيان الكون ونسيان هذا النّسيان، بالانصراف الى الانهماك بالكائن أو معاملة الكون بوصفه مجرّد كائن وإن أسمى. ويحاول هيدغر تعزيز مساره الجديد انطلاقًا من تأويله ل نقد العقل المحض، وعدّه، في معارضة النّيّو-كنطيّة، تأسيسًا جديدًا للميتافيزيقا أو لما يُسمّيه هو أنتروبولُجيا.
نقرأ، في الكون والزّمان: "الميتافيزيقا هي المستقبل الأساسي ضمن الهوذيّة إيّاها". والانسان هو الكائن الوحيد الذي يمتلك، في الأصل، وعيًا يقظًا بالكون. إنّه دفعة واحدة، هوذيّة، انفتاح على الكون في ما يتعدّى الكائن.
لكن هيدغر لا يلبث أن يلحق بركب التبرُّؤ من الميتافيزيقا، إنّما مع عدّها قَدَرًا لمرحلة من تاريخ الكون قضت بأن يظلّ الكون منسيًّا. وبعد مطلب تخطّي الميتافيزيقا التي يحسب أنّ نتشه كان آخر ممثّل لها، بأفهوم التوق الى الإمرة، وصيغته العدميّة المطلقة: التوق الى التوق، التي تُتَرجم بهيمنة التقانة على العالم، وربما لزمنٍ طويل؛ بعد رصد انتهاء الميتافيزيقا، بمعنى استنفاد إمكاناتها كلّها، يُطلب إهمالُها والإصغاء الى نداء الكون الآتي ولا بُدّ: " وحده إلهٌ يمكن أن يُنقذنا".
٣.٣- بعد هيدغر يستمرّ رذل الميتافيزيقا في صفّ الفلسفة وصولًا الى دريدا، مع ملاحظة عودة حييّة للكلام على الميتافيزيقا. أو للكلام على الأنطولُجيا في الفلسفة التّحليليّة.
٣.٣.٣- دريدا أراد أن يُكمّل هيدغر استنادًا الى حدث العصر: اللسانيّة البنيويّة التي تحرّر الكتابة من وصاية القوليّة، من حيث تُهمل القائل لتنظر الى اللغة فقط بوصفها سستام علامات متعيّن في علاقات متبادلة ضمنيّة ( وليس في الإحالة الى مدلول خارج اللغة). يرى دريدا هذا الحدث اللسانيّ علامةً على التحرّر من "الحضور" ومن "الذات"، علامتي الميتافيزيقا الرّئيستين: الميتافيزيقا تطمس الفرق ( الاختلاف) بين الكون والكائن، تطمس الاختلاف كتزمُّنٍ انوجاديٍّ، تطمس الاختلاف كشرطٍ للمعنى. وتُحِل محلّ الإختلاف والإخلاف حضور مبدأ أساسيّ هو الجوهر، كمدلول مجاوِز، وتُحِل محلّ الهوذيّة الانوجاديّة جوهريّة الذات".
٢.٣.٣- هبرماس يحسب أنّ الميتافيزيقا تقوم على عصفٍ مثلّث: أوّليّة نمط العلاقة بين الذات والموضوع، أوّليّة القول الجملي بصدد الواحد والكلّ، أوليّة النّظر على العمل؛ ويرى أنّه من اللازم، في مواجهة اللاعقلانيّة المعاصرة( يسبرز وهيدغر وفتغنشتاين ودريدا وأدورنو)، لا استعادة الميتافيزيقا العقلانيّة بل استبدالها بعقل تواصلي يشارك في الطفرة العقلانيّة المعاصرة في مجتمعاتنا الحديثة.
٤- إمكان الميتافيزيقا؟
وبدءًا ما الميتافيزيقا التي يتمّ التّبرُّؤ منها ورمي الخصم بها؟
كيف يمكن تدبّر رسم للميتافيزيقا ضمن هذا التّباين الكبير في مفهوم الإشارة إليها؟ بين كونها علمًا بما بعد الطبيعة، وكونها تحتفظ بكيانات مستعصية على الفهم العلمي. أو كونها تقسم العالم الى ثنائيّات مستعصية على الحلّ، أو كونها كلامًا غامضًا عمّا لا يقع في التجربة، أو كونها مجرّد نسيان للكون والانهمام بالكائن، الى فهمها أخيرًا بوصفها إصرارًا على الذات والحضور وطمس الاختلاف...
خلف هذا التّباين الكبير العائد في النّهاية الى تباين بين ميتافيزيقا الفصل وميتافيزيقا الوصل، لا بدّ من ملاحظة القاسم المشترك: الميتافيزيقا علمٌ بموضوعها مع التّباين الفاضح في تعيين ما هو موضوعها.
وفي خضمّ فوضى تراشق التُّهم بارتكاب الحُمُق الميتافيزيقي، أسألُ: كيف نُفسّر عودة هذه العائدة بخطًى حثيثة تحت راية التّحليليّة بأسماء ملطَّفة، أو تلك التي تخصّص لها مشاغل وكراريس منذ عشرٍ ونيِّف؟
٢.٤- وأسأل: هل الميتافيزيقا ممكنة اليوم، وكيف تكون ممكنة؟
وأبدأ الإجابة بالقول: ليست الميتافيزيقا، في الأصل، قدَرًا للعقل البشريّ، بل لحالة مخصوصة من أحواله، هي الحال الفلسفيّة. ومن الأسلم أن يُقال إنّ ما لا غنًى للعقل البشريّ عنه هو إضفاء المعنى على السّعي البشريّ بعامة، وإنّ هذا الإضفاء ممكنٌ بأشكال عدّة مبدئيًّا.
١.٢.٤- لكن، مع هيمنة الميتافيزيقا على المعمورة قاطبةً أضحى التّفكير الميتافيزيقي لا غنًى للعقل البشريّ عنه.
٢.٢.٤- ولا غنًى من ثمّ للتّفكير بالعربيّة عنه إن شاء أن يعطي للسّعي البشريّ في العالم المعاصر معنًى، يلبّي الحاجة التي تلوب بالعقل ويلوب بها.
٣.٢.٤- وعليه، أقول: الميتافيزيقا ممكنة بدليل المحاولات الخجولة للعودة اليها، بل هي واجبة اليوم بدليل الحاجة اليها.
٣.٤- فكيف تكون ممكنةً؟ وأيّ رسم يمكن تدبّره في هذا الخضمّ؟
- الميتافيزيقا ليست علمًا بالمعنى المتعارف عليه. وليست علمًا نظريًّا ( بلغة كنط)، فهي لا تخبر شيئًا عن موضوعها. ولا تضيف معلومات وإن كانت في جانبٍ منها تشير الى وجهة تنظيم هذه المعلومات. وهي لا تقول في الأحوال جميعًا: إنّ هذا هكذا. وهي في جانبها الأساسيّ اقتراح حلولٍ ممكنة لمعضلات مطروحة على العقل في مختلف ملكاته.
قوام هذا اقتراح جملة من المزاعم لإخراج العقل البشريّ من مأزقه، لتخفيف وطأة إرهاق الأسئلة التي تطرحها عليه طبيعة العقل نفسه، لمعالجة انهمامه (seine sorge) إن جاز القول.
وأتدبّر، بالمناسبة، فهمًا آخر، رسمًا آخر للميتافيزيقا، فأحسبها لا علمًا بالكائن بما هو كائن، ولا سأْلاً عن الكون، ولا مبحثًا في الغيبيّات، ولا تلك الشّجرة الوارفة الظل، بل أقول هي بالأحرى جذع تلك الشّجرة، وجذورها المخفيّة في الأرض، إن صحّ لنا استثمار الاستعارة الديكارتيّة مرّةً أخرى.
أقول: الميتافيزيقا هي سِستام المزاعم اللازمة للعقل البشريّ في مواجهة انهمامه بالأسئلة التي تطرحها عليه طبيعة العقل؛ أو تلك الفروض التي تسند القول في ما وراء الفيزيقا ( بوصفها عالم التجربة بما فيه السّعي النّظريّ والعمليّ
والتّخيّليّ). وعليه يمكن تمييز:
١.٣.٤-مجموعة الفروض المعلنة المصوغة أو التي يمكن صوغها في سِسْتام، مثال ميتافيزيقا ديكارت أو ليبنتس أو سواهما.
٢.٣.٤-من مجموعة الفروض المعلنة بوصفها بديلًا عن الميتافيزيقا، مثالًا: الأمثول والعلمان المطلق عند هيغل، والتَّوق الى الإمرة والعود الأبدي للهوهو عند نتشه، ولزوم السؤال عن الكون وقصور المنطق وتفكير تاريخ الكون في انكشافه واحتجابه عند هيدغر، الخ، بمعنى أنّ ثمّة دومًا ميتافيزيقا تخجل باسمها تنازل ميتافيزيقا أخرى في حلبة " صراع الجبابرة".
٣.٣.٤-ومن مجموعة الفروض المضمرة التي قد تندرج ضمن سِسْتام يعبِّر عن مذهبٍ ما في القول، أو عن روحٍ تشكيلة ثقافيّة ما، ويعبَّر من خلالها، مثال فروض التّفكير اليوناني المضمرة: ما يبدأ ينتهي، الشّبيه لا يُدرك الا الشبيه، الدائرة أكمل الأشكال، البشر أحرار أو عبيد،..الخ. والمعنى أنّ الميتافيزيقا قائمةٌ أبدًا خلفَ كلّ تفكيرٍ له سمة الشّمول.
٤.٣.٤- وحين يجرُؤ العصر على صوغ مزاعمه المضمرة والمعلنة ويعترف بها كمزاعم لازمة لسلام العقل في عالم اليوم السُّوقي والدّيجيتالي، ويكون بالوسع إدراجُها في سستام بدعوى يونيفرساليّة يكون لدينا ميتافيزيقا للعصر
٥- بالعربي اليوم
أمّا بالعربيّة، واليوم، فلا أفهم هذا الغضب المعمّم من الذات والوعي. لا أفهمه لكنّي أرى حصيلته: تخليص التّفلسف من الذّاتيّة ( العزيزة على نتشه) ليصير صالحًا للخدمة في بلاطٍ ما.
ولا يروقني اليوم، كذلك، هذا الرذلُ المعمَّم للميتافيزيقا وكأن ليس يمكن قيام ميتافيزيقا الا كميتافيزيقا جواهر.. ولا هذا الإنبهار بآخر المُوَض" الفكريّة، وكأنّ التفلسف معرض تباهٍ بالأزياء... ولا تلك الإقليميّة القائمة على الانهماك بالإجابة عن سؤال: ما العمل؟ أو ما أسمّيه وصاية إرادة العَمَلان على إرادة العِلْمَان.
وأودُّ أن أنبِّه الى أنّ العربيّة لم تُستنفَد معانيها بعد، وأنّ ثمَّةَ مجالًا للبحث عن جذور لشجرةٍ وارفة الظلّ، جذور لم تُعلن أو لم تُصنع باعتبارها تحصيل حاصل. وثمّة، على سبيل المثال، جذرٌ أساس لم يكشف عنه بعد ولم يجد له مكانًا في الصياغة أقصد مزعم المثنّى الذي توحي به العربيّة بلا مفرّ، والمثنّى الذي يعامل معاملة المفرد مثال إيّاك وإيّاه أو مثال ثعبان وربّما إنسان:
ربما كان الاثنان، ربّما كان المثنّى غير مناقض للتّفكير. أكثر: ربما كان التّفكير بالمثنّى وتفكير المثنّى المجال الما زال مفتوحًا للخوض فيه. ربما كان ما يزال ثمّة معنى، اليوم، لقراءة أخرى بالعربيّة هذه المرّة، فاتح عهد التّفكير بالمثنّى، وعهد تفكير المثنّى في ما يتعدّى الرّكون الى الوحدة الأصليّة، والتّوحيد الصّائر، والتّناقض الثّنائي والثّالث النّاسخ، وزغاريد الاختلاف والفرق والتعدّديّة والكثرة. ربما كان ما يزال ثمّة معنًى لقراءة عربيّة لميتافيزيقا حداثة يونيفرساليّة حقًّا.
وربما أمكن دعم هذا الزّعم الأنطولُجي بزعمٍ أبيستمي هو القول: إنّ العلم لا يُضادُّه الجهل بل يعضده. فإذا كان على ما يمكن علمانه أن يكون لامتناهيًا واذا كان الجهل هو الإطار المحيط بالعلمان، يصبح من الواضح أنّ جهلنا يتعاظم علمنا. ويضع هذا الزّعم حدًّا نهائيًّا لكل دغمأة وتأسيسًا حقيقيًّا لحريّة التّفكير.
لكنّي أسرع الى القول: لست هنا بصدد إقامة ميتافيزيقا للعصر الحاضر، بل بصدد التنبيه الى إمكان ذلك ووجوبه من ثمّ إن شئنا أن يكون للسّعي في عالم اليوم معنى.
إضافة تعليق جديد