رحلة داخل دولة الخلافة الإسلامية

25-04-2022

رحلة داخل دولة الخلافة الإسلامية

د.سامح عسكر:
كان العنوان الأصلي لهذا المقال "لماذا يحب الشيوخ دولة الخلافة ؟" أو بالأخص "لماذا يتحمس السلفيون لدولة الشريعة؟" فالقصة لديهم عاطفية للغاية ومساحة التعقل فيها نادرة، بحيث لا يتركون لأنفسهم الفرصة للسؤال حول عقلانية هذه الدولة ومدى صدقيتها في أرض الواقع، وقدرتهم أنفسهم على تحقيقها بعيدا عن المعجزات والكرامات والملائكة الذين يهبطون من السماء لمساعدتهم..

يمكن اعتبار أن دولة داعش هي التنظيم الإسلامي الوحيد الذي استعجل الإجابة، وقرر أن يرى بنفسه نتائج هذه الدولة ويعاينها بحواسه كاملة ويتفاعل معها بكل وجدانه وشعوره، ولعلها تجربة للدواعش يمكنها أن تحدث أثرا إيجابيا في نفوسهم من زاوية المعايشة الحقيقية لتلك الدولة والتفاعل معها في الانتصارات والهزائم، ثم تجربة الحكم المثيرة التي أصقلت خبراتهم وأكسبتهم نُضجا لا يتوفر لغيرهم من كافة الجماعات الإسلامية الأخرى، لذا فمن المثير القول أن ما فعلوه الدواعش كان مفيدا لهم على المستوى النفسي والعقلي، وهزيمتهم التي لحقت بهم في كل أرضٍ دخلوها صدمتهم بشكل مبالغ فيه، حيث صاروا مُخيرين بين قبول الخلافة التي صدّقوها في عقولهم وظل شيوخهم يناظرون من أجلها عقودا وسنوات وبين الذي حدث في الواقع

صدمة سيظل فقهاء السلفية والدواعش يجتهدون في تفسيرها سنوات، فهم لا يريدون تصديق العلمانيين في أن رؤاهم عن الدولة والحكومة كانت صحيحة، وأن كل تجارب الحكم الديني ستفشل ، وأنه يستحيل تطبيق دولة الخلافة والشريعة في عصر الصورة والعلم والتكنولوجيا والمدنية والحضارة ، فالموت أهون عليهم من تصديق علماني ظلوا يكرهونه عقودا وسنوات بل وصل الحال ببعضهم إلى التنمر على كل مفكر علماني ومعايرته بجهله وغباءه كما يظنون، والموت أهون كذلك عليهم من تصديق أن شيوخهم الذين قدسوهم وعشقوهم سنوات وعقودا كانوا أغبياء للحظة واحدة، أو كانوا جُهّالا بالدين نفسه الذي رسخ لديهم في وعيهم مشاهد الشيخ علي عبدالرازق وغيره من مصلحين الفقهاء وهم يحذرون من دولة الخلافة ، وكيف أنها مصادمة للواقع والدين معا، فهاهو عبدالرازق الكافر الملحد عميل أوروبا والاستعمار سيصير مؤمنا حاذقا ماهرا بكافة علوم الشريعة، وهو والله شعورا أقسى عليهم من سلخ جلودهم أحياء..!

أما لماذا يعشق السلفيون ومعظم الشيوخ دولة الخلافة ، أول شئ شئ يجب أن تعرفه هو دعمهم للخلافة مرتبط مباشرة بطريقة عيشهم في هذه الدولة، فالطبيعي أنهم يحبون أن يكونوا مميزين في كل شئ في الثروة والسلطة والدين واللغة والمذهب والوظائف والمجتمع..إلخ، فكلما كنت أنانيا لديك موقفا عدائيا أو طبقيا ضد الآخر فستميل تلقائيا لمجتمع الخلافة، وهذا ربما من أسرار ميل كثير من الأوروبيين لهذه الدولة حتى جاءوا لها أفواجا من بساتين ومصانع ومتنزهات أوروبا لجحيم صحراء الرقة والأنبار وصلاح الدين، فهم لا يريدون مساواتهم بالغير ويحبون طريقة عيش منفردة ومميزة بالأساس، وأما الدين إذا كان موافقا لهذا الميل منهم فيعزز موقفهم أكثر ويدفعهم لحشد الغالي والنفيس لهذا الهدف..

مما يعني أنه لو كان الفرد منهم متواضعا زاهدا متقشفا عفيفا قنوعا سينظر في هذه الدولة أو يفقد الحماس لها على الأقل، وربما هذا من ضمن أسرار جنوح البعض منهم لجرائم غريبة حتى لم يقرها الفقهاء، فقد استذكرت مقالا لأحد فقهاء الأزهرية وهو ينتقد إلهام شاهين في مسلسلها بطلوع الروح وهو يقول أن جلد شخصية "أم جهاد" زعيمة كتيبة الخنساء الداعشية التي تقوم بدورها إلهام لم يكن هذا الجلد شرعيا، فأم جهاد تجلد النساء وهن واقفات، بينما الشريعة تقول أن الجلد من الجلوس ولا يقوم بذلك النساء بل رجال هم الذين يفعلون ذلك من منطق القوامة على أمر الشريعة، فمعنى أن امرأة تجلد امرأة أخرى أن هذه المرأة الجلادة زعيمة وقائدة وهذا ممنوع في الشرع فقهيا، وبالحقيقة أن كلام الشيخ نظريا صحيح، لكن الدواعش يفعلون ما لم يأمر به الفقهاء كذبح الناس وتعليق رؤوسهم على الرماح وعرضها في قنوات الإعلام، وبالطبع هذا السلوك الوحشي وإن كان جائزا في الفقه التقليدي لكنه يدخل في باب المُثلة المحرمة شرعا، ويعني التمثيل بالجثث والمفاخرة به..

شئ آخر أن الذي يجذب هؤلاء لدولة الشريعة هو ما تخيلوه في أذهانهم وتصوير كيفية سقوط هذه الخلافة سنة 1924 على يد كمال أتاتورك على أنه (أعظم كارثة دينية وسياسية وفكرية على الإسلام) فالمقابل أن يكون بقاء هذه الدولة هو (أعظم فائدة دينية وسياسية وفكرية للإسلام) وبالتالي فهمنا من تلك المقاربة البسيطة أن مبالغة شيوخهم في تصوير رفضهم وألمهم النفسي وغضبهم من سقوط الخلافة كان محفزا لأجيال لاحقة تتفاعل مع هذا الألم والعذاب وتعمل على مداواته إن أمكن، فصار كل يوم وكل ساعة يقترب فيها المسلمون من دولة الخلافة هو رد اعتبار للآباء والأجداد، وهذا التصور مهم جدا لفهم سيكولوجيا الجماعات وبنيتها من الداخل وكيف يتفاعلون مع الأحداث الدولية، فتكوين هؤلاء الديني متشعب للغاية ومركب جدا حيث يحوي بين نسيجه عوامل دينية وسياسية واقتصادية واجتماعية وفكرية وعسكرية ..إلخ، فلا يجوز التعامل مع هذا الشعور المتشدد منهم ناحية دولة الخلافة من جهة أمنية فقط بل يجب أن يكون العلاج مشتملا على تلك العوامل ويرد على كل سؤال فيها والحذر من تجاهل أي تفاصيل وثغرات قد تؤدي لشكوك ناحية المُعالِج.

إنما يخص ذلك جانب الحماس المبدأي فقط أي هو عارض لجانب الحشد والبروباجاندا الذي يحصره الفقيه داخل مكون الدين لقدسيته، فالداعشي أو عناصر الإسلام السياسي بالعموم لا يقدسون الاقتصاد أو السياسة أو المجتمع بل يقدسون الدين ورموزه، وبالتالي فطريقهم إلى تقديس هذه الأمور يجب أن يحدث من بوابة الدين، لذا قلت في أعمالي السابقة أن الإصلاح الديني هو (بوابة أي إصلاح آخر في السياسة والاقتصاد والمجتمع..إلخ)

لكن توقهم الأساسي وعشقهم الأزلي للخلافة مرتبط بطريقة عيشهم فيها، حياتهم ..مدخراتهم..متعتهم الشخصية وأمانهم الشخصي، عائلاتهم، هواياتهم، حرياتهم ، كل هذه جوانب تشجع هؤلاء على الكفاح ، ومن ذا الذي يرفض أن يكافح من أجل ثرواته ومتعته وحريته؟ فهو لن يشد الحزام كما يتخيل أو يعاني من المجاعة كما يظن، بل سيعيش في رخاء دائم لا ينتهي سوى بالموت، فيكون قد حصل على لذة الدنيا مع الآخرة، وهو تفسيرهم لقوله تعالى " ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى"  [طه : 124] فذكر الله الذي يرتبط شرطيا بدولة الشريعة وحرياته فيها وسيلة مضمونة للسعادة وتحقيق الهدف المنشود في النجاة من الآخرة، لذا تجدهم يرددون مقولة "معا لنصلح الدنيا بالدين" أي تعالوا لنعيش سعداء في الدنيا عن طريق الدين، ومعها فهمنا أن القوم يبغون السعادة الدنيوية في الحقيقة وليس كما يزعمون أحيانا بالتقشف والزهد، فمع أول تجربة حكم لهم في مصر رأيناهم يريدون السيطرة على كل شئ من الرئاسة والبرلمان والقضاء والنيابة إلى الجيش والشرطة والإعلام والشركات..

فكانت فترة محمد مرسي هي العصر الذهبي للإخوان والجماعات في القضاء نهائيا على البطالة النوعية لأفرادهم، حيث جرى تعيينهم في كبرى الشركات والمؤسسات، ورأيناهم يستحدثون مناصب وهيئات ينفق عليها بسخاء "كهيئة كبار علماء الأزهر"

سلوك كان يغير حياة الجماعات للأفضل ويشعرهم بلذة الدنيا المفقودة ، علما بأن من نقل هذا الشعور باللذة المفقودة لم يكن يشعر بتلك اللذة على وجه الحقيقة إنما كان يصدر ذلك الشعور منه جهلا بطرق عيش الآخرين، ولتقريب المثل فالمسلمون بأواخر العصر العثماني لم يكونوا على دراية بأن هناك شعوبا ودولا تعيش أفضل منهم من حيث الطعام والكساء والعلم والتقدم والسلاح..إلخ، كانوا يعتقدون من أثر الدعاية المضللة أنهم الأقوى والأفضل على الإطلاق، وأن الغرب المسيحي والفرنجة يتمنون العيش في شرقهم السعيد، الذي لم يكن سعيدا بل كان كئيبا عليه حواجز خرسانية وستارا حديديا من الفقه يمنعهم من المعرفة ، ويُحرّم عليهم التكنولوجيا والصناعة وكل جديد مفيد، وبأعوان السلطان ومنافقيه كانوا يقنعون الشعب المسلم أنهم نموذج حضاري مميز يتمنى العالم أن يعيشه ..

 وهذا سر من أسرار حروب العثمانيين الكثيرة جدا في أواخر عهدهم، فلو ظن هؤلاء بأنهم ضعفاء ولا طاقة لهم بحرب العالم القويّ لتنازلوا وطلبوا الصلح، لكن حروبهم تعني في مضمونها اعتقادا زائفا بالقوة، ووهما عاشوا بفضل عبقرية تضليل الشيوخ ورجال الدين للحكومة والشعب معا، فأما الحكومة يجري تضليلها بالنفاق والمدح وهي مهنة الجوقة وحملة المباخر من المحيطين بالملك، وأما الشعب فكان يظن أن استقرار دولته علامة صحة حتى لو كانت حياته صعبة فلا يهم، فالشيوخ أوهموه أن فقره هذا من قدر الله فلا يجوز الاعتراض على ذلك الفقر وإلا يصبح ضعيف الإيمان، وما كان يطلبه المسلم في رحاب الخلافة الإسلامية ليس أكثر من بعض اللقيمات التي تسد رمقه وجوعه ، وأما المدخرات فلا توجد إمكانية لتحقيقها، ذلك لأن الادخار يعني وجود فائض مالي على الشعب المسلم وهو لم يكن موجودا طوال العهد الإسلامي، حيث كان ذلك الفائض المالي محصورا للطبقة العليا وبعض من الوسطى، أما الأغلبية الفقيرة فلم يثبت انتقال أحدها أو بعضها لطبقة أعلى بمجهودها سوى أن تترقى في العسكر وينجح بدهاء أحدهم في التقرب للسلطان حتى تتبدل أحواله..

أعتقد لو فطن من يريد الخلافة لهذا الواقع التاريخي المكتوب في كتب التراث وأبصره على حقيقته دون زيف وتضليل من شيوخه سيكره دولة الخلافة، ويتمنى أن يعيش في دولة مدنية تحقق له ما عجز آباءه عن تحقيقه، فأنا أفهم مثلا لماذا يريد أردوجان إحياء خلافة أجداده لأن لديه رغبة للعيش مثلهم (ملكا وأميرا وغنيا) وتكون لديه الحاشية والجواري تحت طاعته، ومال الدولة وفقا لرغبته، وثروات الشعب ملكا له خالصة من دون المؤمنين، لكني أستغرب من فقراء تركيا والإخوان والجماعات وكافة مؤيديه، فهؤلاء لو عادوا لدولة الخلافة التاريخية التي يبشر بها أردوجان سيفقدون كافة مكتسباتهم وتنخفض معيشتهم للغاية، بل سيُساقوا إلى الجندية والموت فداء للأمير وعائلته وحاشيته باسم الإسلام..

تخيل أنه وفي غضون أعوام قليلة كان يأكل أطفالهم طعاما مميزا ويدخلون مدارس مميزة، وهم يتمتعون بالحرية وتكوين الأحزاب والصحف ، ويمكنهم التجارة والمكسب كما شاءوا، لكن في ساعة واحدة يصبح كل هذا غير موجود، فتمنع الصحف والأحزاب ليصبح المتحدث الرسمي هي صحيفة الخليفة وحزب الخليفة، وبدلا من الطعام المميز والمدارس المميزة يأكلون الخبر البسيط والطعام الردئ بعد أن تنحصر ثروات الدولة كلها في أيدي الحكومة وخدام الملك وحاشيته ومنافقيه والمقربين منه، وسوف ينظر الخليفة لأي محاولة تغيير لهذا الوضع على أنها "انقلاب على الإسلام" وزعمائها خوارج يجوز قتلهم باسم الحرابة، وكل من يبرر لهم يسمى مرتدا يجوز قتله حدا وتعزيرا، وكل من ينتقد الملك وحاشيته أو غلاء الأسعار والفقر المدقع هو خائن متآمر على الإسلام تقطع رقبته حدا بعدة تهم مختلفة..

هذا ليس خيالا من عندي بل واقعا عاشته الجماعات في سوريا والعراق، حيث انشقوا لعشرات الجماعات والكتائب بنفس الطريقة، وهي أن يملكهم أميرا واحدا حتى يخطئ مرة وتسوء الأوضاع فيقيم الحد على كل معارض بتهم الردة والانقلاب على الإسلام، وهكذا خرجت داعش من رحم القاعدة، وهكذا خرجت كتائب أخرى من داعش والقاعدة معا ليشكلوا فرقا وأجنادا متحاربين (كلهم باسم الإسلام) ولعلها تجربة بسيطة وسريعة لكيف تسير دولة الخلافة في القرن 21 لذا رأيت أن من عاش تجربة داعش وحكم الخلافة للبغدادي وتلامذته هم أكثر الجماعات نضوجا وسيفقد البعض حماسهم للتجربة بعد الفشل الذريع، فما حذرهم منه العلمانيون صار واقعا دون علم منهم بأنه مستقبل بائس ينتظرهم، وأن شوارع دولة الخلافة ستمتلئ بالمشردين والمعدمين من أثر تطبيق الحدود وقطع الأيدي والأرجل، وستمتلئ شوارعهم بالبلطجية وعسكر الضرائب الباحثين عن المال ليعيشوا وينفقوا على شهواتهم ورغباتهم المكبوتة..

بينما يعانون هم من صعوبات لا توصف يدعوهم الملك للجندية والتطوع الإجباري في (الجيش الإسلامي) لاستكمال الغزو والمعارك المقدسة، وبعد أن يفقد الآباء أبنائهم وأرواحهم مجانا في حروب عبثية ضد القوى العظمى يتمنى هذا الشخص أن يعود كما كان، يعبد الله في دولة مدنية آمنا مطمئنا ينعم بالاستقرار والشعور بالراحة ولديه فرصة الثراء بشكل سريع حسب قدراته، فمن يراهم الآن في دولة الخلافة (علية القوم) و (كبار الدولة) هم في الماضي كانوا رفقائه وزملائه ورواتبهم متساوية القيمة، لكنه يدفع ثمن شهامته وصدقه وشجاعته وبعده عن النفاق والتزلف، حتى أن أرقام التضخم في دولة الخلافة لا تصيب هؤلاء، فقد بلغت 90% الشهر الماضي وموجات الغلاء المتتابعة فوق الإمكان، وأسعار المواد الأساسية الآن كأسعار القصور والشاليهات قبل أعوام، بل صار مهددا ليس فقط من جند الخليفة الغاضب عليه من أثر عدم دفع الضرائب والهرب من الجيش، بل مهددا من غارات التحالف الدولي أو جيوش القوى العظمى التي تحارب الخليفة..

وقتها يتمنى أن هذا الرعب - الذي يعيشه يوميا من ظلم الخليفة وجنوده مع بطش العدو وصواريخه - أنه لم يوجد قط في هذه الدنيا القاسية، فركعتين في جوف الليل مع الشعور بالأمن والعدل صاروا أفضل لديه من جيوش الجهاد والشريعة التي لم تنقل حياته للأفضل، وفي لحظة صدق شجاعة سأل نفسه: هل سيكون آثما لو ضحّى بالخلافة كي يعود إلى الله عابدا آمنا يشعر بالعدالة من جديد في رحاب الدولة المدنية؟..أم أن قدره ومستقبله سوف يظل عبدا لجند الخليفة وأهوائهم وغبائهم للأبد؟

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...