مدخل للفلسفة الديكارتية.. شرح وتقريب
د.سامح عسكر: كنت أتناقش مع أحد الأصدقاء الشيوخ المهتمين بالفلسفة، قال إن كلمة الفيلسوف الفرنسي “رينيه ديكارت” غبية وهي (أنا أفكر إذن أنا موجود)؛ فقد اعترف بوجوده مرتين قبل إثباته ذلك، المرة الأولى حين قال (أنا أفكر)؛ فثبوت الأنا هنا تكون مصادرة على المطلوب، ولا تصلح كدليل ونتيجة في ذات الوقت، والمرة الثانية حين قال (أنا موجود)؛ فاتصال الأنا الثانية مع الأولى يعني أنه يتحدث عن شخص واحد في الحقيقة وليس اثنين؛ فالأنا الأولى لديكارت هي نفسها الأنا الثانية؛ فكيف يجعل الأولى دليلا على الثانية؟
قلت: هذا فهم خطأ للكلمة، ولم يكن هذا مقصود ديكارت، وسوف أشرح الكلمة التي تعبر عن مضمون وجوهر فلسفة الرجل في عدة سطور. وفي البداية قد لاحظ ديكارت أن العقل اللاهوتي القديم (الإسلام، المسيحية، اليهودية) عندما كان يريد الجمع بين العقل والدين؛ فهو يفعل ذلك بناءً على نصوص دينية، فوضع ديكارت فرضية؛ وهي أن ما فعلوه لا يرتقى لمرتبة اليقين المطلق، وأن ما قالوه يبقى مجرد احتمال ظني لسبب وحيد؛ هو أن النص الديني، قد يكون خاطئًا، وهو هنا لا يحاكم النص الديني في ذاته، لأن ديكارت كان مؤمنًا مسيحيًا؛ بل كان يُحاكم أفهام وزيادات البشر على الدين الأصلي، وقد اعترف بذلك صراحة في كتابة “مقال عن المنهج“، فيكون ما فعله الكهنة في عقل ديكارت كان عبارة عن وهم، كمثال أن أحدهم يدعي أنه (يعبد الله)، فالسؤال الذي يطرح نفسه؛ هل عبادتك هذه عن يقين عقلي مطلق؟ أم أنه مجرد التزام بنص ديني؟ فكان الجواب: أن ما يفعله المؤمنون دائما هو التزام بنص ديني عُرضة للخطأ، وبالتالي فعبادتك ليست يقينية.
رأى ديكارت أن أولى شروط اليقين هو (شعور الفرد بوجوده)؛ فأنت تشعر بالجوع، ليس لعدم وجود طعام؛ بل لأنك بعيد عن الطعام، فالطعام موجود وتشعر أنه موجود، لكنك لا تحصل عليه، كذلك عقلك موجود وتشعر أنه موجود، لكنك لا تستعمله، وهنا كان جوهر فلسفة ديكارت؛ أن عقلك موجود لكنه مُعطّل بفعل النص، وسكون العقل عند ديكارت يعني أن الإنسان مجرد آلة وليس إنسانًا عاقلاً يفترض أنه متدين، فالإنسان المقلد عند هذا الفيلسوف هو كالآلة الصناعية لا يشعر بوجوده، وهناك أطراف أخرى دائمًا تتحكم فيه ومستسلم لها تمامًا، فكانت أولى شروط الإحساس بوجودك هو أن تفكر ولا تستسلم ولا تنقاد للآخرين.
قاعدة ” أنا أفكر إذن أنا موجود” أحدثت ثورة في الفلسفة بعدما أدت إلى فصل النص الديني عن العقل، وجعلت قضية إثبات الله قضية عقلية بحتة مرتبطة بالتفكير، وهنا ديكارت لا يهتم بنتيجة بحثك العقلي، أصبت أم أخطأت، لكنك في النهاية شعرت بوجودك ما دمت مفكرًا، والنتيجة النهائية لديك هي (يقين) ، وما أحدث اللبس في عقول طلاب الفلسفة أحيانًا وبعض العوام، أن ديكارت مشهور بالفلسفة الشكية، فكيف كان يبني يقينه وهو دائما يشك؟ والجواب: أن شكوكية ديكارت كانت ضد طريقة القدماء في الاستدلال على الله، أي أن شكّه في عمومه كان موجهًا ضد النص الديني، لكن تطور المنهج لاحق للشك في كل شيء؛ حتى العلم.
علمًا بأنه يوجد نظير لفلسفة ديكارت عند المسلمين في فرقة (المعتزلة) ، فهم كانوا يفكرون بنفس الطريقة، وهي تقديم العقل على النقل دائما، وأن الضامن لسلامة النقل هو إخضاعه لصريح العقل، وعندما جاء الفيلسوف الألماني “إيمانويل كانط” المتوفي عام 1804م ضرب هذا المنهج بإثباته قصور العقل البشري عن تصور الميتافيزيقيا، وبرغم أنه أثبت قصور العقل عن تصور الله ثبوتًا ونفيً،ا لكنه لم يضرب قاعدة ” أنا أفكر إذن أنا موجود”، فبقيت القاعدة واشتهرت بمصطلح الكوجيتو cogito ergo sum، وصارت مبدأ عقلانيًا تميز به ديكارت وخُلّد في التاريخ بسببه، حتى اعتبر ديكارت هو الفيصل بين زمنين؛ قديم وحديث في التفكير، برغم أن جذور هذا الفكر كانت عند القاضي المسلم “أبي الوليد بن رشد” المتوفي عام 1198م في كتابه “فصل المقال في ما بين الحكمة والشريعة من اتصال” الذي قال فيه باستحالة خلق الله شريعة الناس وهي مخالفة لعقولهم.
وقد عبَّر ديكارت عن معتقد ابن رشد هذا بكلمات موجزة في كتابه التأملات، إذ قال “من المُحال أن يضلني الله، إذ إن في الخداع أو الغش نقصًا، ولئن يكن يبدو أن استطاعة المخادعة من علائم البراءة والقوة، فلا جرم أن تعمد المخادعة دليلاً على الضعف والخبث، وهما أمران لا يمكن أن يوجدا في الله” (التأملات في الفلسفة الأولى صـ 178).
رينيه ديكارت هو فيلسوف فرنسي ولد عام 1596م وتوفى عام 1650 م، وقد نشأ نشأة دينية جعلته يثور في مرحلة لاحقة على تلك النشأة، وينتقد معالمها الكبرى، فقد تعلم في مدرسة “لافليشي” La Fliche الدينية المنتمية آنذاك للمذهب اليسوعي المسيحي، وبرغم تخرجه فيها سنة 1612 وحصوله على شهادة الليسانس؛ إلا أنه لم يكن راضيًا عما كان يدرسه، ويراه مجرد تقليد للأقدمين، ولأن شهادته كانت في الفلسفة والرياضيات؛ فقد امتلك عقلاً رياضيًا ساعده على نقد التصور المثيولوجي القديم في الربط بين العقل والدين بناء على التزام أسلافه الحرفي بالنص الديني، حتى أنجز فلسفته الخاصة التي وصف بها بـ (أبو الفلسفة الحديثة).
علما بأن عصر ديكارت شهد ثلاث ثورات على الفكر القديم، لكل منها طبيعة خاصة، الثورة الأولى، وهي: الاكتشافات العلمية التي ظهر بها “جاليليو جاليلي” المتوفي عام 1642م و”نيكولاس كوبرنيكوس” عام 1543م و “جوردانو برونو” المتوفي عام 1600م، وغيرهم ممن ظهروا باكتشافات علمية جديدة تقول بكروية الأرض ومركزية الشمس ودوران الأرض حولها، وأن كوكبنا ليس إلا مجرد كوكب بسيط ضمن مجموعة كبيرة من الكواكب والأجرام السماوية المشابهة لطبيعة كوكبنا، ولا شك أن هذه الاكتشافات العلمية كانت صادمة للعقل الديني، مما دفعه للانتقام بقتل وحرق “جوردانو برونو” وتهديد “جاليليو” بنفس المصير، وأن على البشرية إعادة فهم النص الديني والشك في الموروث.
أما الثورة الثانية وهي: فلسفة الإنجليزي “فرانسيس بيكون” المتوفي عام 1626م، والتي عرفت “بالتجريبية العلمية”، وهي قائمة على الثورة الأولى بالاكتشافات العلمية، وتبني عليها فكرًا متكاملاً لرؤية الكون بمنظار الحقيقة والواقع، لا بمنظار التصور والميول، ولتوضيح ذلك؛ فما قام به “فرانسيس بيكون” أنه أعاد الجوهر والأصل للواقع الحسي، وأنه يجب أن ننطلق من الأشياء نفسها لا من تصوراتنا عنها، فقد كان يَعتقد – بناء على الاكتشافات العلمية – أن تصوراتنا عن الأشياء مجرد وهم خادع لن نصل فيه إلى شيء، وأن الحقيقة يلزمها أن نكون واقعيين أكثر بالانطلاق من الشيء نفسه ودراستنا له عن طريق (الملاحظة والتجريب) ، وقد أدت فلسفة بيكون العلمية لاحقًا في إنجاز علمي وحضاري هائل، نجح فيه الإنسان باختراع المحركات ووسائل النقل الحديثة والثورة الطبية والاكتشافات المختلفة في علوم الكيمياء والفيزياء والفلك والبيولوجيا، إلخ.
أما الثورة الثالثة وهي : فلسفة ديكارت التي تقوم على الفصل بين العقل الحر وبين النص الديني، وإعادة الاعتبار للتفكير البشري بوصفه القادر على علاج أخطائه بنفسه، ومن أشهر تلك الأخطاء هو “خطأ الحواس“؛ فمن خلال ما نراه من تلك الثورات الثلاث تبين أن أكبر مشكلة كانت تواجه الإنسان القديم هي “خطأ الحواس“، والذي كان يدفعه لبناء تصورات خاطئة عن الواقع والتعامل معها بشكل خطأ، ومن تلك الجزئية كانت الثورات الثلاث رافضة “للمنطق الأرسطي” باعتباره الحارس والدرع للتصور الديني والفكري القديم الذي كان يعتمد عليه كهنة الأديان في المزج بين العقل والدين، أو بين العلم والدين، ولأن المنطق الأرسطي ينطلق من تصورات الإنسان المثالية عن الأشياء التي قد تعوقها أخطاء الحواس عن المعرفة أو قصور العقل الذاتي الذي كان يؤمن به كافة علماء وفلاسفة البشرية منذ عهد اليونان، فبرغم تقديم العقل والتفكير عند بعضهم، إلا أنهم كانوا يُسلّمون بقصور العقل ذاتيًا وعدم إمكانية المعرفة الكلية، وهذا ما دفعهم لتبني قواعد ومبادئ أخرى مكملة للعقل في الوصول وأهم تلك المبادئ والأطر هي (النص الديني).
أما عن كتاب التأملات؛ فهو أهم كتاب لديكارت على الإطلاق، قال فيه بالتفريق بين الإدراك والخيال، الذي هو عمدة ثورته على الفلسفة القديمة، حينما رأى علماء اللاهوت في أوروبا يخلطون بينهما، بمعنى أن إدراك الإنسان للسماء مثلاً كان يُوحي له خياله بأشياء يعتقدها حقيقة بعد ذلك، وهذا كان مصدر ضلالات القدماء وأساطيرهم حين تخيلوا السماء جسدًا منحنيًا كما عند الفراعنة بالإلهة “نوت“، ولو أسقطنا ذلك على الإسلام؛ فخيال الفقهاء تصوروا به قصة المعراج والصعود من سماء لأخرى على شكل سلالم رأسية مثلا، هنا ديكارت وصل للداء وعرف من أين تأتي الأسطورة، فإدراك الإنسان للنص الديني يجب أن يكون بالعقل ليس بالخيال، والفارق بينهم أن العقل له ضوابط في التفكير محكومة بالحس كمصدر معلومات أول بخلاف الخيال الذي عن طريقه نرى أي شيء غير موجود، أو نصنع به الأكاذيب.
كان رفض ديكارت لمناقشة الدين بالخيال معتمدًا على تساويه بالحس، يعني أنه كما أن الحس يخطئ أحيانًا؛ فالخيال أيضًا يخطئ، وضرب مثالاً على ذلك بتخيل الإنسان للوحوش وعرائس البحر، فكما أن الإنسان أخطأ في إيجادهم بدون وجود حقيقي أصاب في تركيبهم من أعضاء حسية، كالرأس والذيل والجسم وغيره، يعني الحس هنا مصدر الخيال، وبالتالي مقولة لا وجود حقيقي لما لم يوجد في الحس غير صحيحة بالمطلق، أو كلمة حق يراد بها باطل، لأن خيال الإنسان، كما أنه قادر على تصور المحسوسات، فهو قادر أيضًا على تركيبهم ودمجهم في صور غير حسية.
وباختصار؛ فديكارت يرى أن الفارق بين العقل والأسطورة هو الفارق بين الواقع والحُلم، ولأننا في عالم واقعي يجب أن يكون العقل هو أساس التفكير، لأن التسليم بالخيال والانطباعات الشخصية يؤدي للخرافة والكذب، وأثبت ذلك بتجربة الحلم أثناء النوم ورؤية الإنسان لأشياء يظنها حقيقة وقتها، لكن عندما يصحو من نومه يكتشف أن كل ما رآه مجرد حلم غير حقيقي رغم تفاعله وقتها مع الأحداث، وبالتالي؛ ما الضامن لك أن كل ما تراه الآن وتتيقنه حقيقي بنفس المنطق؟ فما يقوله بأن تسليم الإنسان لخيالاته وإدراكاته الحسية هو أصل الكذب على الله والناس، وبطريقة غير مباشرة طعن ديكارت في إيمان الكنيسة، فالمطلوب إذن كما شككت في أحلامك أثناء نومك أن تشك في معتقداتك في اليقظة.
مواطن
إضافة تعليق جديد