بين لانا ديل راي وأفلاطون

11-09-2022

بين لانا ديل راي وأفلاطون

إنَّه من الاستحالة عند البعض الجمع بين فيلسوف وفنان، فالأوَّل هو إنسان عقلاني ومثالي منفتح على الفكر والعالم لا يغويه أي شيء. أما الثاني فهو شاعر مجنون، كائنٌ روحاني منغلق على ما يصنعه ويحلم به فحسب، وإنسان ماديّ مصاب بنوع من أنواع الدعارة الحسيَّة التي لا عقل لها. هذا التقسيم الذي يمكن أن نجده عند من لم يصلهم الفن والفلسفة كما يجب بل قشور قشورهما.


نحن نود القول بأنَّ بطل هذا المقال هو الفنان أكثر منه الفيلسوف الذي وضعناه كبساط ليسير عليه الثاني ومجرد إضافة له. وبهذا فالفن هنا سيتفوَّق على الفلسفة الذي يمثِّل جزئها الصغير في هذا المكان أهم فيلسوف كلاسيكي مقابل فنانة وشاعرة معاصرة ليس كل شخص يقدِّرها أو يعرفها.

أفلاطون


مع كتاب الجمهورية يقدِّم لنا أفلاطون المدينة اليوتوبيَّة التي يقودها ويحميها الحراس والحكام حيث لا ملكية لديهم باستثناء مشاعية كل شيء حتى الأسرة. فهؤلاء حسبه الذين سيقودون ويضبطون هذه المدينة، ينبغي عليهم أن لا ينشغلوا بحب المال، والركض وراء شهواتهم، بل يجب أن يركِّزوا طاقاتهم ومواهبهم في تسيير السفينة التي يقودون دفتها.

وعلى عكس هؤلاء الحراس والحكام الذين حرمهم أفلاطون من الملكية الخاصة، فإنَّه في الطبقة الثالثة وهي طبقة الحرفيين والتجار التي تعبّر عن الشهوات؛ يسمح بهذا الاستثناء مع كونها ملكية مقيَّدة ليست متحرِّرة إلى حدّ الانفلات.

يقال في هذه الجمهورية أنَّ أفلاطون قد أنصف المرأة من خلال هذا النموذج، غير أنَّ المرأة هنا موجودة لتحقيق غاية معيَّنة فحسب، وإنجاز هذا الحلم الذي تشارك الرجل في تحقيقه.

كما أن أفلاطون لم يتوانى عن جعل المرأة شبيهة بالرجل حتى تستطيع أن تتواجد في جمهوريته من ضمن طبقة الحراس والحكام فـ “إذا انضمت النساء إلى الحراس فلا بد أن يكن “مسترجلات” إن صح التعبير بحيث يتخلّصن مما يسمى بخصائص المرأة”.

فالمرأة ورغم قدرتها على الانضمام إلى الحراس، إلا أنَّه ومثلما يذكر في كتابه الجمهورية يوجد فرق قوّة بينها وبين الرجل يسبقها فيه (2) كما أنَّ لديها طبائع مغايرة للرجل تتميَّز بها يجب على هذا الأخير، أن يبتعد عنها، أما هي فعليها أن تتخلى عنها، وتسلك مسلكه إذا أرادت البقاء في مدينت

يقول أفلاطون في شخصية سقراط: “دعني ألاحظ ما هو أبعد، ألا وهو وجود اللذات والرغبات والآلام المعقدة والمضاعفة، وجودها بشكل عام، في الأطفال والنساء والخدم، وفيما يسمى بالرجال الأحرار. الذين هم الأحطّ والطبقة الأكثر عددا”.
ولقد عدَّ فضائل الحراس هي الحكمة والرجولة والشجاعة وضبط النفس، مع لزوم الابتعاد عن تقليد العبيد والمجانين والنساء، وتحدَّث بأنّ الحراس الذكور أفضل من الإناث رغم استطاعة الإناث تأدية مهاهمن إذا أطعن القواعد.


صحيح أنَّ أفلاطون حطَّم التقليد السائد الذي يجعل من الفضيلة هي الرجولة والشجاعة فقط كما تتلّخص في المجتمعات البطرياركية القديمة والمعاصرة حتى الآن، لكنه في الجمهورية جعلها خصلة مهمة في الحراس. ولا يمكننا نسيان تصوُّراته عن المرأة وكيف أنها أقل من الرجل -حتى وإن كانت حادة الذكاء-.

ويرى إلى جانب ما سبق أنَّ الرجال قادرين على كل شيء حتى الأعمال المنزليَّة مثل الطبخ والنسج، التي عدَّها مثله مثل أيّ أثيني آخر من وظائف المرأة الخاصة بها، بل ويستطيع أن يؤدِّيها أفضل منها إذا ما أراد ذلك، وذلك لأنَّه يبقى أفضل منها.

غير أنَّه ورغم ذلك إلا أنَّ أفلاطون لم ينكر في جمهوريته وجود قدرة في المرأة تخوِّلها لأن تصبح قوّيَة ومتمكِّنة من الدفاع عن مواطني مدينتها، كما اعترف بوجود حسّ إبداعي فيها تستطيع فيه تعلَّم الموسيقى والرياضات أو القيام بتسيير المدينة وإنجاز أمور كانت تعتبر من مهمة الرجل في الماضي. ولقد أنكر نسبيًا الفكر الجندري الذي يربط فضائل المرأة بمظهرها قائلاً: “لندع إذن النساء الحاميات يخلعن ملابسهن لأنَّ فضائلهن ليست في أرديتهن”. ومع أنَّه ليس جميع النساء حاميات عنده، غير أنَّها نقطة تُحسَب لأفلاطون؛ عندما صرَّح بوجود نساء لا تختلف مؤهِّلاتهن عن مؤهِّلات الرجل.

ويذكر أفلاطون أنَّ الفوارق بين الأشخاص متعلَّقة بطبيعة أرواحهم، وليس جنسهم، فقدرتك على تعلَّم الطب على سبيل المثال لا تتعلق بإذا ما كنت رجلا أو امرأة بل طبيعتك الروحية التي جُبِلت عليها. 


أما الشعراء فإنَّ لهم سمعة سيئة رغم تقدير أفلاطون لهم نسبيا، فما يميّزهم هو الكذب واختلاق الأساطير، والمساهمة في جعل المواطنين ينحرفون عن الأخلاق والقواعد العامة، وتشويه الذوق الجمعي ونصرة المستبدين.


فيقول عنهم على لسان سقراط: “سنمنعهم عن ترديد تلك الأشياء ونجبرهم أن يغنوا وأن يضعوا ما هو ضد ذلك” فهو يضع رقابة شديدة عليهم وعلى ما يكتبونه ويلقونه ولا مكان لهم في مملكته. بل وحتى أنَّنا نجده يعامل الأوزان الشعرية والألحان بمنطق أخلاقي فكلّ لحن ووزن يعبر عن دناءة أو رفعة. 

والفن حسب اعتقاده تقليد التقليد لسبب أنَّ عالمنا هذا هو مجرد ظلّ لجسم حقيقي هو عالم المثل، فالفن لا يقلِّد الحقيقة فحسب بل يقلِّد الوهم.

إنَّ مدينة أفلاطون التي بها الملك الفيلسوف، ليست مدينة تعرف الحريَّة بحقيقتها، بل هي مدينة مقيَّدة بها قوانين صارمة تحرِّم حتى الانجاب على من لا يصل إلى سن الزواج المحدَّد الذي وضعه لها. والعدل الأفلاطوني هو أنَّ كل شخص يأخذ حقه نسبة لطبيعته التي ولد عليها ودوره في المجتمع، فليس كل شخص متساوي مع الآخر ويمكنه أن يفعل ما يريده.

لم تأخذ جمهورية أفلاطون حقها على يد الحكام فقد اضطهده حاكم مدينة سرقوسة ديونيسيوس حين أوحى إليه بها وكاد يموت عنده. 
من هناك كتب أفلاطون كتابه الأخير الذي يُعتَبر اعترافا بفشل تحقيق رؤيته السياسية والاجتماعية في الجمهورية لتعود المرأة في كتابه “القوانين” إلى مكانها التقليدي القديم.

لقد فشل أفلاطون “عملياً” في تحقيق كل ما رغب به، غير أنَّه لم يفشل “نظريا” في ذلك، ورغم انتقاد فلسفته المبنية على الثنائيات وبعض المعتقدات الدينيَّة والباطنية، وتصوُّرات كثيرة لم تعد مقبولة. إلا أنَّه يُعَدّ كما هو معروف من أهم أعمدة الفلسفة السياسيَّة بعصرها الكلاسيكي والذي لا يمكن التوغُّل فيها إلا بعد المرور به والتوقَّف عنده طويلًا.

لانا ديل راي


إنَّ اليزابيت غرانت التي يعرفها المعجبين باسمها الفني لانا ديل راي، مغنيّة أمريكية ثلاثينية تنحدر من مدينة نيويورك عرفت شهرة واسعة بعد مسار فني عرف الكثير من الصعوبات والعوائق. وتعرف هذه الأخيرة بوطنيتها واهتمامها بقضايا بلادها لا سيّما تلك المتعلّقة بالأمن والسلم.

وتلتقي هذه الفنانة مع أفلاطون، ليس في كونها فيلسوفة ولا منظّرة سياسيّة، بل في توقها إلى مدينتها الفاضلة حسب مقاسها الغربي وأهوائها مثلما تمنى أفلاطون جمهوريته، فهي تبدو مأخوذة بسحر الحلم الأمريكي في أعمالها الفنيَّة.

إنَّ الحلم الأمريكي اعتقاد يشترك فيه العديد من الأشخاص يرسم فيه الولايات المتحدة على أنَّها أرض الفرص والحريات، فبإمكان الجميع حتى المهاجرين إليها تحقيق أحلامهم، إذا عملوا بجهد وكانت لديهم ارادة.
تلك الرفاهية أيضا التي يعيشها المواطنون وسط السلام والأمن والمساواة والرفاه معانقين فيها أملاكهم دون الشعور بأدنى قلق وإحساس بالخطر، وهذا ما تريده هي أن يحدث بشكله المثالي.

ورغم أنَّها الآن بعيدة عن مجال أفلاطون الفلسفي إلا أنّها في سن التاسعة عشرة تخصَّصت في الفلسفة بجامعة فوردهام في مدينة نيويورك التي كانت تقيم فيها، واهتمت أكثر بالميتافيزيقا أيضا فهي تقول أنَّها:

“تسدّ الفجوة الموجودة بين الله والعلم… لقد كنتُ مهتمة بمسألة الله وكيف يمكن للتكنولوجيا أن تقرِّبنا من اكتشاف من أين جئنا ولماذا؟”.


يتميَّز فن لانا ديل راي بمحاولاتها في التبشير بالحلم الأمريكي بنقاوته الأولى، وأن تعيد المعجبين لزمن بلادها في الستينات والسبعينات في نوستالوجيا أمريكيَّة تضخّها كلمات أغانيها إلى أذن المستمع، مع كليباتها المصوَّرة ذات الأسلوب القديم.

ولا تكف عن ذكر كلمات مثل: أمريكا، الأمريكي والأمريكيات، الحرية وأرض الحرية. مع استحضار العلم الأمريكي مع شخصيات معروفة فيها فوطنيتها لا تنفصل عن الفن الذي تعيش فيه. تقول في أغنيتها (Radio):

لقد تحقَّقت الأحلام الأمريكيَّة بطريقة ما
ولقد أقسمت على أن أطاردها حتى الموت
سمعت أن الشوارع كانت معبدة بالذهب
هذا ما أخبرني به والدي

نحن نجد أسماء أعلام عديدة في أغانيها، مدن مثل كاليفورنيا ونيويورك، فلوريدا ولوس أنجلوس، ميامي ونيفادا. شوارع هوليوود وبارات وشواطئ وفنادق وأماكن مشهورة اعتاد الآباء أو تعودت هي على ارتيادها، أما الفِرَق الموسيقية والشعراء والمغنيِّين مع موسيقى الجاز والبلوز وبعض الأفلام الكلاسيكية فلا يفارقون هذه المغنية التي تبعثهم إلى الحياة مجددا كما أنَّ الله والآلهة لا تفارق ما تقدِّمه أيضا.

ورغم نجاحها الفنّي عالميا إلّا أن مسارها عرف انتقادات شديدة، فاذا كان أفلاطون يقدّم لنا المرأة في جمهوريته بشكل أرقى عن غيره حتى لو كانت دوافعه براغماتيّة، غير أنّها على عكسه تبدو أقل تسامحًا منه لما تحتوي عليه أعمالها التي تجعل المرأة داخلها مجرد تابعة للرجل لا شخصية لها على حدّ زعم البعض. وحيث تدخل شخصياتها النسائيَّة داخل العمل الغنائي في علاقات سامة مع رجال سيئيين يعاملون حبيباتهم بشكل مسيء ومع ذلك تتشبَّثن به وتطالبنه بالبقاء، وهم الرجال الذين تحبهم اليزابيث غرانت -على الأقل داخل أغانيها كما يظنها الكثير-.

وإن كان أفلاطون كما نعرف عنه لا يطيق الشكوى والنحيب والحزن الذي ألصقه بالشعراء والكتَّاب المفسدين لطبائع العامة، فإنَّ أعمالها تنتمي إلى نوع فني يدعى بـ Sadcore وهو أسلوب موسيقي يتسِّم بالبطئ ويركز على الكآبة والحزن والضياع.

مقتطفات غنائيَّة:


بوسعنا اكتشاف رؤى اليزابيث غرانت عبر كلمات أغانيها والإيحاءات التي تتضمَّنها والتي لم تثر إعجاب العديد من الأمريكيِّين.

في أغنيتها (Diet Mountain Dew) نقرأ بعض الكلمات الشائعة والمنتشرة غالبا في العديد من الأغاني لدى الكثير من الفنانات.
حبيبي، أنت لست جيدا لي
أنت لست جيدا لي
لكن يا حبيبي، أنا أريدك، أريدك

ورغم أنّ هذه العبارة المبتذلة كما تبدو، والتي تتجه نحو هذا الحبيب السيء أو الشخص الذي لا يناسبها نستطيع بسهولة كما ذكرنا العثور عليها عند غيرها، إلا أن ما يميِّز اليزابيث غرانت هي أنها في العديد من أغانيها تنقل لنا صورة هذا الرجل السيء الذي “يؤذيها” دائما، ومع ذلك تفضِّل الاستمرار في حبه، وتمدح لؤمه وطباعه الفاسدة. بل بوسعها قتل نفسها حتى يفتخر بها كما في أغنيتها (Love Song).

ولا تكف اليزابيث غرانت بشخصيتها المُختلقَة، أو التي تحب أن تكونها في عالم موازي من الخيال؛ عن الظهور بمنظر المرأة الهشَّة، التي تتوسَّل إلى رجلها بالعودة إليها، وعدم تركها، أو أنَّ حياتها لا تستحق العيش من دونه كما في أغانٍ مثل: (Old Money) (Without You) (Blue Jeans) مع (The Blackest Day)
نقرأ مثلا في أغنيتها (Ride) هذه التوسُّلات التي لم تعجب عدد كبيرا من المستمعين لكنها في الحقيقة أيضا منتشرة مسبقا عند البعض.

لا ترحل عني الآن
لا تقل وداعا
لا تدِر وجهك

وتكتسح ثقافة الحزن واليأس أعمالها الفنيَّة بل الموت في عمر صغير فهي تتحدث مرارا عن ذلك بل تقوم بعنونة أغانيها بهذه الفكرة (If I Die Young) وفي أغنية أخرى -تم الإشارة إليها من قبل- تقول: عش بسرعة، مت شابا، كن جامحا واحظى بالمتعة. وتتكرَّر عبارات مشابهة لها في العديد منها. أما حبها لفصل الصيف التي تستذكره في الكثير من الأغان، وهذا الفصل إلى جانب تذكيرها بالأيام القديمة والجديدة السعيدة فإنّه في الحقيقة وفي نفس الوقت يرمز إلى الحزن والموت أيضا.

ولقد كان الموت مرتبط بها منذ أن كانت فتاة مراهقة فهي تقول:

لقد أوقعتني في الارتباك وأنا في عمرٍ صغير؛ حقيقة أنََّ والدتي ووالدي وكلّ من أعرفهم بما فيهم أنا سوف نموت جميعنا يوما ما، كان لديّ ضرب من ضروب الأزمة الفلسفية. لم أكن أستطيع بسهولة تصديق أنَّنا بشر فانون.

ربما ستتصادم هذه المفاهيم مع أفلاطون الذي كان يرى الفن بشقه التعليميً حيث يجب فيه على الفرد أن يبتعد عن مثل هذه المظاهر من السلبيَّة ويصقل ملكاته وأخلاقه، وربما لو جاء الآن فلن يرى مدينة اليزابيث الأمريكيَّة التي تتمناها مثل مدينته الإغريقيَّة التي يريد للجميع فيها أن يسير بقوانينها الصارمة، لا سيّما حين نعلم ما فعله من هجوم وانتقاد للشعراء والفنانين الذي وجد معظمهم يفسد الشباب والمجتمع، الشعراء الذين كانت تحلم لانا بأن تصبح واحدة منهم كما تذكر وقد فعلت.

وإذا كان أفلاطون يرى “الفن” المحاكي للطبيعة والحياة: خادم الشعب، ووسيلةٌ لبناء المواطن الإغريقي إذا ما تم اختيار موضوعاته بعناية، فإنَّ اليزابيث غرانت تقتبس من مقولة الكاتب البرناسي أوسكار وايلد القائلة: “الحياة تقلِّد الفن” وتزج بها في أغنيتها (Gods and Monsters) لتثبت وجهة نظرها التي تحتفي بالفن أبعد بكثير مما رآه فيلسوف أثينا. كما تقول في المونولوج الذي اشتهرت به أغنيتها (Ride) أنَّه يجب علينا أن نجعل حياتنا كقطعة فنيَّة أو عمل فني، فالفنّ إذن في فكرها هو غاية وأسمى ربما من واقعنا.

لا تتوقّف مغنيتنا عن تشكيل نفسها وروحها المتعلّقة برجالها بل حتى أنّها توظّف العنف الموجّه للمرأة في رومانسياتها الغنائيّة. ففي أغنيتها (Ultraviolence) التي تتحدَّث عن رجل يقوم بأذيتها في علاقتهما؛ تغنّي في هذا المقطع الذي لا يختلف كثيرا عن البقية:

مع عنفه الفائق، عنفه الفائق (…)
أستطيع سماع صفارات الانذار، صفارات الانذار
لقد ضربني وشعرت بأنها قبلة
يمكنني سماع عزف الكمان، الكمان
اعطني كل عنفك هذا.

وفي مقاطع أخرى تذكر: لقد آذاني لكنني شعرت بأنّه حب حقيقي. ونقرأ في وصف يبدو عليه التقسيم الجندري والنفسي: أنا مغنية الجاز الخاصة بك وأنت زعيم طائفتي. وإنَّ قادة الطوائف ” Cult Leaders” يتمتَّعون بكاريزما قويَّة، ويرتبط تاريخهم بالاستغلال والرغبة في السلطة والثروة والجنس على حساب اتباعهم الذي يقضون بهم مصالحهم. وسواء قصدت ذلك أم لم تفعل إلا أنّ المعنى الشامل هو تبعيتها لحبيبها. كما أنَّ التعبير مشابه لأغنيتها (Religion) وهي شاعريَّة وحميمية تبتعد عن المعنى السابق للأولى وتتشارك معها تقريبا في التشبيه. بالإضافة إلى وجود أغنية أخرى بعنوان Cult Leader.

مثل هذه الجُمل قد تبدو مجرد تعبيرات عرضية لشخص يستمع إلى أغنياتها للمرة الأولى، لكن كلَّما صادف أغاني أخرى لها سيجد هذا الحديث عن العنف يتزايد في كل مكان، وبأساليب وزوايا مختلفة، فعلى سبيل المثال وُصِفت أغنيتها (Hundred Dollar Bill) بالعدوانية في نسختها الثالثة من قبل المنتج. (13)

وفي أغنيتها (Honeymoon) تغنّي: كلانا يعلم تاريخ العنف الذي يحيط بك. فأي عنف تقصده في أعمالها مع رجلها السيء. هل هو العنف النفسي الذي يمارسه عليها بتصرفاته أو حزنه الدائم لا العنف الجسدي؟ أم ربما هو مجرد مجاز قصدت به شكلا من أشكال عدم التوافق العاطفي مع من تحب. كل ذلك ممكن فلا يعقل أنَّها تحب العنف أو تحرّض عليه كما يعاتبها الكثير. وحتى عبارتها “لقد ضربني وشعرت بأنّها قبلة” هي في الحقيقة جملة مقتبسة من أحد الأغاني القديمة التي أدتها فرقة The Crystals.

في موقف آخر نسمعها تتحدَّث عن الخيانة في أكثر من مكان كما في أغنيتها (Cola) على سبيل المثال:
هيا يا حبيبي، لنسافر
يمكننا الهرب إلى أشعة الشمس الرائعة
اعرِفُ زوجتك، هي لن تمانع
لقد قمنا بالوصول إلى الجانب الآخر

ولم يزعج موضوع الخيانة المتابعين أو الجمهور أكثر مما فعلت صورة المرأة الهشَّة التي تقدِّمها له مع رجلها الذي يبدو مجرد شخص أناني يسيء للنساء.

انتقادات:

إنَّ الكلمات الثقيلة التي تحتويها أغاني لانا ديل راي مجرد تعبير ومجاز أكثر منها حقيقة أو دعاية. كما أنَّ أذية حبيبها لها التي تذكرها في مواضع عديدة ربما تشير كما كتبنا مسبقا إلى حزن رجلها الذي يؤذيها ولنقرأ هذا المقطع على سبيل المثال:

إذا كان قاتل متسلسل مثلما يقولون
فهل هناك شيء أسوأ من هذا يمكن أن يحدث لفتاة مُحطَّمة القلب؟
انا محطمة القلب بالفعل
إذا كان سيئا كما يقولون فأعتقد اذن أني أُصِبت بلعنة
انظرُ إلى عينيه، فأعتقد أنَّه قد تأذى مسبقاً
لقد تأذى بالفعل

كما نستشف أوصافا أخرى غير مباشرة عن رجلها الذي يمكن أن يكون اكتئابه قاتلاً لها، مع دخوله في حالة من اليأس والركود المميت. أو أنَّه لا يعيرها اهتماما ويعاملها بلؤم. تغني في (Cola) لا تعاملني بقسوة بل بلطف بالغ. أما في أخرى بعنوان (Kill kill) وحيث تهدِّد حبيبها بهجره فتقول:

أنا مغرمة برجلٍ ميت
ولقد فعلت كل ما باستطاعتي

وتتواجد كلمات مثلها في أغانٍ أخرى مثل (Shades of Cool).

إنَّ البعض ينتقدها لاستعمالها كلمات مباشرة وسيئة السمعة، بحيث يمكن أن تؤدي إلى فهم خاطئ لدى المراهقين من معجبيها، كما أنَّ البقاء مع رجلٍ مكتئب مصاب بالبرود ليس بالأمر الجيد أيضاً.

ورغم أنَّها تستحضر أيام الستينات والسبعينيات في أغانيها، تلك الفترة التي كانت فيها الحركة النسويَّة الأمريكيَّة تثور وتدافع وتُنظِّر، إلا أنها أخذت موقفا لامباليا من النسويَّة فتجاهلتها ورأت أنَّها غير مهمة بالنسبة لها، والأفضل حسبها هو الاهتمام بمواضيع ومجالات أخرى غير ذلك، المستقبل والتطور التكنولوجي على سبيل المثال. ويمكن استنتاج ذلك أيضا من بعض أغانيها التي تبدو فيها متناقضة مع أهداف النسويَّة وأيديولوجيتها.

لقد بدا ما قالته استخفافًا بما يمكن للنسويات أن تفعلنه -في هذه المرحلة المعاصرة على الأقل- فلقبّها الكثيرون وقتها بعدوًة النسوية، كما قال البعض أنَّها ليست لديها أي فكرة عن ماهية النسويَّة. إلا أنه رغم ذلك فقد دافعت قبل عن نفسها بعد اتهامها بعدائها للحركة فهي لم تهاجم النسوية في النهاية بل صرَّحت أنَّها ليست من اهتماماتها.

ودافعت عن علاقاتها السامة في أغانيها بوصفها علاقات تحصل للكثيرات، بما في ذلك هي نفسها، ويجب على مواضيع مثل هذه أن يكون لديها مكان في الفن الغنائي. وأما الحركة النسوية فينبغي أيضا أن يكون لديها مكان لنساء مثلها وأن تقبل جميع النساء بجميع اختلافاتهن وما مررن به. (15) لكن ذلك لم يقنع منتقديها بل قرأوا دفاعها كفعل عناد وسفسطة.

تفضِّل اليزابيث غرانت كما توحي أعمالها الفنيَّة وحياتها الرجال الأكبر منها عمرا وقد ارتبطت بالبعض منهم في حياتها الواقعيَّة، وهي لا تتحرَّج عن التغني برغباتها وذكر رجالها الكبار الذين تناديهم بـ Daddy في أعمالها.

كما تقوم بتجميل العلاقات غير المتكافئة في السن- غير أن ما تقدِّمه يتجاوز ذلك ويمكن أن يراه البعض ظاهرة تثير الازعاج، فما توحي به مقاطعها الموسيقيَّة والغنائيَّة ليست مجرد علاقة بين امرأة راشدة وشخص كبير بالعمر، أو ارتباط غير صحيَّ مع من تحب بل حب بين فتاة منقادة ومبهورة برجلها الكبير في العمر أو امرأة تركض وراء المال.

ورغم أنَّ اليزابيث غرانت ليست من نوع الفتيات اللواتي يطاردن الرجال الأثرياء ويبعن أجسادهن لهم كما يعتقد البعض (16) غير أنّها تتحدَّث عن المال، وتنقل لنا صورة المرأة الاتكاليَّة التي تطمع في جيوب الرجال، أو ترتبط بالأثرياء الكبار أو الصغار عمرياً مثل أغنياتها (Million Dollar Man) (Hundred Dollar Bill) مع (You Can Be The Boss)
هذه الأغنية الأخيرة -You Can Be The Boss- التي تجمع فيها ما بين العلاقات السامة، وعلاقة الفتيات مع الكبار. مع تمجيد الرجل الثري التي تعشقه المرأة بالرغم من كونه سيء الطباع والمسيطر عليها. أو رجل لئيم وخطير مليءٌ بالعيوب، هذه الأوصاف الموجودة أيضاً في أغنيتين ذكرناها الآن مع أخرى.
أما أغنيتها (National Anthem) التي تحاكي فيها الحياة الزوجيَّة للرئيس الأمريكي كينيدي وتجسِّد فيها دور زوجته جاكلين مع مارلين مونرو فتركز هذه الأغنية في الحقيقة على المضمون الوطنيّ والسياسيّ مع الاقتصاديّ في ذلك الوقت كما يظن عدد من معجبيها والصحافة الثقافيَّة.

وبالعودة إلى موضوع اليافعين وهو الموضوع الحساس فنسمعها في أغنيتها (Off To The Races) التي تبدأ فيها بالحديث عن رجل كبير في العمر وسيء الطبع، تقوم بترقيق صوتها لتظهر كمراهقة. مع أغنيات من هذا النوع مثل (Lolita) (Be My Daddy) (Put me in a Movie)

أما ثقافة المخدرات والكحول والتدخين الشره التي تتبنَّاها والحنين إلى ذلك الزمن الذي يسحرها حين كان المغنون والفرق الموسيقيَّة والفنَّانون مع الشعراء ينتحرون بالمخدرات والكحول وهم شعراء جيل الايقاع الذين كانت معجبة بهم.

وحتى هي نفسها عانت في ماضيها من إدمان الكحول في عمر صغير. كما أنَّها مدمنة على التدخين والقهوة والسكريات. وقد صرَّحت أنَّ الكحول كان حبها الأول. (17)

لقد جعل ذلك غير المعجبين بها يهاجمونها لسبب قدرتها على التأثير على هذا الجيل الصغير. بأغانٍ مثل (Heroin) مع (Florida Kilos) وأعمالها الأخرى التي نجد فيها هذه الثقافة.

ولم يتوقف انتقاد لانا ديل راي داخل نطاق المستمعين العاديين بل هاجمتها العديد من الشخصيات البارزة في مجال الفن والإنتاج بما في في ذلك المغنية الإنجليَّرية “لورد” التي زعمت أنّ أغانيها غير صحية تضر بالفتيات الصغيرات. (18)

خيبة الأمل الكبرى

ومع كلّ هذه العوائق التي لاقتها وحيث تعوّدت خلالها على الرد على ما يقال عن إنتاجها الغنائي، غير أنَّه وفي سنة 2019 نجدها قد أصدرت ألبومها الغنائي (Norman Fucking Rockwell) الذي يتم اعتباره اعترافا بفشل تحقيق الحلم الأمريكيّ وذلك لأسباب عديدة مثل سوء الأوضاع التي تتخبَّط فيها الولايات المتحدة، ورضوخها ربما أيضا إلى هؤلاء الذين يهاجمونها كل مرّة.
ونورمان روكويل هو فنان أمريكي معروف، اعتاد رسم الحياة اليومية الأمريكية ورموزها. وقد كان يمثّل الحلم الأمريكي وقتها. وبهذا فقد أرادت لانا حسب كلامها في مقابلة لها تذكيرنا بكيف كان الحلم الأمريكي في الخمسينيات والستينيات وكيف أصبح اليوم.

من هنا تغيّر الفن الذي اعتادت أن تقدِّمه إلى المعجبين من قبل. إلا أنّ الخذلان التي شعرت بها كان علامة واضحة في بعض أغانيها الأقدم. ويرى البعض أن هذا الألبوم رغم خيبته؛ فيه جرعة من الأمل وليس كما يشاع عنه. أما في بعض المواضيع مثل المخدرات فقد أصدرت اليزابيث غرانت أغنية (Dealer) سنة 2021 من ألبومها Blue Banisters وتشير على الأغلب إلى الاكتئاب أو المخدرات أو العلاقات السامة، لكن بأسلوب مآساوي يظهر بشاعة هذه الظواهر من دون تمجيدها.

وبخصوص آراء اليزابيث غرانت السياسية فهي لم تكن مؤيَّدة للرئيس الأمريكيّ السابق دونالد ترامب، بل حتى موقفها منه جعلها تصف الفنان كانيى ويست التي كانت تعرفه بسبب مساندته لترامب على أنه أصبح أشقر وميؤوس منه، وذلك في أغنيتها (The Greatest) التي تسفر عن قلق شديد وتخوّف من مآل الولايات المتحدَّة التي عرفت العديد من المشاكل السياسيَّة والاقتصاديَّة واحتمالية دخولها في حروب نووية مع مشاكل المناخ وحيازة الأسلحة بسهولة.

نجد في هذه الأغنية وصفا لحالات مختلفة لبلدها منها حوادث حقيقيَّة حدثت:

الثقافة مضاءة

وإذا كان الأمر هكذا فلقد استمتعت
أعتقد أنني مستنزفة بعد كل شيء
أنا منهكة

وتقول في مقطع آخر:

هاواي تجنبت كرة نارية (قذيفة)
لوس أنجلوس تشتعل، وتزداد حرارة
كاينى ويست أشقر وميؤوس منه
“الحياة على المريخ” ليست مجرد أغنية
البث المباشر على وشك أن يبدأ

وكانت قد ذكرت في تعليق على منشور لكاني ويست سنة 2017 على انستغرام وفيها يساند ترامب ما يلي: إنَّ -فوز- ترامب بالرئاسة هو خسارة للبلاد لكن أن تدعمه فذلك خسارة للثقافة. وقد عاتبته مكملةً على دعمه لرجل نرجسي مصاب بجنون العظمة ومتحرّش بالنساء، كما اتهمته بأنَّه ربما يوجد ترابط بينهما في هذا الموضوع وإلا ما كان ليقف معه .


تعليق اليزابيث غرانت على الفنان كاني ويست

في أغنية أخرى لها سنة 2020 معنونة بـ (Looking For America) نقرأ التالي:

ما أزال أبحث عن نسختي الخاصة من أمريكا

نسخة تخلو من الأسلحة، حيث يمكن للعلم أن يرفرف بحرية
لا قنابل في السماء، فقط الألعاب النارية عندما نصبح أنا وأنت متلاصقين
إنَّه مجرد حلم في رأسي

ومع كلّ ما وقع فإنَّها تشكر وتثني على بلدها الذي يكفل للجميع حرية التعبير وهو موضوع يدخل في “الحرية” التي تقدِّسها. كما أنَّها تسلك طريقا وسط عندما تقول أنَّها ليست ليبراليَّة ولا جمهوريَّة بل هي في الوسط بينهما.

الأمر الذي يجعلنا نستحضر مفهوماً يدعى بـ”الوسط الذهبي” الذي يفضِّله أفلاطون وتلميذه أرسطو، يناقض التطرُّف والتعصُّب لاتجاه واحد مثل الديموقراطيَّة، الحريَّة، الاستبدايَّة بل كان مع التوازن في ذلك. فالحريَّة حسب اعتقاد أفلاطون تعني الفوضى. -هل نتذكَّر اهتمام لانا بحرية حيازة الأسلحة في الولايات المتحدة التي تراها حالة خطيرة تقود إلى فوضى وحروب أهلية رغم أهمية شيء يدعى الحرية بالنسبة لها-. كما أنَّ الديمقراطية تقود إلى الاستبداديَّة والاستبداديَّة تدمِّر كل شيء.

انتقادات إضافية:

رغم كلّ الصراعات والشجارات التي وجدت نفسها تخوضها، فقد امتد الأمر لشيء آخر عندما ازداد الوضع سوءًا في سنة 2020 بعد اعتراضها على انتقادها هي بالذات، وترك بعض المغنيات التي كن جميعهن ممن استحضرتهن من “الملونات”، اللواتي تحتوي أغانيهن على تصوّرات غير مقبولة وكلمات ليست جيدة تخص التعري والجنس والخيانة والتعري والظهور بمنظر مثير. ومع ذلك لا أحد يقترب منهن. مثل أريانا غراندي، نيكي ميناج، بيونسيه، كاردي بي، كيهلاني، كاميلا كابيلو، ودوجا كات.

لقد قالت بعد تحدّثها عن هؤلاء المغنيات:

هل يمكنني من فضلكم العودة إلى الغناء عن كيف أكون مرتاحة مع جسدي، الشعور بأنني جميلة عبر الوقوع في الحب حتى وإن كانت العلاقة غير مثالية، أو الرقص لأجل المال أو أي شيء أريده من دون أن يتم صلبي أو قول أنني أقوم بتجميل الاساءة.


كما صرّحت أنه من المثير للشفقة ما يُعتقَد حولها بسبب هذه الأدوار الموجودة في أغانيها التي توصف بالخاضعة، وكيف أنهم يجعلونها وكأنها قد أعادت النساء مئات السنين إلى الوراء. 

في تلك الأيام تم وصف لانا ديل راي بالعنصرية وهو مجرّد ادعاء داخل دائرة لا تنتهي من الاستهجان. غير أنَّها سرعان ما ردَّت على مثل هذه الاتهامات بأنّ اعتراضها ليس له أيّ علاقة بأيّ نوع من أنواع العنصريَّة وأنَّ هؤلاء المغنيات أساسا هن المفضلات عندها.

كما ذكرت أيضاً أنَّ أصدقائها المقربون هم في الحقيقية من أمريكا اللاتينيَّة وبلدان أخرى خاصة من ينحدرون من كوبا. وكثير من الأشخاص الذي عملوا معها في مجال الفن هم ملوّنون وسود فكيف يمكن أن تكون عنصرية. بل وحتى أنَّ اسم شهرتها هو لقب مستلهم من الثقافة الكوبيَّة.

ورغم ذلك فقد استمر كارهوها في الاعتقاد بأنها عنصريَّة ومفتونة بوهم التفوق على بقية الأعراق، حيث تتوق إلى تجسيد حياة البيض الأسرية في وقت كان فيه البيض في الولايات المتحدّة الأمريكيَّة يستعبدون السود.

ولم تتوقَّف هذه الملاسنات والاتهامات عند هذا الحدّ، بل لاحقتها حتى عندما قامت بأخذ صور مع معجبيها في حفلة توقيع أحد كتبها الشعريَّة بحجة أنَّها لم تأخذ الاحتياطات اللازمة للوقاية من تفشي كوفيد، كنتيجة لعدم ارتداءها كمامة طبيَّة حقيقيّة، وبذلك فقد تعرِّض معجبيها لاحتمالية الإصابة بهذا الفيروس. 


لسوء حظها تعتبر اليزابيث غرانت من بين أكثر المغنيات اللواتي تم انتقادهن في هذا العقد بل وتعرضت لمشاكل أخرى مثل حادثة اختراق حسابها على تويتر سنة 2016 ومحاولات المخترقين تمرير رسائل للمتابعين مثل تغريدات مسيئة للمسلمين “جميع المسلمين إرهابيين” أو تحريف اسمها الفني إلى “Lana del gay”.

نصف حقيقة

يقول الشاعر الإنجليزي ألفريد تينيسون: “الكذبة التي هي نصف حقيقة، أخطر من كلّ الكذبات الأخرى”. أما الفنان والشاعر وليم بليك فيذكر: “الحقيقة التي تقال بِنيَّة سيئة تتغلَّب على جميع الكذبات التي يمكن اختراعها”.

ونحن لا يمكننا في الواقع بعد كلّ هذه الادعاءات الشديدة أخذ كل ما قيل بعين الاعتبار، فالمفاهيم والقصص التي تحتويها أغانيها، والتي لم ترق للبعض جعلتهم يتجاوزون حدود النقد إلى التهجم عليها في كل حادثة، وتسليط الضوء على حياتها فقط. ورغم أنّها تستلهم أغانيها من حياتها وماضيها، إلا أن الكثير من تلك الأوصاف والقصص التي أثارت الامتعاض مستوحاة من خيالها وستبقى حبيسة هذا الفن لا غير. ولا يمكن في أي حال تقييد الفن وإلجامهِ وممارسة الرقابة عليه تحت غطاء من المبرِّرات الأخلاقيَّة وحماية براءة الأجيال مثلما نادى أفلاطون. كما أنّه لا يمكن لأحدٍ انكار ازدواجيَّة المعايير الموجودة لدى مهاجميها الذين تجاهلوا بقيَّة الفنانات اللواتي لا يختلفن عن الكثير مما تضعه الأخرى في ألبوماتها.

وبعيدا عن ما تقدِّمه لانا ديل راي إلى معجبيها، فقد اعتُبِرت رغم ذلك من أفضل كاتبات الأغاني الأمريكيّات، فقدرتها وعبقريتها في كتابة الكلمات والأوصاف والتلاعب اللغوي، واستعمال المجاز والاستعارات وايصال شعرية المكان وربط الأحداث التاريخيَّة والآنية في أغانيها لا يمكن إنكاره.

إنَّ اقتباساتها من الأفلام والأغاني القديمة بل وكتابات الأدباء مثل أوسكار وايلد، والت ويتمان، تي إس إليوت وجون ميلتون تعزِّز أيضا فنَّها بوعي وثراء بالغ، ونجد المسيح حاضرا بقوّة في كلماتها ذات النزعة الدينيَّة أحياناً، كما أنَّ الشعر لا يفارقها فنجدها في بعض الأعمال تلقي علينا قِطعا شعرية ونصوصا قصيرة أو مقاطع حوارية تحدِّثنا بها.
ناهيك عن موسيقى أغانيها التي ترتبط بالجاز، وأنواع أخرى من موسيقى كلاسيكية مع إيقاعاتٍ وألحانٍ ساحرة وعميقة وهي تدخل في أنواع موسيقية كثيرة منها الباروك بوب، دريم بوب، والإيندي بوب وغيرها. بالإضافة إلى قدرتها على تغيير طبقات صوتها النغمي وتردداته. أما ثورتها في أسلوب الفينتاج فقد أضفى على إنتاجاتها طابع التميَّز والقدرة على التأثير نفسيا وجماليا في المستمع.

وهي تستلهم فنَّها ليس فقط من موسيقى السبعينيات وما قبلها وبعدها، بل التي تتبع ثقافات مختلفة. وقد تأثَّرت بالأدباء والشعراء منهم آلن جينسبغ وجاك كيرواك وهم جيل الإيقاع كما أسلفنا ذكرهم، حيث لم تغني عنهم فحسب كما في أغنيتها (Brooklyn baby) بل ونقلت جزء من قصيدة “عواء” الشهيرة إلى فيلمها القصير “Tropico”، وقد ذكرت الشاعرة سلفيا بلاث على سبيل المثال في أحدها. 
وتجعل حتى من جسدها ساحة أدبية لشخصيات كثيرة، كما نرى في أوشامها العديدة التي تحمل أسماء كتاب وشعراء مثل: نابوكوف ووالت ويتمان، ومغنيات مثل نينا سيمون وغيرهم.

كما أنّه ليست كل أغانيها حتى القديمة منها نسبيا تُظهِر لنا تلك الصورة النمطيَّة التي أراد الجميع الصاقها بكل ما أنتجته فهي في أغنيها (Carmen) التي كتبتها مع كاتب أغاني يدعى جاستن باركر حول امرأة تبيع جسدها للغرباء في شوارع كوني آيلند كما ذكرت عنها، نجدها ورغم وصف هذه المرأة بأوصاف ساحرة وجميلة مثل أنها: تضحك كالإله. إلا أنّها تثبت لنا أنَّها تخفي معاناة نفسية أو جسدية عن الآخرين في هذا المصير الذي وجدت نفسها فيه في كل هذه المتعة التي تبدو متعة على السطح فقط هناك حياة مميتة تعيشها.

وفي أغنيتها (Black Beauty) تغني عن الأمل بطريقة ما وعن جمال الحياة التي لا نتفطن لها بسبب مشاكلنا وهمومنا.

وتهتم لانا ديل راي بالمرأة كروح لا كجسد فتغني في أحد أغانيها ما يلي: هل ستظل تحبني عندما أكف أن أكون شابة وجميلة؟ هل ستظل تحبني عندما لا أملك شيئا سوى روحي المعذبَّة؟. وتذكر أيضا في عمل آخر: “هل ستظل تحبني عندما أشع من الكلمات فقط لا الجمال”.

وفي أغنيتها (High By The Beach) تظهر بمنظر الفتاة المكتفية بنفسها والقويَّة، التي تقوم بتفجير طائرة هيليكوبتر تمثّل البابارازي والصحافة التي تنتقدها عن طريق سلاح كان داخل غطاء غيتار في رسالة واضحة الى قوة فنها.

وتطلب في أغنيتها (Born To Die) من حبيبها أن يواصل جعلها تضحك دائما وأن لا يحزنها ويبكيها.

أما في أغنية (Doin Time) فإنَّ كليبها السينمائيّ يحمل مفاهيم أخلاقيَّة بشأن الخيانة. وهكذا يمكننا أن نكتشف تناقضات كثيرة في بعض الأعمال حين تظهر بشكل قوي ومسيطر، وعكسه، ما يجعل التأويل يسير نحو الرمزيَّة أكثر من الحرفيَّة في بعض الأجزاء غير المحبَّبة.

لقد كانت اليزابيث غرانت في شخصيتها الغنائية لانا ديل راي تترجى حبيبها غير المهام بها أن ينظر إليها، وفي أغنية ثانية أن يرقص معها فقط، أما في أغنية أخرى فقد أصبحت ترقص لوحدها ولنفسها حتى لو لم يرغب رجالها بالرقص معها. 

خاتمة…

يمكننا الادعاء الآن بأنَّ لانا ديل راي تغيَّرت داخل قصرها الفني فلم تعد تلك القديمة، على عكس أفلاطون الذي انقلب على جمهوريته وأرجع المرأة إلى حياتها السابقة التي كلها رضوخ للرجل.

كما أنَّها أصبحت مهتمة بتأليف كتبها الشعرية أكثر من إصدار ألبومات غنائية. ويكفيها كل ذلك النجاح الذي عرفته في ماضيها الغنائيّ وما أحدثته في عالم الفنّ.

إنَّ الفهم الضيق، الذي يتعصَّب للحروف والألفاظ، ويبتعد عن التأويلات الرمزية والمجازية في أكثر الأشياء رمزية والتي هي القصائد الشعرية والأغاني هو ذنب عظيم يقترفه الجمهور.

ورغم تخوّف البعض من سوء فهم المراهقين والشباب لكلمات أغاني اليزابيث غرانت إلا أنَّ ذلك لا يعد مبررا في التقليل من شأنها واختلاق تهم جديدة ضدها.

لقد كانت الولايات المتحدة الأمريكيَّة في الماض وجهة جديدة لتأسيس مدينة فاضلة منذ بدء الهجرة إليها لاستيطانها، وإلى حد الآن هناك من هو مُصِّر على أنها حققت جزء من ذلك على الأقل. على عكس لانا ديل راي التي ترى الآن أنَّها في طريق الدمار إذا لم تسارع الحكومة لإنقاذها، فهي مثل أفلاطون أرادت مدينة جديدة ولو اختلفت نظرتهما حول كيف يجب أن تكون. وهي كذلك مثله في خيبة الأمل التي شعرت بها بعد أن غنَّت كثيرا عنها كما كتب أفلاطون عن جمهوريته، فألبومها الذي ذكر مسبقا هو بنفس يأس كتاب القوانين للأوَّل.

المحطة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...