كيف تجري عمليات تهريب السوريين عبر البحر
سومر سلطان:
بعد الترحم على الغرقى في المركب البحري، وكل من قضى نحبه ساعياً وراء ما يرى أنها حياة أفضل من حياته الحالية؛ وبعد انقضاء قرابة ثلاثة أيام على الحادثة يمكن لنا أن نذكر بعض الحقائق لفهم أفضل لسياق عملية التهريب.
الهرب عبر البحر جارٍ على قدم وساق، ومن المعروف في كل موانئ القطر تقريباً أن هناك مركباً يختفي في عرض البحر كل بضعة أيام، ولا شك أنه يحمل بعضاً من الفارين على ظهره. وقد تطورت على هامش هذه الظاهرة ظاهرة الصيانة السريعة للمراكب المتهالكة، صيانة تجعلها تعمل لبضعة أيام إضافية فقط، إنه "تسكيج" كما نقول في اللهجة المحكية.
في مطلع الأزمة كان التهريب يأخذ شكل رحلات صيد، ويتظاهر الفارون بأنهم صيادون ذاهبون للصيد في المياه الدولية (هناك شروط خاصة للسماح بهذا النوع من الصيد أهمها أن يكون المركب من فئة 14 متراً على الأقل، إن لم تخني الذاكرة) وبعد الخروج من المياه السورية كان المركب يستبدل العلم السوري الذي يرفعه بعلم آخر، أفريقي أو أمريكي لاتيني على الأغلب. ولا أعلم شخصياً سبب اختيار تلك الدول بالذات، ولكن أعتقد أن أنظمتها تساعد على تسجيل ونقل ملكية المراكب بطريقة متساهلة نسبياً. ومن ثم يأخذ المركب طريقه إلى البلد الهدف، وهو ليس البلد الذي حمل المركب علمه طبعاً. وفي أحيان أخرى يكون المركب مركب حمولة في الظاهر.
وقد حاربت الدولة هذه المظاهر بالتشدد في منح جوازات السفر البحرية، والتشدد في منح الرخص البحرية، إضافة إلى تحميل القبطان ومالكي السفينة مسؤولية شخصية في حال فرار أحد الملاحين المسجلين على لوائحهم. وقد أعاق هذا الإجراء عمل بعض السفن التي تعمل جادة، أو بتقوى الله إن جاز التعبير، ولكنه كان إجراءً ضرورياً.
فتح الأمر الباب للشكل الآخر من التهريب، وهو الذي شاهدناه أخيراً. وقد بدأ ينشط معه، كما قلت، عمل الصيانة المتسرعة بحيث يعمل المركب بضعة أيام إضافية لأنه لن يعود أدراجه بل ستكون رحلته الأخيرة على الأغلب، فحتى لو وصل سالماً ستصادره سلطات الموانئ في المحطة الأخيرة. وهنا أيضاً تشددت الدولة، فعمليات نقل المحركات والمتاع من ميناء إلى آخر باتت أصعب قليلاً، وتتطلب إجراءات معينة، وإن كان يمكن التحايل عليها بوسائل معينة معروفة في بلادنا مع الأسف.
تشدد آخر أبدته الدولة، برز في منح كل مركب تصريحاً بالإبحار والخروج من الميناء لعدد معين من الساعات يتغير بحسب نوعية الصيد الذي يخرج إليه. ويقوم عناصر أمنيون مختصون بتفحص البحارة والتأكد من استيفائهم الشروط القانونية. ولكن هذا الإجراء كذلك بقي على الورق أكثر منه قيد التطبيق. ولا داع للاستطراد عن وسائل الحماية والإنقاذ التي لا تكون موجودة إلا على الورق كذلك.
لا أريد أن أشخصن الأمور. ولكن في إحدى المرات مانعت أن ينشط مركب لأحد أقاربي في ممارسة نوع من الصيد على بعد حوالي ثلاث ساعات فقط من الساحل، واشترطت أن يكون معه مركب آخر يبحران سوية ويعودان سوية، وإذا تعطل واحد ينقذه الآخر. وذلك لأن مستوى المكننة والاتصالات في بلادنا سيء عموماً، فالكثير من مراكبنا العاملة متعبة ومن الخطر أن تبحر، فكيف بمركب متهالك حتى بالنسبة لمعاييرنا المتساهلة. ولعل البعض يتذكر كيف تعطل، قبل الأزمة، مركب في رأس البسيط، وتقاذفته الأمواج والتيارات مع بحارته حتى تلقفته سفينة مصرية قبالة شواطئ الإسكندرية.
الشيء الأكثر غرابة بالنسبة لي لم يكن في الأرقام التي قيل إنها دفعت لأصحاب المركب الغارق، ولا في سبب هجرة أشخاص ذوي شهادات عالية، بل في أن الكثير من الضحايا من حي الصليبة اللاذقي، فهؤلاء بحارة منذ عشرات القرون، كيف يقعون في مصيدة كهذه؟ ولماذا ذهبوا حتى طرابلس كي يفروا بحراً؟ أبناء الصليبة والطابيات الذين أعرفهم يمكن لهم أن يصنعوا مراكب عنيدة من بقايا خشبية، ويصارعوا بها أعتى الأمواج. والقصص التي تتحدث عن انبهار أمهر ملاحي قبرص واليونان وغيرها بمهارة أبناء الصليبة، وحتى بأشباه الأميين منهم، أكثر من أن تعد.
ملحوظة أخيرة بخصوص الكلام المنتشر في فيسبوك عن أن أبناء أرواد استخدموا كميات إضافية من المازوت من منازلهم من أجل أعمال البحث والإنقاذ. هناك تقليد يعود، فيما أظن، إلى بدء استخدام المحركات النارية في السفن، وهو أن يحتفظ الصياد بكمية من المازوت في منزله كمؤونة. وحتى لدى أفقر الصيادين وأرقهم حالاً ستشاهد غالونات وبراميل مازوت، وحتى لو كانت فارغة أكثر مما هي ملأى. وإذا كان لدى كل منا بضعة حسابات للديون التي يستدينها في حياته اليومية: دين السمان، دين بائع الخضار، دين رصيد الهواتف الخلوية... إلخ فإنه يوجد لدى الصيادين دين إضافي هو دين المازوت. ومع الأسف في ظروف القحط الحالية، فإن أغلبية الصيادين البحريين، ومنهم الأرواديون طبعاً، ياتوا غير متمكنين حتى من استيفاء دين المازوت هذا من عملهم، ولكنهم يستمرون بالعمل سعياً وراء أمل خفي وثقة لا يظهرها إلا المجانين والصيادون. وهذه النقطة تكشف أكثر مقدار النخوة والغيرية التي أبداها أبناء الجزيرة باستخدامهم آخر ما لديهم من مازوت.
إضافة تعليق جديد