الدور اليهودي في نشأة مذهب الحديث

22-10-2022

الدور اليهودي في نشأة مذهب الحديث

سامح عسكر: 

لا أقصد بالدور اليهودي في صناعة مذهب المحدثين؛ أي ازدراء أو احتقار لليهودية، أو طرح هذا المقال ضمن سياق التحريض الديني كما يحلو للبعض ذكره لليهودية كنوع من المؤامرة على الأمة، أو أن يتعلق هذا الدور بأي شوفينية أو قومية إسلامية مزعومة؛ أنتقدها وأتبرأ منها؛ فالقومية عندي هي للإنسان وصلاح البشرية، يكون بالأخلاق والعمل الصالح، وهو معنى كلمة التقوى في القرآن مصداقًا لقوله تعالى: “ولباس التقوى ذلك خير” [الأعراف : 26] و “يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير”  [الحجرات : 13] 

هذه الصفحات ستكون عرضًا إبستمولوجيًا لاستقراء مصدر فكر أهل الحديث الحقيقي بعيدًا عن التكهنات، وسيدور حول وضعية كل من “أبي هريرة وكعب الأحبار ووهب بن منبه وأبي بن كعب”، وغيرهم في نشوء هذا الفكر، وكيف انتقلت طرق التفسير التقليدية اليهودية للتناخ إلى فقهاء ورواة المسلمين، وقبل العرض والتحليل؛ أشير إلى جزئية هامة غفل عنها كل من خاضوا في هذا الشأن، وهو (الدور اليمني) جغرافيًا وثقافيًا في نشأة فكر الحديث، وكيف انتقل هذا الدور اليمني للعراق وسوريا بعد الفتنة الكبرى؛ فغالبية هؤلاء اليهود كانوا من اليمن ثم أسلموا؛ إما في فترة مبكرة من الدعوة الإسلامية، أو في عصر الخلفاء الأربعة، وحين نعرض للدور اليمني في ذلك؛ فهدفنا أن نستقرئ الواقع اليمني -ثقافيًا وسياسيًا- هذا العصر، وإمكانية أن يتصل هؤلاء بحضارات اليمن القديمة في حضرموت وسبأ ومعين.

فلدينا كعب الأحبار المتوفي عام 32 هـ، والذي كان يهوديًا منتميًا لقبائل “حِميَر” اليمنية، وكذلك “وهب بن منبه” الصنعاني ابن منطقة ذمار اليمنية والمتوفى عام 114هـ، حتى أبو هريرة الدوسي ابن قبيلة دوس اليمنية من أبرز فقهاء هذا الخط الروائي، وبرغم أن التاريخ لم ينقل ديانة أبي هريرة الحقيقية قبل إسلامه؛ إلا أنه نقل ديانة كعب الأحبار ووهب بن منبه، وعلى الأرجح كان أبو هريرة شأنه كشأن الدوسيين يهوديًا حِميَريًا من الذين ورثوا أطلال مأرب السبأية في أعقاب معارك دولتي “حِميَر وسبأ” في القرون الأولى للميلاد، وأسلافه من الذين هجروا مأرب بعد انهيار السد لجبال الحجاز في الشمال، وتظهر ثقافة أبي هريرة باتصاله العقلي والوجداني الشديد بكعب الأحبار، حيث اشتهرت علاقتهما المتينة في التراث؛ لدرجة خلط روايات أبي هريرة عن الرسول بكعب الأحبار، وهي من بعض آفات روايات هذا الصحابي التي نقلها واستنكرها الإمام النووي وغيره.

إضافة لشخصيات أخرى هما “نوف البكالي” و “عبد الله بن عمرو بن العاص”؛ فالأول كان يهوديًا حِميَريًا فأسلم، أما الثاني كان صحابيًا يروي عن كعب الأحبار شأنه كشأن أبي هريرة، واشتهر في التراث (بالزاملتين) اللتين وجدهما في معركة اليرموك، وتحويان علومًا من أهل الكتاب، والزاملتان هي حقائب كبيرة تعني في المصرية (الشوال أو الغبيط أو الشيكارة)، وحين تحدث ابن كثير عن هاتين الزاملتين، قال منها المعروف والمشهور والمنكور والمردود، فكان هذا أول ظهور ما يسمى (الإسرائيليات) في الفكر الإسلامي.

وبالنسبة للإسرائيليات؛ فقد حاول البعض جمعها في كتب موحدة، وأشهر هذه المحاولات ما فعلته د. آمال ربيع التي كانت تأتي فيه بالنص من تفسير الطبري وأصله من كتب التوراة باللغة العبرية وترجمته بالعربية؛ وذلك على اعتبار أن تفسير الطبري هو أقدم كتاب تفسير مدون على الإطلاق وأكبرهم حجمًا أيضًا، وحوى بين جنباته معظم الإسرائيليات المشهورة التي نقلها المحدثون عن يهود اليمن، وترجح الدكتورة آمال ربيع في هذا الكتاب أن بعض نسخ التوراة كانت مترجمة للعربية في عهد النبي، وأن وجود اليهود والمسيحيين قبل الإسلام في شبه الجزيرة العربية يدل على وجود لغة مشتركة بينهم وبين العرب، بخلاف الرأي الشائع أن الاسرائيليات دخلت التراث الإسلامي مع أول ترجمة عربية للكتاب المقدس من القس يوحنا أسقف أشبيلية في الأندلس، وذلك بعد وفاة النبي بـ 100 عام، ثم جاء يهود كـ سعديا الفيومي وموسى بن ميمون وإبراهام بن عزرا وترجموا وشرحوا التوراة باللغة العربية، وأود القول هنا بأن الكتاب مليء بالمعلومات الغنية، وهو خط زمني يمكن من خلاله فهم كيفية دخول هذه الروايات تراث المسلمين عن طريق الطبري، ومنه إلى بقية التفاسير. ويمكن من خلاله أيضًا معرفة الشخصيات التي نقلت التراث اليهودي للإسلام.

علمًا بأن للإسلام جاذبية في نفس اليهودي للمشتركات الكثيرة التي تجمعهما؛ ففي الإسلام واليهودية الإله واحد، وهناك إصرار على توحيده لمقاومة أي مظاهر للوثنية والتعددية الإلهية، كذلك بعض المحرمات كلحم الخنزير والدم والميتة وما ذبح على النُصُب أي القرابين، وكلاهما يقولان بالشريعة؛ أي القانون والناموس، وفي اليهودية تسمى (الهالاخاه) وكذلك الختان بغض النظر عن صدق انتساب هذا العمل للإسلام، فالقرآن لم يقل به، وكذلك الأحاديث لم يصح منها شيء وفقًا لعلماء السند، إنما هذه الروايات التاريخية في شأن الختان ولو لم يصدق انتسابها للرسول والإسلام؛ لكن رواجها في القرون الثلاثة الأولى لهو دليل على قبول مجتمع المسلمين لهذه العادة، وأن المشترك بين اليهود والمسلمين هذه الفترة كان كبيرًا لعقائد كثيرة يصعب ذكرها في هذا المقام، لكني أذكر أن الصلوات بين الدينين متشابهة لحد كبير من الوضوء والسجود، وأنها لليهود ثلاث مرات في اليوم؛ بينما للمسلمين خمس صلوات، حتى أن التحية واحدة وهي (السلام عليكم / شالوم)، وكلاهما يعبدان إلهًا مفارقًا للعالم لا يمكن رؤيته أو تخيل مادة له.

أما عن عناصر التأثير اليهودي في صناعة الحديث والرواية؛ فهم كثيرون؛ “ككعب الأحبار ووهب بن منبه وعبد الله بن سلام ونوف البكالي وغيرهم” ومن الصحابة الناقلين عنهم “أبو هريرة وابن عباس وعبد الله بن عمرو بن العاص وغيرهم” والمقام لا يتسع لذكر وشرح الجميع منعًا للثرثرة والتكرار غير المُجدي في السياق، أكتفي بتحليل أهم شخصيتين من مسلمة اليهود الذين أثروا في مذهب المحدثين على الإطلاق؛ هما (كعب الأحبار ووهب بن منبه)، وبعد العرض المختصر لأخبارهم أعقبه بشرح المنهاج الفكري لهم وانتقاله حرفيًا لتلاميذهم من المسلمين:

أولا: كعب الأحبار: وهو أول مفسر حقيقي للقرآن، وعن طريقه ظهر علم التفسير الشفهي قبل تدوينه على يد ” ابن جرير الطبري” المتوفي عام 310هـ، والتاريخ ينقل أن وضع الحديث بدأ أولا في التفسير، ثم انتقل للفقه والسياسة والعقائد؛ فالوازع الذي دفع الوضاعين لرواية الحديث كان عن فضول لمعرفة القرآن أولا، والعرب في القرن السابع لم يكونوا أهل حضارة وكتابة وتدوين؛ بينما اليهود عرفوا التدوين والاحتكاك بأهل الحضارات؛ فكان إسلام البعض منهم مقدمة لتفسير القرآن وإزالة الغموض عنه وشرح الآيات المبهمة بعد وفاة الرسول. وللدكتور عبد المنعم حنفي في موسوعته عن “فلاسفة ومتصوفة اليهود” أكثر الكلام عن كعب الأحبار، ونقل بدءً من الصفحة 184 بعض المطاعن على كعب واتهامه بالمسؤولية عن وضع الإسرائيليات في الفكر الإسلامي، مستشهدًا بكلام أئمة التفسير كالثعلبي وابن كثير والألوسي ورشيد رضا وغيرهم.

علمًا بأن مصطلح الإسرائيليات لا يتضمن فقط الأحاديث الموضوعة؛ بل الصحيحة أيضًا، ويمتلئ كتاب صحيح البخاري بكثير من تلك الإسرائيليات، كما أثبتت الباحثة الكويتية “سندس عادل عبيد” في دراستها عن الراويين ” ابن جريج وأبي العالية الرياحي” وهما من رواة البخاري الذين اشتهروا بنقل الإسرائيليات، ومجموع أحاديثهما في صحيح البخاري 213 رواية، أما إسرائيلياتهما في تفسير الطبري قد بلغت 2459 رواية، وهو رقم كبير بإحصاء بسيط عن راويين اثنين فقط دون الأخذ في الاعتبار روايات أبي هريرة واليهود السابقينسندس عادل عبيد وهي بالآلاف.

أسلم كعب الأحبار سنة 17 هـ في عهد الخليفة عمر بن الخطاب، وينقل الثعلبي قصة إسلام كعب كالتالي: “بلغنا أن كعب الأحبار قيل له: لمَ لمْ تسلم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وأسلمت على عهد عمر؟ فقال: لأن أبي دفع إلي كتابًا مختومًا، وقال: لا تفك ختمه؛ فرأيت في المنام أيام عمر (رضي الله عنه) قائلا قال لي: إن أبي خانك في تلك الصحيفة، ففككتها فإذا فيها نعت أمة محمد صلى الله عليه وسلم: سالوما وعالوما وحاكوما وصافوحا وخاروجا، فسألوه عن تفسيرها، فقال: هو أن شعارهم أن يسلم بعضهم على بعض، وعلماؤهم مثل أنبياء بني إسرائيل، وحكم الله لهم بالجنة، ويتصافحون فيغفر لهم ويخرجون من ذنوبهم كيوم ولدتهم أمهاتهم” (تفسير الثعلبي 3/ 128) وقيل إن إسلامه لقصة أخرى؛ قال الثعلبي “قال النخعي: قرأ عمر هذه الآية على كعب الأحبار “يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقًا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت وكان أمر الله مفعولا”  [النساء : 47]، فقال كعب: يا رب أسلمت، يا رب أسلمت مخافة أن يشمله وعيد هذه الآية.” انتهى (تفسير الثعلبي 3/324)

ولا يمكن التسليم بهذه القصص؛ فكعب الأحبار كان يعرف بالإسلام والقرآن قبل قدومه للمدينة في عصر عمر بن الخطاب؛ فهل لم يعرف بتلك الآية قبل قدومه؟ أم لإسلامه شيء آخر؟ وما طبيعة علاقته بالصحابي “معاوية بن أبي سفيان”؟ فالتاريخ ينقل هذه العلاقة بوضوح ويرسم معالمها أنها كانت جيدة جدًا، وأن كعب الأحبار ذهب للشام في عصر ولاية معاوية عليها، بل إن معاوية لقيه في اليمن قبل فتح مكة. وسياسيًا يمكن اعتبار أن إسلام كعب كان تقربًا للسلطة العربية في شخص الخليفة عمر بالمدينة وواليه معاوية بن أبي سفيان في الشام، والدليل أن إسلام الرجل تأخر عامًا واحدًا فقط عن فتح القدس، حيث فتح العرب القدس عام 16 هـ، وأسلم كعب الأحبار عام 17هـ، وتقارب هذه التواريخ مع مركزية القدس في الدين اليهودي تقول إن كعبًا أسلم ليدخل ويعيش بالقدس والشام بطريقة شرعية.

ثانيا: وهب بن منبه اليمني الصنعاني، ولد سنة 34 هـ لأسرة يهودية؛ فورث علوم التوراة، وكان يبث منها الكثير في حياته، وأذكر أن الشيخ رشيد رضا عتب على الحافظ ابن حجر العسقلاني تساهله في النقل عن وهب بن منبه وكعب الأحبار في رده على أحاديث وروايات (عُمر الدنيا)، التي دست في كتب الحديث وتم تصحيح العديد منها، ويقول الشيخ في ذلك: ” قد علمت من هذه النقول أنه ليس في عمر الدنيا حديث مرفوع صحيح ولا حسن، وأن الروايات فيه إما ضعيفة وإما موضوعة، والراجح أن كل ما ورد فيها من مرفوع وموقوف ومن الآثار؛ فهو من الإسرائيليات التي بثها في الأمة كعب الأحبار ووهب بن منبه وأمثالهما، ولو فطن الحافظ ابن حجر لدسائسهما وخطّأ من عدلهما من رجال الجرح والتعديل لخفاء تلبيسهما عليهم لكان تحقيقه لهذا البحث أتم وأكمل” (تفسير المنار 9/ 401)

وكلام رضا يُحمل مسؤولية الخرافات في التراث الإسلامي لكلا الرجلين (كعب ووهب)؛ فالذي كان مهتمًا بتحديد عمر الكون لم يكونو عَرَبًا؛ بل يهودًا يربطون بين هذا العُمر والنص المقدس، فضلاً على أن أحبار اليهود كانوا مهتمين بالتفاصيل غير المهمة؛ كالمسافات والأطوال؛ مثل سفينة نوح وتابوت العهد وغيرهم، وقد روي عن وهب بن منبه أن حجم التابوت كان ثلاثة أذرع في ذراعين، وعلى هذه الطريقة في التفسير كان معظم فقهاء المسلمين الذين فسروا القرآن في وقت لاحق، وأشهر من كان مهتمًا بتلك التفاصيل غير المهمة هو الإمام قتادة وابن عباس وغيرهم، وجميعهم تلقوا العلم من كعب الأحبار أو وهب بن منبه.

 

 

المواطن

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...