تراكمات عقْد التخريب: الصناعة السورية لا تنبعث
ليس ترْك باب التهريب مفتوحاً على مصراعَيه لمرور البضائع التركية إلى سوريا، وحْده ما أضعف القدرة التنافسية للمنتَج السوري. فإضافة إليه، تبدو الأصابع التركية واضحة في «أكْل» حصّة ذلك المنتَج من أسواق الدول المجاورة. ولا يعدّ التنافس التجاري هنا من النوع الحميد، بل هو جزء من حملة تركية متكاملة استهدفت الصناعة السورية، بدءاً من نهب المصانع ومخازن المواد الأوّلية، مروراً بارتفاع كلفة الإنتاج بفعل الحرب والحصار، وصولاً إلى مزاحمة المنتَجات السورية في السوقَين الداخلية والخارجية. وما سبق، تُظهّره بيانات التجارة الخارجية التركية، التي تشير إلى أن أنقرة صدّرت ما قيمته أكثر من 18 مليار دولار من منتَجاتها إلى سوريا منذ عام 2013 لغاية أيلول 2022، في حين تورد بيانات التجارة الخارجية السورية أرقاماً هزيلة جداً في حجم المستورَدات من تركيا، ما يؤكد إغراق السوق السورية بالسلع التركية المهرَّبة.
عزلُ حلب
تخريب الاقتصاد السوري بدأ قبل الحرب فعلياً، أي «منذ توقيع “اتفاقية التجارة الحرّة” بين سوريا وتركيا»، بحسب ما تراه الباحثة الاقتصادية السورية، رشا سيروب، في حديث إلى «الأخبار». إذ بدأت تركيا، بمجرّد سريان الاتفاقية، لعبة من التنافس غير النزيه، «عندما قامت بتأسيس معامل على الحدود مع سوريا، لتتمكّن بذلك من دخول السوق السورية والأسواق العربية من دون قيد أو شرط، ما أضرّ بكامل القطاعات الإنتاجية السورية، قبل أن تنتقل تركيا مع بدء الحرب إلى مستوى أعلى من ذلك التنافس، عندما سهّلت عملية تفكيك وسرقة المصانع السورية في مدينة حلب وأريافها، ونقْلها إلى داخل الأراضي التركية»، وفق سيروب. وفي أعقاب تلك الإجراءات، فرضت تركيا حصاراً طويلاً على حلب، في محاولة منها لعزل «الدينامو» الاقتصادي لسوريا عن بقيّة المحافظات، و«في هذه المرحلة، لعبت أنقرة دور القاتل الاقتصادي، وهذا شكّل فراغاً في الساحة الاقتصادية، سواءً في السوق المحلّية التي تحوّلت إلى مستورِدٍ لسلع كانت تُنتَج محلّياً، أو في الأسواق المجاورة التي كانت سوريا أكبر مصدّر إليها»، كما تقول الباحثة الاقتصادية. وقد عزّز غياب السياسات الحكومية، طِبق سيروب، هذا الفراغ، «بعد تعامل الحكومة مع ظروف الحرب وكأنها ظروف طبيعية لا تتطلّب تدخلاً مدروساً، ما تسبّب بارتفاع تكاليف الإنتاج إثر رفْع الدعم عن المحروقات، وهو ما زاد عبئاً إضافياً على كاهل القطاع الصناعي»، فيما استغلّت تركيا هذا الواقع لزيادة صادراتها إلى الأسواق المجاورة، ومنها السوق السورية عبر مناطق النفوذ التركي في الشمال السوري.
من جهته، يؤكد الصناعي الحلبي، محمد صباغ، في حديث إلى «الأخبار»، أن «تركيا اتّبعت أساليب مختلفة بحسب سنوات الحرب للتأثير في المنتَج السوري، ففي بداية الحرب كانت البضائع التركية تُباع بأسعار أرخص في أسواق العراق ولبنان، من البضاعة ذاتها في مصر والمغرب، وكانت جهات داعمة تتحمّل فرق السعر». ويتّفق الصناعي محمد زيزان مع زميله، معتبراً أن تركيا منذ بداية الحرب «سعت لتدمير الصناعة السورية وتحديداً الحلبية، بدليل أن أوّل معمل دمّرته كان أكبر معمل لصناعة الخيط عربياً، مع تخريب آلاف المعامل وسرقة آلاتها، لكن بعد عودة المعامل إلى نشاطها وإقامة المعارض، اتّبعت تركيا أسلوب قطاع الأعمال السوري نفسه في جذب التجّار العرب، أي عبر استضافتهم مجّاناً وتقديم العروض المغرية لهم، بُغية المضارَبة على المنتَج السوري».
بيعٌ بالدين
لم تكن خسارة المنتَج السوري أمراً مفاجئاً، لكن «السوق ليست لها ذاكرة»، وفق ما يشير إليه الصناعي تيسير دركلت، في حديثه إلى «الأخبار»، موضحاً أن «المنتَجات المصنَّعة في معامل حلب خلال فترة الحرب كانت خارج التصدير، وبعد تحريرها من الإرهاب استطعنا العودة، لكن اكتشفنا أن حصّتنا في الأسواق ذهبت إلى منتَجات دول أخرى. وعلى رغم ذلك، عاد المنتَج السوري إلى المنافَسة، لكن سرعان ما تأثّر بارتفاع سعر صرف الدولار، وتكاليف الإنتاج الأخرى، قبل أن يعود المنتَج التركي بقوّة إلى الأسواق، مع تقديمه عروضاً غريبة للمضارَبة على نظيره السوري كالبيع بالدَين، وخاصّة في العراق، مع سرعة في إيصال البضائع والأموال، بينما يواجه السوريون صعوبات كثيرة في ظلّ عقوبات قيصر، والتأخير في إصدار “الفيزا” لرجال الأعمال. بالتالي، استطاع التركي التفوّق وسط ظروف عمل وإنتاج غير متكافئة». بدوره، يُرجع الصناعي أيمن مولوي، تراجُع تنافسية المنتَجات السورية إلى ظروف الحرب والحصار، حيث «ارتفعت التكاليف في ظلّ غلاء الكهرباء والمحروقات وأجور النقل وغيرها، وهذا تَسبّب في استحواذ دول أخرى على حصّة المنتَج السوري وليس تركيا فقط».
ويبيّن مولوي أن «الصناعات الغذائية لا تزال تحافظ على تنافسيّتها في الأسواق الخارجية بسبب جودتها ونوعيّتها الجيدة، لكن بقيّة الصناعات انخفضت تنافسيّتها»، مشدّداً على أهمّية استجابة الحكومة السورية لمطالب الصناعيين في الإدخال المؤقّت بقصد التصنيع والتصدير، وهو ما يَعدّه «قراراً صائباً سيسهم في تقوية المنتَج المحلّي وإعادته إلى المنافسة». ويشاطره الرأي الصناعي زيزان، بتأكيده أن «المنتَج السوري، على رغم كلّ الصعوبات، بدأ بالتعافي واستعادة مكانته، وهو لا يزال مطلوباً ولم يَخرج من المنافسة بصورة كاملة»، مفيداً بأن «ثلاثة آلاف منشأة وخمسة آلاف ورشة خياطة عادت لتعمل في مدينة حلب، منتِجةً فائض ألبسة يحتاج إلى التصدير».
خطّة للدعم
يُجمع الصناعيون على عدّة نقاط ضرورية التحقُّق، لضمان عودة المنتَج السوري إلى المنافسة مع نظيره التركي وغيره. وتتمثّل أهمّ هذه النقاط في: وضْع خطّة قابلة للتطبيق لدعم التصدير أسوةً بتركيا والدول المجاورة، إعادة النظر في قرارات تمويل المستورَدات، توقيع اتّفاقيات قنصليّة مع الدول المجاورة لتسهيل حركة الأموال والبضائع وتنقّل رجال الأعمال، ومكافحة التهريب وضبط الحدود. على أن الباحثة الاقتصادية، رشا سيروب، ترى أن «الواقع الاقتصادي الصعب لا يُعفي الصناعيين من المسؤولية، فمن الضروري أن يدركوا أن السوق العالمية باتت مفتوحة، والمنافسة على أشدّها بين جميع الدول، ولا يمكن دائماً انتظار الحكومة لتقديم الدعم، فالقطاع الخاصّ ينافس في السوق الدولية بجودة منتجاته وانخفاض أسعاره، وهذا يخدمه تدهور سعر صرف الليرة السورية الذي يشكّل بحدّ ذاته محفّزاً لزيادة الصادرات».
الأخبار
إضافة تعليق جديد