الفكر التاريخي وموضوعه
بقلـــم: لوسيان غولدمان - ترجمة: محمد العدلوني الإدريسي - يوسف عبد المنعم
هكذا يبدو أن القيام بدراسة الأحداث التاريخية والاجتماعية يجب أن يتم على مستويين، مما يستلزم أيضا معيارين من أجل أحكام القيمة، والتي ينبغي أن تأخذ بعين الاعتبار ليس فقط التلاحم والترابط الإنساني والقوة الإبداعية لدى الأفراد بل وأيضا التناسق الموجود بين وعيهم الفردي والحقيقة الموضوعية. هذا الاعتبار يطرح إحدى المشاكل الأساسية في سوسيولوجية الروح، إنها مشكلة الإيديولوجيا، التي تتميز بشساعة موضوعها مما يمنع من دراستها بعمق، والتي هي بالرغم من ذلك تشكل صلب موضوع هذا العمل، وصلب موضوع أية دراسة سوسيولوجية تبذل كل ما في وسعها للإلمام بالمظاهر الجوهرية للحياة الإنسانية.
يعتبر كل حدث تاريخي حدثا اجتماعيا، وكل حدث اجتماعي حدثا تاريخيا، مما يفضي إلى أن كلا من علم التاريخ وعلم الاجتماع يهتمان بدراسة نفس الظواهر. وإذا كان باستطاعة كل منهما، في إطاره الخاص، الإلمام بأحد مظاهرها وتكوين تصور عنها، فإن الصورة التي يقدمانها تبقى بالرغم من ذلك جزئية ومجردة، ما لم يتم وضع نتائج دراستهما في إطارها الشمولي والمتكامل، على اعتبار أن نتائج أحدهما تثري نتائج الآخر. بيد أن هذه المسألة لا تعني مطلقا أن الانتقال من المجرد إلى الملموس يتم بمزج صورتين جزئيتين. إذ ليس بالاستطاعة الحصول على معرفة حقيقة بالأحداث الإنسانية بمجرد إضافة نتائج جزئية ومشوِّهة لسوسيولوجيا تنظر إلى هذه الأحداث نظرة ذات رؤية تشييئية أو نزعة سيكولوجية لنتائج تاريخ سياسي، أو بتعبير أوضح، لنتائج تاريخ ذي نزعة وضعية. إن المعرفة الواقعية ليست تجميعا لها. بل تركيبا لمجردات مبرَّرة، لا إضافة نتائج بعضها لبعض. وفيما يخص الموضوع الذي نحن بصدده، فإنه من المستحيل تصور أي تركيب ما دامت تلك المجردات غير مبررَّة. وبعبارة أخرى، ليست معرفة الأحداث الإنسانية، عملية جمع بين نتائج علم الاجتماع ونتائج علم التاريخ، بل إن مثل هذا التصور يدفع إلى ترك كل علم اجتماع وكل علم للتاريخ يتسم بالتجريد، لتحقيق معرفة يقينية بالأحداث الإنسانية والتي لا يمكنها إلا أن تكون معرفة توحد بين علم الاجتماع وعلم التاريخ، أي أن تكون علما اجتماعيا يستند إلى التاريخ وبالمثل أن يكون علما تاريخيا يضع نصب عينيه نتائج علم الاجتماع. تلك إذن هي الأطروحة التي سنعمل كل ما بوسعنا، من خلال هذه الدراسة، للدفاع عنها.
لا يمكن لعلم الاجتماع أن يكون علما جديرا بهذا المعنى، إلا إذا كان يعنى بالتاريخ ويضعه في دائرة اهتماماته، وبالمثل، فعلى علم التاريخ، لكي يتجاوز التسجيل العفوي للأحداث، أن يصبح تفسيريا بالضرورة. أي أن يصبح بهذا القدر أو ذاك اجتماعيا.
علم التاريخ، علم الاجتماع التاريخي، فلسفة التاريخ، كل هذه المباحث تطرح إشكالا إبستمولوجيا قبليا يحيلنا إلى الأسئلة التالية:
*ما الذي يجعل الإنسان يهتم ببعض الأحداث المحددة والمنفردة في الزمان؟
*ولماذا يهتم بالماضي؟
*ثم ما الذي يستهويه في هذا الماضي بصفة خاصة؟
قد تبدو الإجابة على هذه الأسئلة، منذ أول وهلة، مسألة سهلة: إن موضوع التاريخ هو المعرفة الدقيقة الصارمة بالأحداث من حيث خصوصيتها، دون الأخذ بعين الاعتبار ما قد تنطوي عليه من منفعة شخصية أو جماعية أو حتى منفعة عملية. لأن المؤرخ عالم يبحث عن الحقيقة، وتلك غاية في حد ذاتها وليست وسيلة. فلا داعي إذن للتساؤل لماذا: مطابقة الواقع للفكر، غير أن هذه المسألة هي بالضبط ما يتوخاه كل نشاط علمي، أما مسألة الوسائل، كالاهتمام، وسعة العلم والحس النقدي وبذل الذات في سبيل كشف الحقائق دون الحديث عن الذكاء، فذلك أمر لا جدال فيه.
بيد أن التفحص الدقيق للأشياء يبين أن الأمر أكثر تعقيدا مما يمكن تصوره. فخلال القرنين 16م و17م عملت الفيزياء الحديثة بكل حزم على تخليص ذاتها من كل أشكال التدخلات اللاهوتية والاجتماعية لتكتسي صبغة علمية صرفة، مساهمة بذلك في إرساء قواعد لإيديولوجيا ذات نزعة علمية، أعطت للبحث وللمعرفة بالأحداث قيمتهما، رافضة بشيء من الاستخفاف كل المحاولات الرامية إلى ربط الفكر العلمي بكل ما له منفعة عملية وبما يخدم مصالح الإنسان. ولقد ساد مع هذا المنحى، اعتقاد أظهر المجتمع كما لو أنه يريد التكفير عن أخطاء الماضي بتعويض رواد العلوم الأوائل، اعترافا منه بالصعوبات التي واجهوها، وذلك بتوجيه عبارات التبجيل والاحترام للذين حملوا مشعلهم أو من لديهم قناعة بأنهم كذلك. فكانت النتيجة القصوى لهذه الإيديولوجيا، التي تم بلوغها، خاصة في إطار العلوم الإنسانية، هي ذلك العدد الهائل من ذوي سعة العلم الذين كرسوا حياتهم في تحصيل أكبر قدر ممكن من المعارف ضمن مجال ضيق وجزئي، اعتقدوا معها أنهم أصبحوا أنتروبولوجيين ومؤرخين ولسانيين وفلاسفة، إلى آخره…
غير أن هذه النزعة العلمية الصرفة، وبالرغم من تناميها، قد أسست لشيء له أهميته وله ما يبرره. فالبحث العلمي، ولكي لا تشوبه شائبة بسبب تفسيرات غريبة عنه، عليه أن ينمو في جو تسوده الحرية والاستقلالية، وبنفس الجدية على الباحث، أثناء دراسة الظواهر الإنسانية، ألا يتخلى عن معتقداته، بل عليه التجرد منها وإرجائها إلى حين، كلما استطاع إلى ذلك سبيلا. وهذا بالضبط ما يصبو إليه البحث العلمي الخالص.
أما فيما يتعلق بتقييم سعة المعرفة كما هي، فيمكن تبريرها أيضا وذلك من خلال وجهتي النظر التاليتين:
الأولى: اعتبار سعة العلم وغزارته كشرط ضروري لإنجاز أي بحث جاد، تنعكس نتيجتها كقيمة اجتماعية، وأن تقييم سعة العلم هاته في حد ذاتها، كمطلق يتوخاه الباحثون من أجل معرفة عميقة بالموضوعات التي يشتغلون عليها، له دون شك تأثيره الإيجابي على مستوى البحث العلمي.
الثانية: على اعتبار أنه لا يمكن الجزم أبدا بمعرفة مسبقة بالقيمة العلمية والعملية لمجموعة من الوقائع لم يتم بعد سبر أغوارها، بما فيه الكفاية.
هناك، بدون شك، أبحاث تتسم بالمعرفة الخالصة، أي بالمعرفة من أجل المعرفة، وفي ذلك مضيعة للوقت وللطاقة، لكنها على كل حال ضريبة لا يمكن التملص منها في مراحل البحث الأولى. ولقد أثبتت التجربة على أن الدعم والحرية الكاملة التي يستند إليها هي أفضل ما يمكن فعله على المستوى النفعي.
غير أن هذا لا يجب أن يحجب عنا حقيقة إبستمولوجية هامة، كان كارل ماركس قد أثبتها سنة 1846م في كتابه قضايا حول فيورباخ، والتي سلطت الدراسات الأخيرة، السيكولوجية والإبستمولوجية التي قام بها جان بياجي، الأضواء عليها مجددا. وتتجلى هذه الحقيقة، في كون الفكر الإنساني عامة والمعرفة العلمية التي هي ضمنيا مظهرها الخاص، يرتبطان بكل الأنشطة الإنسانية وبمدى تأثير الإنسان في المحيط الذي يعيش فيه. وإذا كان الفكر العلمي من هذه الزاوية يشكل غاية الباحث، فإنه خلافا لذلك، لا يعتبر سوى وسيلة لكل هيئة اجتماعية بل للبشرية قاطبة.
غير أنه من هذا المنطلق، تبدو المنفعة العملية للعلوم الفيزيائية-الكيميائية مسألة بديهية. إذ هي تشكل الركيزة التي تقوم عليها كل تقنية، والوسيلة التي تمكن، ليس فحسب من التنبؤ، كما كان يرى أوجست كونت بل ومن الإنتاج والسيطرة على الطبيعة والعمل على تغييرها أيضا.
لكن هذه البداهة نفسها تطرح مشكلة الدعامة التي تقوم عليها العلوم التاريخية.
*فما الدافع من وراء معرفة أحداث فريدة متجذرة في الزمان والمكان خصوصا إذا كان الأمر يتعلق بأحداث تنتمي إلى الماضي؟
لنسقط من حسابنا في الحال الاعتقاد بأن المنفعة الأساسية من دراسة التاريخ تكمن في استخلاص العبر أو تلقين الناس طريقة ما للسلوك، لأجل تحقيق غاياتهم المنشودة، سواء تعلق الأمر بالظروف الراهنة أو المستقبلية. كلا، إذ من المؤكد أن الظروف التاريخية في غالب الأحيان ليست متماثلة بين الأجيال، بل إنها تتغير رأسا على عقب وباستمرار. فنحن لن نجد، مثلا في الحروب البونيقية ما يمكننا من كسب معركة بزمننا هذا، كما أن الثورة الفرنسية أو الإنجليزية لن تفيدنا في حل مشاكل تطرحها الثورات المعاصرة. ومن جهة النظر هاته، فإن القيمة النفعية للعلوم التاريخية تكاد أن تكون منعدمة، مما يستوجب النظر إليها باعتبارها حالة مثلى لعلم يكتسي صبغة علمية صرفة خالية من أية منفعة.
ومع ذلك فإنه يتهيأ لنا في حالة ما إذا قمنا بذلك أننا سنخلط بين السمة الخالصة التي يكتسيها بالضرورة كل بحث فردي وبين الخاصية التي يقوم عليها، خلافا لذلك، كل نسق معرفي ممثل في وظيفته الاجتماعية، والتي ترتبط بالتطبيق وبممارسة الحياة. غير أن ما يبحث عنه الناس أو تبحث عنه جماعة ما في دراستها للتاريخ ليست سوى إضافات ولواحق لوسائل تتمثل في الأساليب والتقنيات، بينما الهدف هو البحث خاصة عن قيم وغايات.
إن مشكل الأسس الأنطولوجية والإبستمولوجية للتاريخ ما هي إلا وجه خاص من أوجه المسألة الأنطولوجية العامة لعلاقات الناس ببعضهم، والذي اصطلح عليه بعض الفلاسفة المعاصرين، انطلاقا من الموقف الديكارتي الخاص، مشكلة "الغير"، إلا أن الإشكال في نظرنا، إذا ما أردنا توخي الدقة، يجب أن يعنى بقضية "النحن" ولا يبدو هذا على أي حال مجرد لعب بالكلمات، بل إنه يشكل أحد المرتكزات الهامة لانطلاق الفلسفة الحديثة.
"أنا أفكر، أنا موجود"، هكذا كتب ديكارت، مبرزا تلك "الأنا" التي ستظل دعامة لكل فلسفة ذات نزعة عقلانية أو نزعة تجريبية من خلال "مونادات" لايبنتز وحسية التجريبيين و"الأنا" عند فيشته Fichte وحتى الخصائص المنفصلة جذريا عن بعضها البعض عند سبينوزا Spinoza، إلى أيامنا هذه، حيث وقفنا، عند قراءتنا لأحد فصول النحو للسنة الرابعة، على التأكيد التالي، والذي اعتبر كمسلمة: "الضمير أنا ليس له جمع، بينما الضمير نحن لا يعني سوى أنا وأنت". من هذا المنظور وبما أن الأنا تعتبر المعطى الأول والأساسي، ونقطة الانطلاق، فإن مشكلة العلاقات بين الناس، عندما تطرح، تصبح بالطبع مشكلة "الغير". هكذا يتحول الآخرون إلى مجرد وجود فيزيقي محسوس. إنهم ببساطة يغدون مجرد كائنات ترى وتسمع كما أرى وقوع الحجر أو أسمع صدى سقوطه، عندئذ، لن يعود هناك بالإمكان أي مجال للدهشة، حين نتبين أنه إذا كان هناك بالفعل تاريخ خارجي، عقلاني أو تجريبي (إمبريقي)، فلن يبقى، في إطار هذين المنظورين، أي أثر لفلسفة التاريخ. وذلك لأن الماضي أساسا في منظورهما، هو مجرد ماض ليس له أية أهمية وجودية لا في الحاضر ولا في المستقبل.
خلافا لذلك، فإن الفكر الجدلي قد أقدم على خطوة ربما قد تكون جريئة عندما دعا، عبر نداء هو أقرب للبيان، إلى إعلان التغيير الجذري الذي أحدث في الفكر الفلسفي. وردا على فكرة الأنا عند كل من منتاني Montaigne وديكارت Descartes، أجاب باسكال Pascal "أن ليس هناك ما هو أمقت من الأنا". ومن هيجل إلى ماركس، شيئا فشيئا، لم يعد بالإمكان النظر إلى الآخرين على أنهم مجرد كائنات ترى وتسمع أو موضوعات للمعرفة، بل عناصر فاعلة، تعمل مع بعضها بصورة مشتركة. هكذا غدت "النحن" حقيقة جوهرية بالنسبة لتلك "الأنا". وفي أيامنا هذه استطاع بريشت B.Brecht أحد كبار الشعراء الثوريين، إعادة صياغة هذا الموقف بألفاظ تذكرنا بجملة "لبرونو" ولكن بعد قلب معناها. وهاكم واقعة أخرى تسير في نفس الاتجاه. فقد طلب أحد الرأسماليين المعمرين المالكين لأحد المعامل، من عامل هندي أن يضحي من أجل المعمل، (باعتباره مؤسسة حضارية مشتركة) فأجابه العامل: "نحن وأنا وأنت دوال مختلفة"، الشيء الذي يعني بأنه ليس للفظ "نحن" من مدلول إلا في إطار الجماعة الحقيقية، بيد أنه داخل المصنع ذو الشراكة المزعومة فكل واحد يجري وراء هدف محدد، فالعامل يبحث عن أجره بينما ينتظر الرأسمالي ما سيحققه من أرباح. على أي حال، فالانتقال من وضعية "الأنا" و"الأنت" الخاطئة إلى "نحن" الحقيقية والواعية هو ما يشكل مسألة الدعامات الإبستمولوجية للتاريخ.
انطلاقا من هنا يتحتم علينا تصور المشكلة التي كانت بداية انطلاقنا والمتمثلة في أن الدعامة الأنطولوجية للتاريخ تتجلى في علاقة الإنسان بالآخرين وأنه لا وجود للأنا الخاصة، الفردية، إلا بالنسبة للجماعة. إن ما نبحث عنه في معرفة الماضي وسبر أغواره، هو نفس الشيء الذي نبحث عنه في معرفة الأشخاص المعاصرين لنا. إنها قبل كل شيء مواقف الأشخاص الأساسية والتجمعات البشرية اتجاه القيم والجماعة والكون برمته. وإذا كانت معرفة التاريخ، بالنسبة لنا، تمثل أهمية عملية قصوى، فلأن ذلك سيكشف لنا عن الكيفية التي ناضل بها أناس في ظروف مغايرة لظروفنا وبوسائل مختلفة لوسائلنا، من أجل قيم ومثل قد تكون مشابهة أو مختلفة عن قيمنا ومثلنا. عمل كهذا يجعلنا نشعر بأننا كلا واحدا مع الأجيال السابقة، حيث يسمو بنا هذا الكل فيصل الماضي بالحاضر وبالمستقبل أيضا، وبعبارة أخرى يشكل ذلك العمل، الجسر الرابط بين الأجيال المتعاقبة. إن الوعي التاريخي يبدو هكذا حاضرا، كلما تجاوزنا ذاتيتنا، وهذا الوعي هو ما يشكل بالضبط أحد أهم الوسائل التي تساعدنا على تحقيق التجاوز ذاك. إن الماضي من وجهة نظر النزعة العقلانية ليس إلا غلطة تسهم معرفتها في الكشف عن تطور الفكر، أما بالنسبة للنزعة التجريبية، فالماضي ليس سوى تراكمات لأحداث واقعية تبدو من حيث هي كذلك أكيدة بالنسبة لمستقبل متوهم وغير مضمون، وحده النهج الديالكتيكي باستطاعته تحقيق تلك النتيجة التركيبية، وذلك بفهم الماضي كمحطة وطريق ضرورية ومشروعة نحو فعل جماعي يتحقق من طرف أناس ينتمون لنفس الطبقة في الحاضر لتحقيق جماعة أصيلة وكونية في المستقبل.
إن ما يثير اهتمام الناس بالتاريخ هي تلك المتغيرات التي تطرأ على الفاعلين في إطار العلاقة الديالكتيكية: الناس-العالم، إنها متغيرات المجتمع الإنساني.
يستنتج مما تقدم أن موضوع العلوم التاريخية يتشكل من مجموع الأعمال الإنسانية عبر تسلسلاتها في كل الأزمنة والأمكنة، سيما إذا كان ولا يزال لها تأثير على الوجود الإنساني وعلى بنية جماعة بشرية ما، وضمنيا على وجود بنية الجماعة الإنسانية الحاضرة أو المستقبلية.
هذا التعريف لا ينطبق على ظواهر اجتماعية مثل الحملات الصليبية أو الثورة الفرنسية فحسب، بل وعلى تصرفات وأعمال فردية أيضا كحياة نابليون أو أفكار باسكال أو أعمال القديس دومنيك وغيرهم. ولهذا السبب يبدو أن هذا التعريف يسمح بتسليط الضوء على مشكلتين غير حقيقيتين، غالبا ما نجدهما ضمن تآليف تهتم بالميتودولوجيا:
الأولى: تتعلق بمفهوم الحادثة التاريخية التي تتحدد بمدى تأثيرها أو بقيمها،
الثانية: تتعلق بمسألة الاختيار بين القوى الجماعية (المشتركة) وبين عمل العظماء (صانعي التاريخ!؟) ومدى تأثيرهم على صيرورة التاريخ.
يبدو أن المنظرين في ميدان العلوم الإنسانية ينقسمون إلى فريقين حسب الأطروحة التي يتبناها كل فريق، فيما يخص مسألة اختيار أحداث تاريخية بعينها من ضمن مجموعة من الوقائع. فإدوارد ميير مثلا يؤكد في أطروحته على أن وقائع ما لا تصبح تاريخية إلا إذا تركت أثرا بارزا على سير الأحداث (الإنسانية)، غير أن ماكس فيبر في معرض تعقيبه على هذا الطرح، أشار إلى أنه من المستحيل الانتقاء بين وقائع ذات تأثير كبير، والاستحالة تلك تعود بالأساس إلى عدم القدرة على تصنيف الأحداث إلى تاريخية وأخرى غير تاريخية. لهذا السبب يعتقد ماكس فيبر الذي ينتمي إلى المدرسة الكانطية الجديدة، بأن المقياس الوحيد الذي يمكن من انتقاء الأحداث، هي الأهمية التي تكتسيها هذه الأحداث مقارنة بسلاليم القيم التي نعتمدها. وهكذا يمكن لحدث ما أن يصبح فعلا تاريخيا، رغم تاثيره الضئيل على الناس، في حدود ما إذا كان باستطاعته، مثلا، التعبير عن موقف إنساني أساسي اتجاه قيم ذات أهمية وطيدة العلاقة بالقيم التي نؤمن بها اليوم.
هكذا نلمس بكل سهولة، إذا ما حظي تعريفنا هذا بالقبول، بأن المسألة لا تعدو أن تكون مصطنعة. ذلك، لأنه ما دامت الإنسانية تعتبر كقيمة كونية تنطبق على كل الناس، فإن كل ما كان وما يزال له تأثير ملحوظ على الطبيعة الإنسانية هذه، وكل ما يسهم في تجاوز الفرد ليمس الحياة الاجتماعية، بما في ذلك الحياة الفكرية وبصفة خاصة القيم، يعتبر حدثا تاريخيا.
إن المقياس السالف الذكر هو الذي يحدد أهمية عظماء الرجال في دراسة التاريخ، تلك الدراسة التي تجعل نصب أعينها الاهتمام فقط بالحياة الاجتماعية بكل أشكالها وبكل ما يمارس تأثيرا على الجماعة البشرية في الماضي أو الحاضر، ينطبق هذا أيضا على حياة وأعمال الأفراد. فلو أن نابليون بونابرت ولد قبل خمسين سنة، أي في عهد لويس الخامس عشر لما كانت لحياة هذا الضابط الشاب سوى أهمية حكائية مثيرة، على اعتبار أن الظروف كانت ستحد ربما من طاقته وفعله.
وبالمثل فترجمة حياة راسين أو كيركجور لا تهم التاريخ في شيء إلا بمقدار محدود جدا وبطريقة غير مباشرة عبر الإيضاحات التي من المحتمل أن تكشف عنها جوانب متعددة من مؤلفاتهما. ومع ذلك فهذه الأخيرة من حيث هي كذلك، تعتبر حدثا تاريخيا من الأهمية بمكان، نظرا للتأثير الذي مارسته، في حقبة معينة، والذي ما تزال تمارسه على طريقة الإحساس والتفكير لدى أناس يشكلون مجتمعا معينا. وبنفس القدر تعتبر سيرة لسيد إقطاعي عاش في القرن العاشر أو الحادي عشر الميلادي ذات أهمية قصوى بالنسبة للمؤرخ نظرا لما تقدمه من خصائص نموذجية تمكن من إدراك أسلوب حياة الأسياد في تلك الفترة، أو من فهم موقف إنساني معبر بشكل خاص اتجاه بعض القيم الأخلاقية أو الاجتماعية. غير أن هذه السيرة تبقى دراسة واسعة ومعمقة ولكن غير ذات أهمية، خاصة إذا ما تعلق الأمر بسرد حالة فردية لا هي نموذجية ولا معبرة، ولم تترك أي أثر في الجماعات المعاصرة لنا.
هكذا يعتبر كل ما يفعل فعله في الجماعة الإنسانية حدثا تاريخيا، على اعتبار أن الحياة الاجتماعية هي القيمة الوحيدة المشتركة التي تجمع بين الناس في كل زمان ومكان. إن ما نهتم به في الأحداث التاريخية بالدرجة الأولى هو دلالتها الإنسانية لا حقيقتها المادية، تلك الدلالة التي لا يمكن طبعا معرفتها بمعزل عن تلك الحقيقة. فأهمية الدراسة التقنية والمعمقة للوسائل والأسباب العسكرية التي وظفها مثلا فريدريك الثاني أو نابليون لكسب معركة ما، تكمن بصفة خاصة فيما نستخلصه من الطاقات البشرية والجسدية والنفسية المبذولة التي اعتمدها هؤلاء العواهل لبلوغ أهدافهم، والصدى الذي تركته أعمالهم في نفوس معاصريهم، ورد فعل هؤلاء، إلى آخره. وبالجملة تكمن أهمية تلك الدراسة في كل ما يسمح بتجاوز الطابع الحكائي المثير والطابع العلمي الأكاديمي للحدث، والذي يشكل، على كل حال، جزئية ليس إلا. والأهم من هذا كله هو الوقوف عبر هذه الجزئية، على ما يمكن من إقامة علاقة إنسانية إيجابية أو سلبية بيننا وبين أناس الماضي. (مثلا يمكن أن نكتب نيرون أو نيقولا الأول محل نابليون فالأمر لدينا واحد). وفي هذا إشارة إلى ذلك الاختلاف الجوهري بين التاريخ الذي يعنى بدراسة بعض السلوكات الإنسانية، وبين العلوم الفيزيائية-الكيميائية التي تدرس المادة غير الحية. بمعنى أنها لا تعنى بالأحداث إلا من الناحية الخارجية من حيث هي معطى واقعيا ملموسا.
أما المؤرخ فإنه يجد نفسه أمام أفعال أنجزت عن قصد ووعي (سواء كان هذا الوعي صحيحا أو مغلوطا) والذي عليه قبل كل شيء، أن يبحث عن دلالتها. فالقول بأن انفجار بركان فيزوف قد حدث سنة 79م، والبحث عن الأسباب الفيزيائية لهذا الانفجار، تختلف عن مسألة إعادة أثر الظاهرة على سكان هيركلنوم وبومبي وتمثل رد فعلهم إزاء هذا الحدث. إن أحد المزايا الرئيسية للاتجاه الظاهراتي للمدرسة الجشطلتية في السيكولوجيا لتكمن في محاولتها التركيز على أهمية هذا الوعي والدلالات التي تمثلها السلوكات والأحداث، بالنسبة إليها. بهذا المعنى نجد أن دراسة التاريخ هي قبل كل شيء فهم أفعال الناس، والدوافع التي تحركهم والغايات التي يتوخونها والدلالات التي تمثلها لهم تصرفاتهم وأفعالهم.
ومع ذلك فهل هذا كل شيء؟ إننا لا نعتقد ذلك. إن النقص الذي يؤخذ على الظاهرانية في نظرنا هو اقتصارها، عن قصد، على الوصف التفهمي لأحداث الوعي (أو بتعبير أدق، لماهيتها). إن البنية الحقيقية للأحداث التاريخية، بالرغم من ذلك، تتضمن زيادة على قصدها الواعي في تفكير وغايات الفاعلين، معنى موضوعيا مغايرا بكيفية ملحوظة في الغالب:
*هل كانت الحروب التي خاضها نابليون حروبا ذات صبغة دفاعية أم هجومية؟
*هل كان القصد منها خلق هيمنة أوربية أم فقط الدفاع عن مكاسب الثورة الفرنسية ضد حكومات النظام القديم وفي نفس الوقت فرض واقع دولة برجوازية جديدة بالقوة، من المحتمل أن تصبح منافسا لأنجلترا؟
إن الإجابة على هذه الأسئلة تتعلق بالطبع بنتيجة الدراسات المتخصصة شريطة أن يتم إنجازها على مستويين:
أ ـ المستوى الأول يتعلق بوعي الفاعلين الرئيسيين، وخاصة لدى نابليون نفسه.
ب ـ المستوى الثاني ويخص العوامل الاجتماعية، الاقتصادية، السياسية التي جعلت أمر قيام هذه الحروب لا مناص منه، بغض النظر عن غايات حكام الإمبراطورية والدلالة التي تكتسيها تلك الحروب في نظرهم.
وفي نفس السياق، فإن إحلال رتب وألقاب النبالة التي كان الإمبراطور، مثلا، ينوي إقامتها بدلا من الألقاب القديمة وخلق نبالة تكون أقل أو أكثر مماثلة لطبقة النبلاء في النظام القديم، لم يستطع أن يمحو ذلك الفارق الموضوعي والأساسي بين نبالة البلاط المرتبطة بالنظام الملكي القديم ونبالة الإمبراطورية المرتبطة موضوعيا بمكتسبات الثورة والمتجلية في قانون نابليون:
(إلغاء حقوق الأسياد، بيع الأملاك الوطنية…)
إن أي مؤرخ لفترة سيادة الإمبراطورية، لا يمكنه الكشف عن بنيتها الاجتماعية إذا ما تجاهل رغبة حكامها في محو كل أثر لفترة اليعاقبة (Les Jacobins) ودعم النظام الاجتماعي الجديد لرد الاعتبار إلى طبقة النبلاء والعودة إلى الشرعية، دون أن تترك في الخفاء تشبتها الموضوعي بالثورة والنضال ضد النظام البائد.
هكذا يبدو أن القيام بدراسة الأحداث التاريخية والاجتماعية يجب أن يتم على مستويين، مما يستلزم أيضا معيارين من أجل أحكام القيمة، والتي ينبغي أن تأخذ بعين الاعتبار ليس فقط التلاحم والترابط الإنساني والقوة الإبداعية لدى الأفراد بل وأيضا التناسق الموجود بين وعيهم الفردي والحقيقة الموضوعية. هذا الاعتبار يطرح إحدى المشاكل الأساسية في سوسيولوجية الروح، إنها مشكلة الإيديولوجيا، التي تتميز بشساعة موضوعها مما يمنع من دراستها بعمق، والتي هي بالرغم من ذلك تشكل صلب موضوع هذا العمل، وصلب موضوع أية دراسة سوسيولوجية تبذل كل ما في وسعها للإلمام بالمظاهر الجوهرية للحياة الإنسانيةn
إضافة تعليق جديد