الحجاب فريضة ثابتة أم مسألة خاضعة للتطور التاريخي؟
د:سامح عسكر
كلما خلعت فنانة مصرية حجابها، يثور جدل في الوسطين الشعبي والثقافي. حصل ذلك مع سهير رمزي وشهيرة وحلا شيحة والمطربة حنان وصابرين وإيمان العاصي ونورهان وعبير صبري، كما حصل مع ناشطات سياسيات كنوّارة نجم وإسراء عبد الفتاح.
يحدث ذلك لأن قضية الحجاب تمثّل واحدة من أهم مشكلات الفكر الإسلامي المُعاصر، نظراً إلى ما فيها من محمولات تتعلق بحرية المرأة والطفل وحقوق الإنسان من جهة، والعلاقة بين الجنسين من جهة ثانية، وطبيعة الدولة ما بين مدنية ودينية من جهة ثالثة.
الحجاب في التاريخ
تاريخياً، "كان للمرأة في بلاد الفرس مقامٌ سامٍ في أيام زرادشت، فقد كانت تسير بين الناس بكامل حريتها سافرة الوجه، ثم انحطّت منزلتها بعد دارا، فلم تكن نساء الطبقات العليا يجرؤون على الخروج من بيوتهن إلا في هوادج مسجفة، ولم يكن يُسمح لهن بالاختلاط بالرجال علناً. وحُرّم على المتزوجات منهن أن يرين أحداً من الرجال ولو كانوا أقرب الناس إليهن كآبائهن أو إخوانهن. ولم تُذكر النساء قط أو يُرسمن في النقوش أو التماثيل العامة في بلاد الفرس القديمة"، حسبما يروي ويل ديورانت في كتابه "قصة الحضارة"، ما يكشف أن حرمان المرأة من الظهور العام والاختلاط لم يكن قاعدة ثابتة على مر العصور.
وفي كتابه "الحجاب في التاريخ"، يميّز الكاتب الأردني أيوب أبو دية بين وضعي "الإماء" و"الحرائر" في ما خص الحجاب. يقول: "كان الحجاب إلزامياً على النساء الحرائر في آشور حوالي القرن 12 ق. م.، أما النساء الأخريات من الإماء والسيئات الصيت فكن يُمنعن من ارتداء الحجاب تحت طائلة عقوبات شديدة". وهذا التمييز تشير إليه أيضاً باسمة كيال في كتابها "تطور المرأة عبر التاريخ".
وتثبتت فكرة وجود هذا التمييز إلى حد دفع الشيخ محمد علي السايس إلى تحليله ومحاولة تسويغه، في كتابه "تفسير آيات الأحكام". يقول: "الإماء بطبيعة عملهن يكثر خروجهن، وترددهن في الأسواق ومحال البياعات في خدمة سادتهن، وقضاء مصالحهم، فإذا كُلّفن أن يتقنعن، ويلبسن الجلباب السابغ كلما خرجن، كان في ذلك حرج ومشقة عليهن، وليس كذلك الحرائر، فإنهن مأمورات بالاستقرار في البيوت، وعدم الخروج منها إلا في أوقات الحاجة الشديدة، فلم يكن عليهن من الحرج والمشقة في التقنّع والتستر ما على الإماء".
انتشار الحجاب حديثاً
يقول الكاتب والباحث المصري عماد عبد الحافظ لرصيف22 إن "ظاهرة لبس الحجاب تُعَدّ الأصل الآن منذ أن بدأت في الظهور في سبعينيات القرن الماضي ثم ترسخت كعادة اجتماعية ودينية وأصبحت تتم بشكل تلقائي في وسط شريحة كبيرة من المجتمع، لكن الظاهرة الأحدث والجديرة بالدراسة هي خلع العديد من النساء والفتيات للحجاب، خاصة في الفترة بعد 2011، وهي ظاهرة آخذة في التزايد وذلك من خلال متابعة العديد من الشهادات التي ترويها نساء عن قصتهن مع لبس الحجاب وخلعه"، وهي مسألة لا يمكن تحديدها بدقة نظراً لغياب الإحصاءات ذات الصلة.
والحديث عن ظهور الحجاب في السبعينيات بتأثير من مدّ الإسلام السياسي، خاصةً في مصر والحقبة الساداتية، يُقصد به عودته إلى الانتشار الكثيف بعد بضعة عقود شهدت تخففاً منه، خاصة في المدن.
من جانب آخر، ينظر الكاتب والباحث المصري حسام الحداد إلى الأمر بصورة مختلفة. يقول لرصيف22: "دائماً ما نقيس خلع ولبس الحجاب بالنسبة إلى المدن وليس الريف المصري خاصة المدن الكبرى كالقاهرة والجيزة والإسكندرية وهذا يُعَدّ مقياساً خاطئاً، إذ لا تزال ظاهرة انتشار الحجاب والداعين إليها ظاهرة واسعة إذا ما قورنت بخلعه، وهذا نتيجة طبيعية لانتشار التشدد داخل المجتمع خصوصاً في أوساط الطبقات الدنيا التي تنظر إلى ارتداء الحجاب من واقعها الاقتصادي"، بمعنى أن هذه الطبقات الدنيا تميّزت في الشكل عن الطبقات العليا والوسطى والنخب التي انتشر بينها خلع الحجاب في السنوات المئة الأخيرة، فأصبحت ظاهرة تغطية الشعر ذات بعد اجتماعي- طبقي أضيف فوق البعد الديني الذي برز في عصر الصحوة الإخوانية.
أياً كان الحال، هناك اتفاق على أن ارتداء الحجاب لا يزال ظاهرة منتشرة بكثافة، ويرى عبد الحافظ أن هناك ثلاثة عوامل تكمن خلفها، الأول يتمثل في اهتزاز الصورة الذهنية لرجال الدين خاصة ممثلي التيار الإسلامي الحركي، إذ كانت الصورة الذهنية عنهم قبل الثورة تحمل قدراً من الثقة، لكن أداء التيار الإسلامي بكل تنوعاته بعد الثورة تسبب باهتزاز صورته بعدما رأى الناس طبيعة خطابه المتعالي والمثير للأزمات.
والسبب الثاني، يتابع، هو الشعور بالوهم، فقد ازدادت درجة الوعي بعد الثورة، بفعل انتشار وسائل التواصل الاجتماعي وزيادة مساحة النقد للفكر الديني. أما السبب الثالث فهو التمرد على وصاية المجتمع، فبرأيه غالبية المحجبات ارتدين الحجاب بضغط من الأهل دون اختيار، وانتظرن اللحظة المناسبة للتخلص من ذلك الإكراه والاضطهاد.
خلاف داخل أروقة الأزهر
في فتوى له في كانون الأول/ ديسمبر 1979، يقول شيخ الأزهر ومفتي مصر الأسبق الشيخ جاد الحق علي جاد الحق إن "النصوص الشرعية توجب على المرأة المسلمة أن تستر جميع جسدها فيما عدا الوجه والكفين فلا يجب سترهما، على ما عليه أكثر فقهاء المسلمين، وللزوج شرعاً ولكل ولي كالأب والأخ والابن إجبار المرأة على الالتزام بما فرضه الله، وللزوج حق على زوجته إنْ خالفت ولاية تأديبها بالموعظة الحسنة ثم بالهجر في المضجع ثم بالضرب غير المبرح مع الصبر عليها في النصيحة والعظة" (فتاوى الأزهر 1/ 315).
وبنفس المعنى أفتى الرئيس الأسبق للجنة الإفتاء في الأزهر الشيخ عطية صقر في أيار/ مايو 1979: "حجاب المرأة مفروض بالكتاب والسنّة، وإذا كان الله ورسوله قد أمرا به فلا يتوقف التنفيذ على إذن أحد من البشر، والزوج الذى يأمر زوجته بخلعه عاصٍ لأنه يأمرها بمعصية، كقوله لها لا تصلي ولا تصومي، وذلك إثم عظيم لأنه يأمر بالمنكر، وبالتالي يحرّم على الزوجة أن تطيعه في ذلك، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق" (فتاوى الأزهر 9/ 479).
"الحجاب ليس من الدين في شيء ولا يوجد نص ديني واضح وصريح يتحدث عن شعر المرأة خصوصاً في القرآن، أما مجموعة الأحاديث التي تتحدث عن غطاء شعر المرأة فمعظمها إما ضعيف أو أحاديث آحاد لا يُسَنّ بها تشريع ومعظمها راجع لتأثير الحضارات الأقدم من العربية والأديان الأقدم من الإسلام"
لكن في المقابل، يخالف أستاذ الفقه المقارن في جامعة الأزهر الدكتور سعد الدين الهلالي هذا الطرح، ويرى أن "كل هذه الآراء بشرية مبنية على فقه بشري وليس إلهي، ولا تنطلق من القرآن الكريم بل من أحاديث ضعيفة السند مطعون في صحتها أشهرها ‘يا أسماء إذا بلغت المرأة المحيض لا يظهر منها سوى هذا وذاك، وأشار إلى وجهه وكفه’".
واستعرض الهلالي رأيه بالتفصيل في برنامج الحكاية المُذاع على قناة "أم بي سي مصر" مع الإعلامي عمرو أديب يومي 27 حزيران/ يونيو 2022 و5 تموز/ يوليو 2022. أشار إلى أحاديث صحيحة السند تقول إن النساء لم يكن يرتدين الحجاب أمام الرسول، بل كنّ يجلسن أمامه كاشفات الشعر والرؤوس مثل حديث "عن سعد بن أبي وقاص أن عمر بن الخطاب جاء يستأذن على رسول الله وعنده نسوة يسألن ويستفسرن عالية أصواتهن، فلما سمعن صوت عمر قمن يبتدرن الحجاب، وأن رسول الله ضحك حين رأى عمر وعندما سأله ابن الخطاب أخبره بأمر النسوة، فنظر إليهن عمر وقال: ‘ياعدوات أنفسهن أتهبنني ولا تهبن رسول الله؟’، قلن: ‘نعم لأنك أغلظ’".
وفحوى هذا الحديث أن النساء لم يكن يرتدين الحجاب أمام رسول الله، وأنهن كن يخشين عمر لأنهن يعلمن أنه شديد، وهذا سبب إنساني وليس إسلامياً.
وختم الهلالي رأيه بالإشارة إلى أن "الفقهاء القدامى لم يُفتِ أحد فيهم بفرضية الحجاب ولكن هذا لفظ مُستحدث ظهر مع الصحوة السلفية الإخوانية في السبعينيات، والقدماء اختلفوا فقط في مفهوميّ ‘ستر العورة’ و‘الزينة الظاهرة’".
وأضاف أن الإجماع مسألة بشرية و"مثلما أفتى كل الفقهاء القُدامى بوجوب ستر العورة التي منها شعر المرأة، ذكر المتأخرون مثل محمد عبده وعبد المتعال الصعيدي وعشرات غيرهم أن هذا الستر عُرفي وليس شرعياً، وأن الفتوى الخاصة بالحجاب هي مسألة تطور تاريخي"، ليخلص إلى أن الحجاب فرض فقهي وليس فرضاً شرعيا وأن الفرض الفقهي هو فهم الفقهاء للدين لا الدين نفسه.
بين الحجاب والنقاب
تتباين آراء رجال الدين حول وجوب ارتداء الحجاب و/ أو النقاب. في كتاب يحمل عنوان "الحجاب"، يقول المنظّر الإسلامي أبو الأعلى المودودي (1903- 1979) بفرضية النقاب، فبرأيه، ما يجب ستره ليس فقط شعر المرأة ولكن وجهها أيضاً.
واختلف الشيخ محمد الغزالي (1917- 1996) مع ما ذهب إليه المودودي وكتب رداً عليه في كتابه "هذا ديننا": "لقد ألف الأستاذ الكبير أبو الأعلى المودودى كتاباً عن الحجاب شدد فيه الخناق على المرأة، وغالى بقيمة النقاب حتى جعله ديناً ورفض أن يرى زينة المرأة أدنى أقربائها". وإلى نفس الرأي ذهب الشيخ محمد ناصر الدين الألباني (1914- 1999)، في كتابه "الرد على مَن تشدد وتعصب وألزم المرأة بستر وجهها". ولكن الاثنين يقولان بفرضية الحجاب وغطاء شعر المرأة في سائر أعمالهما.
في الجهة المقابلة، يختلف الكاتب والباحث حسام الحداد مع هذه الآراء ويقول لرصيف22: "الحجاب على المستوى الديني ليس من الدين في شيء ولا يوجد نص ديني واضح وصريح يتحدث عن شعر المرأة خصوصاً في القرآن، أما مجموعة الأحاديث التي تتحدث عن غطاء شعر المرأة فمعظمها إما ضعيف أو أحاديث آحاد لا يُسَنّ بها تشريع ومعظمها راجع لتأثير الحضارات الأقدم من العربية والأديان الأقدم من الإسلام والتي اتخذت سطوتها وقت التدوين في القرنين الثالث والرابع الهجريين".
رصيف 22
إضافة تعليق جديد