موقف عبد الاله بلقزيز من التراث
جعفر حسين:
طرح د. عبد الإله بلقزيز، أربع أسئلة معرفية محورية في تطرقه لمسألة التراث و سؤال أخير منهجي.
السؤال الأول هو لماذا الاهتمام بالتراث؟ حيث بين أن هناك أهمية للمسألة (مسألة التراث) في الوعي العربي المعاصر، بل وفي الاجتماع العربي أيضا.
إن هذا الاهتمام بالماضي على وجه التعيين يدل على أن الفكر العربي فكر ماضوي راكد، يعيش على الماضي ويتعيش منه، لكن هناك من تتلمذ على الثقافة الغربية والذين أسسوا إشكالية التراث في الوعي العربي المعاصر.
إذن يستنتج الدكتور عبد الإله بلقزيز بأن هناك حقيقتين تلقيان الضوء على تضخم السؤال التراثي في الوعي العربي المعاصر: حقيقة مجتمعية، وحقيقة ثقافية.
الحقيقة الأولى، تعود إلى حالة الإخفاق والانسداد التي ولجتها البلاد العربية منذ القرن 17 عشر في جميع الميادين، هذا الحاضر المأزوم هو الذي سيعيد السؤال حول التراث التاريخي والفكري والعقدي.
الحقيقة الثانية، إخفاق الحاضر أي حاضر العرب، في إنجاز مطالب النهضة و التقدم والحداثة و سواها، و على ضوء ذلك طرح الدكتور عبد الإله بلقزيز سؤالا جوهريا هو هل بوسع جيل القرن العشرين التماس الحلول لمشاكل العصر من المدونة التراثية؟
وأمام هذا السؤال الجوهري يعتمد الدكتور عبد الإله بلقزيز على ثلاث مقاربات أو مقالات، فما هي هذه المقالات؟
المقالة التراثية، هي مقالة تقوم على عقيدة إيمانية قاطعة تقول بأهلية التراث لتقديم إجابات عن أسئلة حاضرنا وحلول لمشاكل عصرنا.
أما المقالة الحداثية، هي تلغي أي مساهمة فعلية للتراث للإجابة عن أسئلة تهم حاضرنا، فهو يمثل أيضا سلطة على الحاضر وبالتالي يمثل عائقا معرفيا بالمعنى الباشلاري للكلمة أمام تقدم وعينا، وأمام قدرتنا على صوغ تصورات مناسبة لتحدياتنا الاجتماعية والثقافية الراهنة، وأن كل تقدم معرفي أو اجتماعي يفترض نقد التراث والتحرر من سلطته.
و أخيرا المقالة الوظيفية، فتعتبر التراث منظومة من الرموز القابلة للتوظيف في السياق الاجتماعي بعيدا عن فكرة الخطاب والصواب وثنائية الجيد و السيئ.
إن المقالتان الأولى والثانية، إلى المقاربة المعرفية اللتان تنتظمان على قاعدة إبستيمولوجية: الصدق والكذب، الصواب
و الخطأ، ومن ثم هناك تحكيم المعيار المعرفي قاعدة في النظر إلى قيمة التراث.
أما بالنسبة للمقالة الثالثة فهي تنطوي تحت المقاربة السوسيولوجية التي تهتم وتنصرف إلى الاهتمام بقيمة ووظيفية الأفكار أي أن تساهم به في تنمية الفعالية وفي تحقيق المنفعة، إن قيمة الأفكار تكون في قدرتها واستطاعتها في قيامها بجملة من الوظائف.
أما السؤال المعرفي الثاني فيتمثل في أن معركة تأويل التراث معركة من أجل امتلاك الحاضر واحتكاره.
بين في البداية الدكتور عبد الإله بلقزيز على الاختلافات في النظر إلى مسألة التراث بين التيارين السلفي و الليبيرالي، ورغم أن التيار الثاني جاء متأخرا في الاهتمام بهذه المسألة، ولكن إحساسه بحقه في شرعنة حديثه عن ذلك، أصبح يسعى بجهده لقراءته وتأويله لتحقيق وعي جديد بهذا الرأسمالي التراثي.
ويذهب الدكتور عبد الإله بلقزيز أن معركة تأويل التراث، ومحاولة امتلاكه والسيطرة عليه واحتكاره، من حيث هو رأسمال رمزي، هي- في جوهرها- معركة تأويل الحاضر وامتلاكه واحتكار صوغه، إنما هي معركة اجتماعية - سياسية من أجل تحقيق السيطرة المادية.
إن المنتصر في معركة تأويل التراث واحتكار تمثيله والتعبير عنه، هو الأقدر على التقدم بثقة أكبر لامتلاك الحاضر، والسيطرة عليه واحتكار تمثيله، وقدرة على طرح الأسئلة الملحة والعميقة التي تخص الحاضر هو الأقرب على السيطرة عليه وعلى بقية الأطراف والفاعلين الاجتماعيين والثقافيين والسياسيين أيضا.
أما السؤال المعرفي الثالث فمتمثل في اعتبار التراث سؤال إيديولوجي.
إن المقاربة الأيديولوجية للتراث هدفها هو في توظيفه، فهي قراءة نفعية في المقام الأول، قراءة تتجه إلى تعبئة التراث في معركة ترسم لها حدودها وقواعدها وغاياتها سلفا، وتعين للتراث موقعا ووظيفة فيها.
فهذه القراءة النفعية، هي قراءة وظيفية، أي بما يسعفه به من وظائف قابلة للأداء وهو ما يفسر ظاهرة الطلب المتزايد على التراث من قبل مختلف تيارات الفكر العربي في العقود الثلاثة التالية، وصيرورته ميدانا فسيحا للصراع بينها.
إن التراث يتعين- من منظور إيديولوجي- بوصفه رأسمالا رمزيا قابلا للاستثمار الاجتماعي أو السياسي بسبب ما يحيل به من إمكانيات هائلة لتعبئة الحاضر، ويقصد بالرأسمال هنا هو جنوح جميع تيارات الوعي العربي- دونما استثناء- إلى توظيفه في معاركها الثقافية والأيديولوجية.
لكن هناك خطرين على هذه النظرة الأيديولوجية فما هما هاذين الخطرين؟
أ- فضائح الانتقائية: يبين الدكتور عبد الإله بلقزيز هنا نزوع مختلف التيارات لتعزيز آراءهم بالتوجه إلى التراث متوسلا به قصد إشباع حاجته حول ما يحمله من أفكار(المثقف التنويري العقلاني، المثقف الماركسي، المثقف السلفي، والمثقف الرفضوي الحانق على النظام القائم...).
إن هذه المقاربة الانتقائية للتراث تؤسس لهذه القواعد المغشوشة، فهي حسب الدكتور عبد الإله بلقزيز تزوير لتاريخية التراث، وفصل تعسفي لترابط حلقاته، وممارسة إسقاطية عليه.
ب- التحزب التراثي: بمعنى محاولة تقمص دور زيد و عمر في الصراعات التي دارت رحاها بين مفكري الماضي(معتزليا ضد الأشاعرة أو العكس، ومتصوفا ضد الفقهاء...)، إن هذا التحزب بقدر ما يمثل إهدارا لتاريخية القول التاريخي، فهو شكلا من أشكال الاستلاب الأيديولوجية لما يمارس من طرف المثقفين العرب.
أما السؤال الرابع فهو يمزج بين المعرفي و الأيديولوجي في الدراسات التراثية إذ تقع مسألة التراث- إذن- في منطقة جذب مغناطيسي بين المعرفي والأيديولوجي، إنها مسألة حاضر يفرض على الوعي رحلة شاقة في الماضي والحاضر. الأهم هنا هو البحث عن تبرير صلتي الفكرية بالتراث أو قيمته، ومن خلال هذه الصلة يمكن طرح سؤال عن علاقة الفكر العربي الحديث بماضيه، ويتجلى لنا من خلال ذلك رؤيتين، فما مضمون ها تين المقالتين؟
المقالة الأولى تتحدث عن وجود علاقة استمرارية بين الفكر العربي الحديث وماضيه النظري(الفكرة السلفية) بشقيها الراضي عنها(محمد عبده على سبيل المثال) والمحتج عليها(محمد عابد الجابري مثالا).
المقالة الثانية تذهب إلى القول بحصول انقطاع تاريخي حاسم، ويتجلى ذلك عند(سلامة موسى، طه حسين، من ناحية،
و مهدي عامل أو علي أومليل أو عزيز العظمة من جهة أخرى) في إدراك مواطن تلك القطيعة الفكرية، فالجامع بين هؤلاء جميعا هو الاعتقاد بزوال الحاجة إلى التراث لتقديم أجوبة عن الحاضر: الفكري والاجتماعي، بسبب زوال شروط استمرار سلطته المعرفية.
إنه من خلال المقالتين هدف أيديولوجي مضمر: الصراع على تعريف أو تعيين نوع المشروع الاجتماعي المطلوب في الحاضر والمستقبل.
وقد يوجد في الأولين(الأوائل) من هو مستعد لتوجيه مثيله من النقد للغرب وللكونية، غير أنه في الحالتين فإن النقد يتعرض إلى العناصر وليس إلى البنية.
أما السؤال المتعلق بالمناهج في تحليل التراث هل هي معرفية أم أيديولوجية؟ يمكننا أن نرصد أربعة مقاربات منهجية للتراث تداولا في الـتأليف العربي المعاصر:
أ- المقاربة الاستبطانية: استبطان المعطى التراثي الذي يشتغل عليه وإعادة إنتاجه بوصفه معطى معاصرا أو قابلا للمعاصرة، إنها تستعرض المادة التراثية على نحو استرجاعي استظهاري، ولكنها مقاربة عرفت تطورات من تأويل المادة التراثية في البداية إلى التسلح بمعطيات علوم الألسنية و السيميائيات الحديثة- باجتراح "أدوات تراثية" داخلية(غير خارجية) لتحليل التراث ويمثل المغربي طه عبد الرحمن أحد رواد هذا المنحى.
ب- المقاربة الفيلولوجية: تنزع إلى رد المعطى التراثي إلى وصوله، وتقع في عملية مقارنة بين"الفروع" والوصول"، فهي لا تقدم أية مادة علمية جديرة بالانتباه.
ج- المقاربة الجدلية: تعمد على قاعدة فرضيتين، الأولى في كون الأفكار تعبير خارجي عن صراع اجتماعي- طبقي في المجتمع العربي، وثانيتهما أن الصراع الفكري بين تيارات الفكر التراثي وهو تعبير داخلي عن التناقض بين المنزعين المادي والمثالي في الثقافة العربية الوسيطة، وقد عبرا عن هذه المقاربة كلا من الطيب تيزيني و حسين مروة في مفرداة: الواقع، علاقات الإنتاج، قوى الإنتاج، البنية التحتية، البنية الفوقية، الصراع الطبقي، التناقض المادي... وهي مفاهيم المادية الجدلية، لكارل ماركس ومقاربته.
إن هذه المقاربة تتحدث عن بيئة الأفكار، فقيمة المعطى الفكري تتحدد قيمته بما يسمح من إمكانات لإدراك الواقع.
د- المقاربة الإبستيمولوجية: تنظر هذه المقاربة إلى التراث من الداخل، أي كبنية فكرية- تنتظمها شبكة من العلائق المفاهيمية والدلالية- مستقلة عن محيطها التاريخي، وقد نجد أثر هذه المقاربة عند محمد عابد الجابري، و محمد أركون، بأدوات التحليل البنيوي(في اللغة- والدلالة- وعلم النفس)، وهو ما يدفعها إلى التفكير في كلية التراث على نحو ما تتجلى لها في نظم المعرفة الحاكمة له والسائدة فيه، وإلى ممارسة النقد النظري لتلك النظم وللعقل(العربي عند الجابري والإسلامي عند أركون) الذي ينتجها.
ماذا وراء هذه الوصفات المنهجية؟
يطرح في هذا السياق الدكتور عبد الإله بلقزيز سؤالا مهما وهو متعلق بالخلفية الأيديولوجية للمقاربات المؤسسة لكل منها: المقاربة الاستبطانية انتصارا صريحا للفكر التراثي، فهو واضح بذاته، إن التراث - في هذه المقاربة - فوق النقد- والمهم هو إبلاغه بوسائط مختلفة من استعادة النص إلى إعادة بنائه بتقنيات منطقية تركيبية.
وعلى الضد والخلاف من ذلك تحاول المقاربة الفيلولوجية إسقاط أية أصالة عن المادة التراثية، وتحويل التراث إلى مجرد شرح ونقل لتراث الحضارات السابقة، بهدف إعدام أية مساهمة من الثقافة العربية في التراكم الثقافي الإنساني.
في حين أن المقاربة الجدلية، فلا تبتغي أكثر من إدخال التراث والمجتمع العربيين الوسيطين في نظام قوانين التطور التاريخي الجدلي بهدف الانتصار للمنهج الجدلي وإسباغ الشرعية على النظرية والمنهج الماركسي؟
وأخيرا بالنسبة للمقاربة الإبستيمولوجية، فهي مادة طيعة لتمرين نظري يجرب فيه أدوات ومفاهيم العلوم الإنسانية المعاصرة، وممارسة نقد شامل يعيد النظر في مرجعية التراث، ويرفع عنه القداسة.
و في النهاية يمكن اعتبار أن هذه المناهج ليست محايدة تماما من التوظيف و الإيديولوجيا من أجل غايات وأهداف ليست بالضرورة علمية كما تدعيه هذه المقاربات.
إضافة تعليق جديد