مسح دماغ
عندما يعلن عن مسحوق تنظيف جديد على الفضائيات، يتخذ المسحوق لنفسه اسماً براقاً ومغرياً وناصع البياض، مثل تلك الملابس التي تخضع لمعالجات «كومبيوترية» لا نهايات لها. يوضع قبالة المسحوق مسحوق من دون اسم، أي أنه مجهول الهوية، لا حسب له ولا نسب، ولا أحد يصنعه في الوقت الحاضر، ذلك أنه يترك الملابس، إن استخدم، على حالها من دون أن يتدخل لإزالة البقع العنيدة. طبعاً معظم الفضائيات تعلن عن المسحوق، أو مساحيق أخرى بالطريقة ذاتها، لا تستخدم ذلك فقط من أجل تضليل المشاهد المسكين، بل تهرباً من دوار المحاكم والقضاء. فليس بوسع منتج مادة استهلاكية أن يتعدى على حقوق منتج آخر مهما بلغ شأنه وشأن منتجه، وهذا أصبح معروفاً في لعبة السوق. وثمة هنا من يستفيد بالطبع، فهو المنتج أولاً، والمحطة الفضائية التي تعمل على الترويج للمادة الاستهلاكية عبر الإعلان عنه ثانياً.
يقول الكاتب الأميركي هنري ميللر في معرض توصيفه للظاهرة الإعلانية إنه اذا أخفق الشيوعيون في بلدانهم سابقاً، في عمليات مسح الأدمغة التي لجأوا اليها بين الشباب بكتابة العبارات على الجدران، وفي المدارس، وفي المصانع، فإنما للجوئهم الى أساليب متخلفة في الدعاية الحزبية التي هربوا اليها، مع سماكة من الغبار على آليات التفسير النظرية، ما جعلهم يراوحون في أماكنهم اقتصادياً واجتماعياً، وأدى الى انهيار مدو كذلك الذي شهدنا عليه مع انهيار الاتحاد السوفياتي، إذ سرعان ما انفرط «العقد الاشتراكي» ووقف كل بلد في زاوية، بعضه يلهث نحو اتحادات أخرى، وبعضه الآخر يستقوي بأحلاف عسكرية على حلفاء الأمس...
ولكن هذا يحدث هناك، في دول لم يكن بوسعها أن تذهب أبعد من ذلك، ولكن ما الذي يحدث عندنا – يضيف ميللر – «اذا تعرض المواطن لأن يكون مشاهداً طوعياً لـ13 ألف إعلان في العام تكون من نصيبه هو وحده». 13 ألف إعلان، لا يمكن أن تكون عن مادة استهلاكية واحدة. طبعاً من يخسر أعصابه في هذه المعركة الغامضة بين المُنتَجَين (باعتبار أن أحدهما لا اسم له) بين الاستراحة والاستراحة ليس هو الا المشاهد المسكين الذي لا حقوق له، وهو يدفع متأنياً ثمن عملية مسح الدماغ التي يتعرض لها إذا شاهد إعلانات أخرى عن مساحيق كثيرة وبأسماء متعددة... وهذه تحصل، إذ غالباً ما نكون شاهدين بالفعل على مثل هذا الطوفان الإعلاني المؤلف من أسماء لا حصر لها.
فجر يعقوب
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد