تخليص الإبريز من أنوثة باريز (2)
تبدو باريس كمتحف كبير يخترقه نهر السين، كل ما فيها أثري وعتيق باستثناء زوارها المتجددين، إذ يؤمها سنوياً 75 مليون سائح نصفهم من عجائز بريطانيا الذين يتناولون أدويتهم بانتظام كيما يتمكنوا من الاستمرار في الحياة وفي كره الفرنسيين!!
أغلب الذي التقيناهم من دبلوماسيين، في الخارجية والإليزيه والشيوخ، كانوا يرددون أغنية ساركوزي «الاتحاد من أجل المتوسط» وعند الشرح كنا نلاحظ أن فكرتهم عن هذا الاتحاد غامضة كغموض «الرسالة الخالدة» التي أطلقها البعثيون منذ نصف قرن ولم ندرك فحواها بعد، وغائمة كأغنية «الإسلام هو الحل» دون أن ندري أي إسلام يقصدون: الوهابي أم العثماني، الإخواني أم الجهادي... ولكن مالنا وللمحافظين الأصوليين في بغداد ودمشق والصنمين، طالما أننا نستطيع رؤيتهم في باريس التي توقفت بدورها عن إنتاج الحداثة منذ ستينات القرن الماضي: في الثقافة والسياسة والفنون وحتى في.. السكس، حيث يبدو شارع البيغال كمتحف للجنس أكثر من كونه مولّداً للخيال، وليس كما كان عليه الحال قبل نصف قرن عندما انتشر "الأسلوب الفرنسي" بين جيل الآباء وكنا نتاجه الجيد فيما أرى... فباريس اليوم مفتونة بالأمريكي ومقلدة لحداثته، غير أن تقليدها يبدو بائساً وغير مقنع، تماماً كما هو الحال في تقليد الموارنة اللبنانيين لأشقائهم الفرنسيين، عندما أرادوا أن يحجلو في مسيرتهم، فلا هم أصبحوا حجلاً ولم يستطيعوا أن يبقوا غربان -عفواً- أقصد عربان في أخضرهم لبنان..
وعطفاً على المقدمة والـ75 مليون سائح الذين يدخلون باريس، وعلى طريقة شوفيرية التكاسي الذين يقارنون دائماً بين نظام الخدمات الغربية وفوضى خدماتنا المحلية، تندرنا في باريس على الأرقام السياحية وقلعتنا السورية وآغتها الاشتراكي الأنيق، الذي يتباهى كل يوم بالـ4 ملايين سائح الذين يدخلون البلد، دون أن يذكر أن نصف هؤلاء هم من العراقيين الهاربين وربعهم من السوريين العائدين والباقي من الإخوة العربان العابرين من سورية إلى لبنان للقاء حسناواته بالأحضان..
وعلى ذكر الحِسان والأحضان فقد لبينا دعوة الخارجية الفرنسية لحضور عرض راقص في «الطاحونة الحمراء» التي أنتجت هوليوود فيلماً استعراضياً عنها، وبينما أنا ذاهب في نشوتي "الثقافية" أتأمل ثمانين ثدياً عارياً لأربعين راقصة لا يسترهن سوى مثلث ذهبي في وسطهن تذكرت أغنية «الإتحاد من أجل المتوسط» ورأيت أنها تبدو كأغنية جيدة من وجهة نظر فنية واجتماعية ولكنها ستبدو فاشلة من وجهة نظر سياسية بين شمال لا يستطيع أن ينظر إلى الجنوب نظرة نديّة وغير استعلائية.. وفيما أنا على هذه الحال من التمعّن والتأمل في حديقة الجمال جاءني اتصال من أم العيال على الموبايل: - كيفك حبيبي.. اشتأتلك.. – وأنا يا روحي حابب أرجع لعندك بأول طيارة – وشوها الموسيقى اللي سامعتا كأنك سهران بشي ملهى.. – أبداً يا حبّي.. أنا مع شوية دبلوماسيين باردين عم نسمع فرقة سيمفونية مملة لعازفين عجائز.. ولم يؤنبني ضميري كثيراً بعد هذه الكذبة، فقد أحسست أن لدي مقومات الكذب الأنيق الذي يميز السياسيين عن سائر المواطنين، فلا تستغربوا فيما إذا استوزروني بدلاً من أن يسجنوني، لأن الكذب ملح السياسييين وخبز الموظفين وخلاص المتزوجين إلى يوم الدين ..
نبيل صالح
المصدر: جريدة "الخبر" السورية
إضافة تعليق جديد