رحيل التشكيلي السوري مصطفى فتحي
خسرت الحياة التشكيلية في سورية واحداً من أبرز فنانيها، حيث غيّب الموت أخيراً الفنان التشكيلي مصطفى فتحي (مواليد درعا ١٩٤٢)، بعد مكابدة طويلة مع المرض، الذي لم يكن لينال من عزيمة الفنان، حيث أقام معرضه الأخير في متحف الفن المعاصر في مدينة اللاذقية، الشهر الفائت، إلى جانب الفنانين ليلى نصير ومصطفى علي وعبد الكريم مجدل بيك.
نشأ الفنان في مدينة درعا (جنوبي دمشق)، التي شهدت أولى محاولته في الرسم (، وقد تتلمذ على يد الفنان التشكيلي المؤسس محمود حمّاد، الذي درّس الرسم لبعض الوقت في تلك المدينة. وحين درس في كلية الفنون الجميلة بدمشق اختار فتحي قسم الحفر، الذي كان يرئسه حمّاد، فبرع في اختصاصه، وتفوق فيه، وعاد مدرساً في كلية الفنون.
أما دراسته في فرنسا، وكذلك زواجه من فرنسية، فقد فتحا عينيه بقوة على تراث بلده، فجال في مختلف القرى والبلدات السورية ليكتشف كمّاً كبيراً من المرقعيات والأغطية والمنسوجات التزيينية، عرض جزءاً كبيراً منها العام ١٩٩٠ في المركز الثقافي الفرنسي بدمشق إلى جانب جدارياته الكبيرة المنفذة بطريقة الطباعة التقليدية اليدوية السورية على القماش بواسطة القوالب والأختام الخشبية. المعرض الذي حمل عنوان »سورية؛ دلائل على القماش« اعتُبر لدى النقاد شجاعة وفرصة لمقارنة النماذج المثقفة من الأقمشة الملونة مع أصول استلهامها. لكن الفنان لم يكتف بالفنون الشعبية في بلده، فقد بحث أيضاً كثيراً في مصادر الفن الأفريقي، وفن القطب الشمالي، وروسيا القديمة، وأستراليا. ولكنه بقي شديد الانتماء إلى بيئته حين »كان يربط بين التشكيلات اللونية في الأقمشة الشعبية ونواظم تقسيمات زراعة الحقول المفتوحة على الشمس والأفق«، حسب الناقد والفنان أسعد عرابي، وهو بالفعل كان عبّر عن ذلك في حوار سابق حين أشار إلى واحدة من لوحاته، وقال: »أنظر إلى هذه اللوحة، ألا ترى أنها مجرد أحجار في السهل«.
وظل الفنان يعتبر على الدوام أن الزخرفة جذر لعمله، وأنها ترتبط عضوياً بالحياة الشعبية والفلاحية، لكونها تبغي إضفاء البهجة على الواقع بدلاً من رسمه، وتبتعد عن التأثير الجاف لفن المثقفين وغطرسة ورياء الفهم البرجوازي، لذا أخذ بالتعرف على الفنون الشعبية والفلاحية بكل مظاهرها واعتبرها إرثاً شرعياً ينبغي هضمه.
المعتكف
تنقّلت لوحات الفنان فتحي بين دمشق وعمان وباريس ومختلف المدن الفرنسية، وكان متحف مولوز العالمي اقتنى من أعماله خمسة تصاميم قماشية، فكان أول فنان عربي يدخل هذا المتحف. ولكنه كان على الدوام معتكفاً، غائباً عن الوسط الفني، إلى حدّ النسيان، بين محترفه الفرنسي في قلب العالم، ومحترفه في درعا، على تخومه. لكن العام ٢٠٠٧ كان فاصلاً بالنسبة للفنان، فحين أقامت عائلته معرضاً له في غيابه، في مرسمه الدمشقي في حي الشاغور البراني، تعرفتْ »غاليري أيام«، إحدى أبرز صالات الفن التشكيلي في دمشق، إلى أعمال الفنان، فاقتنتْ حوالى مئة من عيون أعماله، ومعروف أن تلك الغاليري هي أبرز من قدّم الفنانين السوريين إلى المزادات العالمية، لذلك من المتوقع أن تُدرج أعمال مصطفى فتحي في تلك المزادات، إلى جانب الفنانين السوريين الرواد أمثال فاتح المدرس ولؤي كيالي ومحمود حماد، وسواهم. يمكن القول إذاً إن فتحي قد استأنف الآن حياته من جديد، بعيداً عن عزلته الاختيارية، ومنفاه.
حين أسترجع اليوم لقاءاتي القليلة بالفنان الراحل، بين مرسمه الدمشقي والدرعاوي، أشعر حقاً بأنني تعرفت إلى تجربة استثنائية لفنان أصيل. أستعيد اليوم بساطته وعمق ثقافته وسخريته المحببة فأشعر بالخسارة والأسف بفقد فنان زاهد بالحياة إلى هذا الحد، فنان عاش كل عمره لفنه وحسب.
راشد عيسى
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد