أمل دنقل ينتصر على الموت بقصائد "الغرفة 8"
القارئ لديوان أمل دنقل أوراق "الغرفة 8"، سيلاحظ هيمنة وطغيان ثيمة الموت، وتتكرر مفردة الموت ومشتقاتها كالرصاص، الدم، السكين، التراب... في القصيدة الواحدة أكثر من مرة، وهذا يعزى إلى الظروف النفسية للشاعر، وهو ينتظر الموت كخلاص من عذابات السرطان الذي نخر جسده النحيل، أمّا كشاعر فقد انتصر على المرض الخبيث، وترك للأجيال هذا الديوان الخالد في القلوب، والغرفة "8" أقام فيها أمل دنقل أكثر من عام ونصف العام بمعهد السرطان، وفي قصائده ذلك الوعي الشقيّ والحادّ لدى المبدع المرهف الإحساس، الذي يدرك بحدسه أنّ أيّامه في الدنيا صارت معدودة، وألفيتني مشدوها أمام صوره الشعرية النابضة:
هل أنا كنت طفلا...
أم أن الذي كان طفلا سواي؟
وهو الجنوبي الذي يخشى قنينة الخمر والآلة الحاسبة، ويشتهي أن يلاقي "الحقيقة والأوجه الغائبة"، ولعلّ قصيدة "الجنوبي" عكس بقية قصائد الغرفة "8" موغلة في الأسى والانهزامية، كأنما الشاعر يرفع الراية البيضاء، وينتظر مصيره المحتوم.
في قصيدة "ضد من": يقف حائرا أمام البياض :"كل هذا البيّاض يذكرني بالكفن"، نقاب الأطباء، لون المعاطف، تاج الحكيمات وأردية الراهبات، أربطة الشاش، القطن، قرص المنوم، أنبوب المصل، كوب اللبن"الحليب". كل هذا البياض، حتى لو كان رمزا للنقاء والبراءة والطهر، يشيع في قلبه الوهن.
بيد أن ما يثير الدهشة، أنه في مقابل هذا البياض الرهيب، يأتي المعزون متشحين بالسواد!، فهل السواد/ لون الحداد لون النجاة من الموت، تميمة ضد الزمن؟ أم ضد من؟ يتساءل الشاعر، وبين اللونين يستقبل أصدقاءه، الذين يرون في سريره قبرا، وحياته دهرا، وفي العيون العميقة لون الحقيقة، ولون تراب الوطن.
ورغم ما قيل عن أمل دنقل، ونعته بالشاعر الصعلوك، فقد بقي وفيّا لقضية شعبه، للبسطاء الذين كان واحدا منهم، عميق الارتباط بوعي القارئ ووجدانه، كما تشي بذلك قصائده اللاذعة، وعفوية التعبير، دون الاختباء خلف بهرجة الألفاظ، وتزييف الحقائق، كما يفعل الكتبة والمتشاعرون.
في "زهور": كتب برهافة الشاعر الذي يلتقط كل ما هو منسيّ ومهمّش في الحياة اليومية، ولا يهتم به الآخر. كتب عن الزهور التي تجود بأنفاسها الأخيرة، ما "بين إغفاءة وإفاقة"، يستحضر رحلة الموت، التي تبدأ بقطفها، وانتزاعها من عرش جمالها، و تحويلها إلى مجرد شيء للزينة، يخضع لمنطق البيع والشراء، في زمن تعليب و تسليع كل شيء!
"السرير": رغم أن هذا الجماد/ السرير جرّده من إنسانيته، من هويته وصار شاعرنا مجرد رقم، وبيانات على ورق صقيل معلّق على واجهة السرير، لكن أمل دنقل يؤنسن هذا السرير، إنه كبقية الأسرّة، لا يستريح لجسد حتى يألفه، إذ سرعان ما يغادر من ينام فوقه، بالانغماس في نهر الحياة، وصخب اليوميّ أو ينحدر جهة القبر، هما طريقان لا ثالث لهما.
"ديسمبر": يشبه الشاعر الموت بطائر الرخ، الذي تهديه الراهبات التوابيت و"المبادلة الخائبة"، يحبّ ظلمة العدم الآسنة، يتلقى النفايات تلو النفايات دون كلل، ولا يحب المطر، ولا أن يتطهر بـ "الرقة الفاتنة".
ديسمبر، إنه شهر الوداع والرحيل، ويثير في النفس شجنا وأسى غامضا لدى الأسوياء، بالأحرى شاعر عليل يترقب لحظاته الأخيرة. هذا الموت الذي لا يحبّ البساتين، ولا فصل الربيع.. هو صديق للخريف والنهايات وذبول الأوراق والغبار وتعفن الثمار والجدران المتآكلة.. إنه مثل فصل الخريف، الذي لا يحبه أحد، لأنه مرادف للموت.
ومن قصائد الديوان الجارحة بمتقابلاتها وأضدادها "الطيور"، حيث يقارن بين الطيور التي لا تغادر علياءها، ولا تستكين للناس، بعكس الدواجن التي تقأقئ حول الطعام المتاح، وتنتظر "سكينة الذبح" من اليد الآدمية التي تهب القمح، و" تعرف كيف تسن السلاح " أيضا.
الطيور الأولى لا تحتوي الأرض جثمانها إلا عند الاستقرار النهائي، مع السقوط الأخير، وكأن الدواجن علمت سلفا بأن "عمر الجناح قصير..".
هي رؤية للموت من خلال التحليق/ الحياة/ الاندفاع ، وكأن الشاعر تلبسته روح المعري في هذا النص.
"الخيول": كانت برية طليقة، وصارت للرهان، السباقات، المركبات السياحية، و التقاط الصور...
و"في بكائية لصقر قريش" يتساءل أمل:
فمتى يقبل موتي...
قبل أن أصبح – مثل الصقر-
صقرا مستباحا؟!
في"قالت امرأة في المدينة:" كتب عن جيل الإحباط والخيبة، والقدس التي لم تُرَ إلا في الصور، والمعتقلين السياسيين الذين يحفرون أسماءهم بأظافرهم على جدران الزنازن المعتمة، و"الصور المنزلية للشهداء" التي يعلوها الغبار، ولا أحد يلبي نداء القدس السليبة غير صورة الجد وسيفه الصدئ المعلقين على الجدار، وهو نفس المشهد الذي استهلّ به القصيدة.
وفي قصيدته "إلى محمود حسن إسماعيل" يستحضر وجوه الغائبين، وألفة الوطن التي ترحل من العين، والاغتراب:
نتغرب في الأرض. نصبح أغربة في التآبيـنٍ ننعي
زهور البساتين.
ولا يقرأون من الصفحات الأولى للجرائد غير العناوين، ثم تغوص الأعين في الصفحات ما قبل الأخيرة، مستعيدة ألفة الأصدقاء، وذكرى الوجوه، والحيوية، والدهشة... والبياض الوحيد المرتجى، الذي يتوحدون فيه هو "بياض الكفن".
الجدير بالذكر أن شاعرنا كان ضد التطبيع مع الكيان الصهيوني، وقصديته الشهيرة "لا تصالح" خير دليل إثبات، وكذلك قصيدته التي أدان فيها الهوان العربي والإحساس العام بالانكسار "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة".
كانت قضيته الأولى والأخيرة هي الحرية، فعاش عاشقَا لها، ممتلئا بحب الحياة والشعر أيضا. كان يقاسم أصدقاءه غرفاتهم وأسرتهم ورغيف خبزهم وكتبهم، كان" ينتمي إلى الريح والاضطراب"، بتعبير زوجته الكاتبة والناقدة عبلة الرويني، كان "تاريخ الأرصفة هو تاريخه الشخصي".
لقد عاش أمل دنقل وتشرد من أجل الحب والحرية والكرامة، ولم يبال بحطام الدنيا، ونختم هذه القراءة المتواضعة بشهادة رفيقة دربه، وهي غنية عن التعليق: "يوم السبت 21 أيار 1983 سألته: هل أنت حزين؟ فأشار وهو عاجز عن الكلام تماما بأن: نعم. وفي الثالثة صباحا حاول نزع حقنة الغلوكوز من يده. رفضت الممرضة وشقيقه نزعها، فنظر إليّ وكانت عيناه تطلبان مني الراحة، فنزعت الحقنة من يده. أغمض عينيه في هدوء ودخل في غيبوبة أخيرة، لقد كان وجهه هادئا وهم يغلقون عينيه، وكان هدوئي مستحيلا وأنا أفتح عيني".
هشام بن الشاوي
المصدر: العرب أون لاين
إضافة تعليق جديد