الذكرى الرابعة لرحيل محمد الماغوط مرّت بصمت
محمد الماغوط، الذي رحل عنّا في مثل هذه الأيام منذ أعوام أربعة، هو بين الأجمل في انبثاقات الشعر العربي الحديث: ثمة دمَّلٌ في خاصرته لا يهادن. إنه الجنون الأكثر نقاءً. معادلة عصيّة على التفسير اجتاحت الشعر العربي وخربطت أنسابه باعتباره ابن نفسه وأباً روحياً لأجيال من الشعراء بعده ساروا في درب القصيدة الشفوية نثراً وتفعيلةً وليس نثراً فقط كما يتكرر. إنه ألمٌ يفتخر بعريه وكبريائه يقف وسط الشارع، يغرس يده في الإسفلت لنراها جميعاً عاريةً، ناشفةً ومرعبة، أصابعها المتشققة تشير نحونا، ونحو السماء.
جاءت صورة الماغوط الشعرية صادمة صافعة ببساطتها ودهشتها وتكثيفها وتفرعها من جسد النص كقصيدة مستقلة بنفسها على هدي "كليلة ودمنة" وذلك بالاعتماد على التشبيه. من ذلك قوله في قصيدة "مروحة السيوف" التي يرثي فيها نفسه، وهي آخر قصيدة منشورة في دواوينه الثلاثة المطبوعة في مرحلة شبابه: "كسكير يحاول اقتحام الحانة بعد أن طرد منها مئات المرات". أجل هذا الثائر المسنّ الواهن مدمن الأمل، حاول الدخول في الحياة مئات المرات وطُرد مئات المرات ليقيم في برزخٍ شعري بحجم الروح.
في مرحلة سابقة كان محمد الماغوط الترياق السحري للخروج من سطوة شعر محمود درويش عليَّ. فقد كان شعره أرضاً وعرةً أجري فيها بساقين عاريتين وركبتين متشققتين وعينين تبتلعان السماء. مع الوقت أمسى ترياقاً آخر للحياة نفسها. فقد أعدتُ قراءة دواوينه الثلاثة مرات عدة في المناوبات الحالكة في المشفى بين المرضى والأطباء المرضى والفساد المنظّم. أذكر عشرات المرات التي بكيت فيها من فرط الشجن. أجل بكيت من سطوة الشعر، وأحياناً كنت أعجز عن إكمال النص. فهذا الجمال الموجع فوق قدرة قلبي على الاحتمال، إنه أنا حين يأخذني الألم وتهجم عليَّ كبريائي في بلد أسير فيه كالمنفي. إنه الصراخ المقدس، صراخٌ لحربٍ لن تقع، صراخٌ لثأرٍ عصيّ، وصلاةٌ لكبرياءٍ جريح. ثورةٌ تصل الى حدود الحبال الصوتية ولا تقدر على الخروج فعليّاً، فتعود إلى الداخل، ولا يبقى غير الدوار والغثيان. هنا تغدو الكتابة حقلاً لتصفية الحسابات وأرضاً لثورةٍ لنا أن نحلم بها ونرسم ملامحها، ولنا أن نتولع بها كامرأة مدهشة الجمال مستحيلة الوصل. إنها ذلك الطائر الغائب في "العصفور الأحدب"، وفي هذا المعنى يغدو الشعر حقلاً لتصعيد الصراعات، أو بحثاً عن التوازن الداخلي كما يرى فرويد. لا يوجد في اعتقادي من تغنّى بالثورة والعيون الهائجة، ورذاذ القلوب، والأسنان القاطعة بجنون يقرب جنون محمد الماغوط، ومع هذا سار إلى مماته وحيداً في غرفةٍ بملايين الأحلام مختاراً العزلة رداءً. إنه كالساموراي الذي خسر معركته ولكنه لم يطعن صدره بسيفه ليغرس كبرياءً لا يقدر العدو على نزعها. لقد خسر حربه بشكلٍ أو بآخر، وفضّل أن يموت بالكتابة والذكريات، وأن يعطي الموت وقته الحياتي بعيداً من الضوضاء. قرر أن يحتفي بالموت وأن يجعل من الشعر "جيفةً خالدة" تقف أمام الأبدية كالمرآة، والأهم في اعتقادي أن شعره يشكل اكتشافاً يمهد لإخراج الشعر من أزمته باعتباره يخترق الأرواح كلها وينقل الشعر نحو الحياة نفسها بعيداً من نخبويته التقليدية. ومع أنه مباشر، فهو لا يفقد ألقه وإدهاشه. إنه اكتشافٌ محلي يتجاوز الكثير من العقبات التي تحاصر الشعر العربي.
شكل الماغوط بالنسبة اليَّ باباً لاكتشاف الحواس وتنقيتها واستثمارها جميعاً في الشعر بعيداً من القوالب التقليدية والمفاهيم الجاهزة للشعر وماهيته. إنه الجنون الذي يحوك من الحياة شعراً، ينسّلها على مهلٍ ليصيد التفاصيل الصغيرة الغارقة في أعمق مناطق اللاوعي، ثم يخرجها ويعريها. مع ذلك، كثيراً ما كنت أغضب من البنية السردية الفائضة إن صح التعبير في شعر الماغوط، أو من غياب التكثيف الذي يميز الشعر عموماً عن بقية أنواع الكتابة حيث يتحول النص سرداً قصصياً يمكن حذف أجزاء منه. وودت في أحيانٍ كثيرة إعادة كتابة نص الماغوط لتخليصه من مجانية قد تؤذيه بحسب ذائقتي، وأكثر ما كان يزعجني عناوين القصائد، فكثيرٌ منها غير موفق. أقول هذا كمحبٍّ لشعر الماغوط، وأعتقد أن القراءة النقدية أو العميقة بشكلٍ أدق، جزءٌ من احترام النص وضرورة كي لا يتحول الإعجاب انقياداً سطحياً.
المفجع أن هذا البحّار المسن أصابه وهنٌ وإحباطٌ شديدان في النهاية أمام سمكة الشعر، فلم يعد هناك صراعٌ فعلي بينهما في المراحل الأخيرة، وركد إلى حدٍ ما بحر الشعر على توازنٍ هشٍّ تتحول فيه النصوص نوعاً من القفشات السياسية المتوقعة والمترهلة، وهذا ما يفجعني أمام تجربة هائلة مثل تجربة الماغوط، ويملأ فمي بمرارة قاسية. أيعقل أن يقلب الشعر العربي رأساً على عقب بثلاثة دواوين منشورة فقط؟ أين هي البقية من هذا الكوكب الشعري؟
إنه سؤالٌ يؤرقني أمام هذا الدونكيشوت الحبيب الذي صارع العالم بقلبٍ مدبّب وعين تفجر الأسوار وبصاقٍ يثقب السماء ثم يرتقها على طريقته، أيعقل أن يمضي الى الموت وحيداً، مكللاً بحزنٍ وبحةٍ ورائحة تبغ ودموعٍ قديمة وهو يقول مودعاً نفسه أمام أصدقائه: "بدأت وحيداً انتهيت وحيداً". إنه فارسٌ في زمن انكساراتٍ هائلة، فارسٌ يحارب من دون أمل فعليٍّ، أشبه بالبطل بتفار في الأسطورة الاسكندينافية الذي يملك سيفاً سحرياً يقتل العدو متى سُحب، ولكنه في معركته الأخيرة اكتشف أن الإله يحيي أعداءه بعد الموت ليعودوا إلى القتال، فقرر الموت بإرادته ليحمله البجع بعد الممات. أجل، نحن البجعات التي تحمل روح الماغوط، وترتجل نبضها من جديد لنصفع هذا العالم بقلوبنا الطرية، ونحن نعلم ككل السجناء والمنفيين خارج أوطانهم أو داخلها، أن امتلاك الحلم أهم من القدرة على تحقيقه أحياناً.
عندما أرثي الماغوط، أرثي نفسي بشكلٍ أو بآخر، أرثي كبرياءً واهنة لكنها عصيّة على الترويض. أكتب عن الماغوط الذي تُركت روحه لتصدأ بين الفقر والأحلام الكسيحة، ذلك الذي جاء تكريمه في أيامه الأخيرة سطحياً وهشاً بعد إهمالٍ طويل متعمد غالباً كجزء من تهميش الثقافة في سوريا، والذي مرت ذكرى العام الرابع على وفاته كالأعوام الماضية من دون أي اهتمامٍ فعلي.
عبد الوهاب عزاوي
المصدر: النهار
إضافة تعليق جديد