فن ارتياد المستقبل
لا شك أن الإرادة والعقل هما السلاح الذي يشق بهما الإنسان طريقه وسط غياهب المجهول, وبقيت رغبة الانسان في سبر أغوار المستقبل واستقرائه على مر العصور حلما يراود الخيال, فتجسدت هذه الرغبة في المراحل المبكرة من تاريخ الإنسانية بالأحلام والسحر والتنجيم.
واتخذت في العالم القديم الكثير من القرارات في حالات الحرب والسلام بناء على هذه الطرق التي كانت سائدة على ضوء الفهم والتطور الإنساني ومنظومة القيم الطاغية وكيفية النظر إلى المستقبل, الأمر الذي يفسر كثرة وسرعة الانتقالات العاصفة في تاريخ الشعوب وانهيار الكثير من الأمم بلا رحمة، أما الأمم التي صمدت وطاولت فكانت هي الأمم القوية التي كانت أكثر استجابة للمتغيرات وحافظت بعقلانية وواقعية أكثر من غيرها على ديمومة عناصر قوتها.
كيف ننظر إلى المستقبل؟
وفي سياق التطور التاريخي وقفت عدة عوامل خلف بروز علم "المستقبليات" كضرورة ملازمة للتطور الإنساني في مختلف الميادين وفي مقدمتها العمل السياسي، ولكي نفهم كيفية التأثير على المستقبل وآليات اختيار الاحتمالات الإيجابية واستبعاد السلبية، علينا ابتداء أن ننطلق من الفكرة التي تميز بين المستقبل كمستقبل والمستقبل عن كثب لأن بينهما فرقا كبيرا, ففي النظرة نحو المستقبل كمستقبل فإن ذلك يتضمن العواطف الإنسانية العادية, أما النظر إلى المستقبل عن كثب فإنه يعني الذهاب إلى هناك وفحص المستقبل المحتمل (الفرضيات) ثم إعداد أنفسنا طبقا لذلك.
إننا نتحدث هنا عن أساليب لدراسة المستقبل بغرض تنظيم الحاضر والابتعاد عن تركه للصدف والعمل بالطريقة التلقائية ورد الفعل، علما إن هذه الأساليب عاجزة عن توقع المستقبل بصورة كاملة ولكنها على الأقل قادرة على معرفة الأساليب التي نستطيع بها بناء المستقبل أو التأثير عليه إيجابيا من خلال دفع عناصر الاضطراب والاحتمالات السيئة باستبعاد مقدماتها بصورة مبكرة وتقليص هامش تأثيرها أو تحييدها على الأقل، بما يضمن تفادي انحرافات كبيرة عن خطة وبرنامج العمل.
لقد أصبح التنبؤ والتوقع والرؤية المستقبلية عنصرا ديناميكيا حاكما في التخطيط المعاصر, فلا يمكن لنا تصور إستراتيجية حديثة لإنجاز مشروع في حقل ما ليس لها وحدات وأجهزة ومراكز دراسات قوية تستشعر عن بعد وتستشف الاحتمالات غير المتوقعة وتضع تصورات ورؤى واضحة بغرض تفادي أكبر كلفة من الخسائر.
استيلاد المستقبل والتحكم به
فهل نستطيع استيلاد المستقبل والتحكم به؟ هذا العلم كفيل بفهم أفضل لحركة التاريخ واكتساب قدرة أكبر لفن المناورة من أجل الإمساك بأعنة المستقبل أو على الأقل وضع مقتربات صحيحة، فمثل هذه المقدمات قد تؤدي إلى النجاح ولكن المقدمات الخاطئة تفضي حتما إلى الفشل، ولمجاراة التخطيط الإستراتيجي الذي يعني فن إنجاز الأهداف السياسية، فإن مفهوم المستقبل بقدر تعلق الأمر بهذه الدراسة يرتبط بمديات التخطيط المعروفة: (المدى القريب, والمدى المتوسط, والمدى البعيد).
يمكن بناء المستقبل في كل لحظة من خلال تتابع قرارات وخطوات مدروسة ومترابطة عقلانيا, فاللحظة الحاضرة هي ليست برهة بل هي نضح متراكم من الماضي (الماضي القريب + الماضي المتوسط + الماضي البعيد) تجمعت في ساحة الحاضر، ولا يمكن لأحد الادعاء أن الماضي يعيد بناء أحداث الحاضر ولكن بلا شك فإن جذور الماضي تمتد إلى الحاضر بشكل أو بآخر, فالمستقبل هو ما يتم الإعلان عنه في الحاضر.
وفي مجتمعات ذات وعي تاريخي متخلف وغير عقلانية فإن أكثر ما تخشاه هذه المجتمعات هو ثقافة المستقبل والنظر إليه بقوة، ولأنها تخشى المجهول فإنها كثيرا ما تحتمي وتتقوقع في الماضي، لذا نجدها تستهلك معظم جهدها وثقافتها وبنسبة 90% في اجترار الماضي والخلاف عليه، ولا تعير المستقبل وبرامجه إلا جهدا ووقتا نادرا, ولا شك أن انتشال هذه المجتمعات من هوة التخلف لا يكمن في العودة الموهومة وفق قوالب جامدة أكل الدهر عليها وشرب إلى (عصر ذهبي) أو عصر غيبي غير موجود، ربما تحقق بعضه في الماضي أو لم يتحقق أصلا، وإنما وجد طريقه إلى ذاكرة هذه الشعوب عبر تراكم أساطير وخرافات لمئات السنين تعزز وجودها وترسخ كوعي بفعل التخلف.
يبدأ الحل في بناء تدريجي للمستقبل عبر خطوات مدروسة وعصرية تعتمد على المنهج العلمي وليس الإفراط في الغيبية المطلقة والقدرية المطلقة، فلقد أصبح من المسلم به في عصرنا الحالي أن نسبة الانحراف عن جوهر فكرة الدين المحببة والتي ترتبط أساسا بالعلم والعقل قد بلغت درجة كبيرة من الانحراف إلى حد تكبيل العقول وتحويل الناس إلى عبيد للديماغوجية وقطعان مسلوبة الإرادة.
إن المجتمع المدني المنشود يجب ألا يعيش غربة عن ماضيه وإنما يتصالح معه ويعيد تعريفه من خلال تبني مواقف شجاعة متدرجة ومدروسة لتهديم صروح التخلف وأصنام العبودية الجديدة من خلال الارتكاز على القيم الإيجابية في ذلك الماضي وإهمال وإلغاء بل ومحاربة كل ما هو سلبي ويعيق الحركة إلى الأمام ولا ينسجم مع جوهر الدين ولا يستجيب لمتطلبات العصر.
إن الدعوة إلى ارتياد المستقبل لا تتنافى في أي حال من الأحوال مع جوهر فكرة الدين السامية ولكنها تسعى إلى شيء واحد هو قلب معادلة التفكير في الانشداد إلى المستقبل بدل الاجترار والدوران كليا في خنادق الماضي.
ويمكن التعبير عن فن ارتياد المستقبل من خلال التعريف التالي: (إنه القدرة على تحريك واختيار احتمالات وخيارات مفيدة تمثل أحد أشكال المستقبل المرغوب فيه، ومحاولة استبعاد وتفادي أشكال المستقبل السلبية والمضرة، وذلك من خلال الإمساك بالحاضر والانطلاق منه بتدرج لبناء المستقبل).
التكنولوجيا كدالة للمستقبل
ما هي الوسائل التي يحتاجها مجتمع لينهي حقبة من تاريخ تحليقه نتيجة اليأس والإحباط من عالم الخيال والأحلام لينزل إلى أرض الواقع ويمسك بالمستقبل بقوة؟ ما هي الوسيلة المتاحة في عصرنا الحالي لردم هوة التخلف وتتيح له اللحاق بركب الحضارة الإنسانية المعاصرة وألا يكون حديقة خلفية للأمم القوية بل يكون في صدارتها؟
إن الشعوب التي ترغب في التطور عادة ما تحدث فيها الانتقالات النوعية الكبرى في تاريخها عبر أحد المولدات (Generator) الثلاثة التالية:
1- الأحداث والحروب والكوارث.
2- تضافر مجموعة مصادفات.
3- الثورات والاكتشافات التكنولوجية.
وفي عصرنا الحالي لا يمكن الإمساك بالمستقبل وتعويض فجوة الزمن الضائع إلا عبر التكنولوجيا ليس بمعناها المادي (الميكانيكي) الذي اقترن طويلا بمفهوم التكنولوجيا وإنما عبر تبنيها كظاهرة وسلوك من خلال تعيين الأبعاد السياسية والفكرية لهذه الظاهرة والاقتراب من بعدها العقلاني*.
ففي سياق تطور ظاهرة التكنولوجيا عبر تاريخها الطويل يمكن حصر عدة نقاط أساسية فاصلة شكل كل منها في تاريخ المجتمعات البشرية (ثورة) غيرت جذريا من أسلوب وحياة هذه المجتمعات مع بيئتها المادية والاجتماعية والسياسية ونقلتها مراحل إلى مستقبل أكثر قوة.
لقد اثبت المتغير التكنولوجي من خلال الدور المتزايد الذي لعبه في شتى ميادين الحياة ومن خلال تفاعله مع جميع عناصر القوة الثابتة والمتحركة أنه دافع مؤثر وفعال في الإفصاح عن محتوى جديد للقوة وأنتج آليات وأنماطا خاصة بالتكنولوجيا فقد أزاحت وحيدت وضاعفت وأضعفت الكثير من عناصر ومرتكزات مفهوم القوة التقليدية.
ــــــــــــــــــــــــ
* العقلانية (rationalism): هي منهج فكري حديث يؤمن بالوسائل العلمية طريقا للتعامل مع الظواهر السياسية والاجتماعية وغيرها, وتعتمد في ذلك على الاكتشاف التدريجي تحت رقابة التجربة لذا يبتعد هذا المنهج كثيرا عن الأحكام المسبقة والمطلقة, ولم يكن للعلوم والتطورات التكنولوجية أن تتقدم لولا منهج العقلانية وبالتالي لا يمكن للعلم أن يزدهر ويتقدم في مجتمع يرفض العقلانية.
خالد المعيني
المصدر: الجزيرة
إضافة تعليق جديد