حتى الأموات يُسرقون
أحدهم، نبش القبر، وجرّ الجثة من رأسها ويديها، لتذهب معه، إلى حيث ينتظرها ما هو أكثر رعباً من الموت ومفارقة الأحبّة، إلى مكان يصبح فيه الموت حقاً مرغوباً وليس مكروهاً، والنوم في القبر سكينة وليس رهاباً. إلى مشرحة كليات الطب ومخبرها التشريحي الوصفي..
وحيدة، ومستسلمة، تمددت على منصة التشريح، تلك الجثة التي ما كانت تعرف وهي في الحياة، أن الجسد يدفن في الحفرة المستطيلة، ذات السقف الإسمنتي، والهواء المختنق بالتراب، لئلا يتألم، ويتأذّى..
¶ خطف القبور
تعتبر الجمجمة والعظام الطبيعية من المعالم التشريحية التي لا بد أن يراها الطالب في السنتين الأوليين من دراسته للطب البشري، ضمن منهاج تشريح الرأس والعنق والحوض والأطراف علوي وسفلي، ولا سبيل للحصول على تلك القطع البشرية الحقيقية لدراسة التشريح سوى نبش القبور حديثة الدفن (بما لا يقل عن 4 سنوات من تاريخ الوفاة)، وقد اصطلح على تسمية هذه الجريمة (خطف القبور)، لتمييزها عن جريمة (سرقة القبور) تلك التي تقتصر على فتح القبور لسرقة ما يدفن مع الميت من حلي ومال، مع عدم إزعاج الجسد في نومه الأخير.
¶ لا قطع بشرية
يوجد في مخبر التشريح الوصفي في كلية الطب جامعة دمشق، جمجمتان صناعيتان، و(15) جمجمة طبيعية، في حين تحتاج الكلية بحسب الدكتور يوسف مخلوف إلى أكثر من ضعفي هذا العدد، أي بما لا يقل عن (40) جمجمة، لكي يتم تقسيم طلاب المادة البالغ عددهم (800 ) طالب إلى فئات، من 80 طالباً وطالبة، وبهذه الحال يكون لكل طالبين فرصة التعلم على جمجمة طبيعية واحدة، أما بالنسبة إلى الأطراف، فيوجد ثمانية عظام علويّة ومثلها سفليّة.
طبعاً جميع هذه الجماجم والعظام الموجودة في مخبر كلية الطب - بحسب مصادر قريبة ومطلعة- قدّمها الطلاب، وقبلتها الكلية، دون أن تسألهم من أين لكم هذا، ففي ذلك الوقت كانت الكلية تفتح أمام طلاب المادة فرصة للحصول على علامة مرتفعة في الجانب العملي، مقابل تقديمهم جماجم وعظاماً بشرية طبيعية كوظيفة.
¶ أبو الجماجم
منطقياً؛ وبما أن طلاب كلية الطب من جميع المحافظات السورية، فهناك طلاب من أبناء المحافظات الشرقية، وبما أن الكثير من مقابر تلك المحافظات متطرفة أو «مهجورة» تتعثر بعظام موتاها - بالتعبير الدارج بين الطلاب – فمن البديهي أن يكون عدد من أبناء تلك المحافظات قد قاموا بدور أبو الجماجم، وأمّنوا جماجم وعظاماً لزملائهم في الكلية..
فبعض الأطباء الممارسين للمهنة منذ أكثر من 8 سنوات، مازالوا يذكرون بالخير «الطبيب جمعة» زميلهم في الفئة، والذي أطلقوا عليه لقب «أبو الجماجم الطريّة» لخبرته الواسعة في استخراج الجماجم المحتفظة بتفاصيلها وثقوبها، ويذكرون أيضاً، أن جمعة - الطبيب لاحقاً والطالب سابقاً- لم يكن ليسمح لنفسه ببيع تلك العظام والجماجم التي لا حارس لها، لقد كانت مجرد خدمة قدمها لأترابه وزملائه طالبي العلم والمعرفة..
كاتبة التحقيق تقمّصت دور طبيبة تحت التمرين، وقصدت إحدى المقابر في منطقة ريف دمشق، لا لتدفن ميتاً أو تزوره، بل لكي تطلب من حارس تلك المقبرة تأمين جمجمة وعظمين، مقابل دفع مبلغ 5000 ل.س في الجمجمة، و2000 ل.س في كل عظم.
أخلاقياً، وقانونياً، لم تكن هناك من ممانعة، باستثناء خوف الحارس من الشرطة، التي ألقت القبض قبل ثلاثة أشهر على زميله في مقبرة المنطقة المجاورة، ذلك أن حارس المقبرة «المتعاون» هذا، أسهب في إقناعي بأن غايتنا (نحن طلاب الطب والحانوتية) في نبش أحد القبور الحديثة، وانتزاع جمجمة وعظام ساكنه، مقدّسة وإنسانية، إنها المعرفة ولا شيء غير المعرفة..
خاطفو الجثث لا يتركون فرصة لجماجم الموتى كي ترتاح، فحتى المقابر التي توقف الدفن فيها، لم يتوقف نبشها، بدليل أنها فقدت ومازالت عدداً من جماجم أبنائها.. ليس على الحانوتية فحسب، بل فعلها بعض طلاب الكلية بأنفسهم، فتحوا ليلاً القبور بأيديهم، وسرقوا ما في داخلها، إما للتعلم الشخصي، أو لبيعها لزملائهم في الكلية.
للجماجم احترامها
لطلاب كليّة الطب جامعة دمشق طقوسهم في التعامل مع الجماجم والمقاطع التشريحية، فبينما يحلف أحدهم أن واحدة من الجماجم الحقيقية الموجودة في مخبر الكلية، هي جمجمة خاله، لشدة الشبه برأس خاله المتوفى، يعرب الآخر عن أمنيته في امتلاك كل الجماجم الطبيعية التي في المخبر ليجعلها تتدلى من سقف غرفته في المدينة الجامعية وفي داخلها «لمبات» ملونة، ويظهر طالب ثالث ليقول بالفم الملآن أن لديه الرغبة في التبارز مع زميلته بعظمين الأول يعود لرجل والثاني لمرأة كي يثبت لها أن الرجل ينتصر على المرأة ويحطمها حتى بعد موت كليهما.
قدامى الطلبة في كليات الطب السورية، يمنحون الجماجم لزملائهم الأصغر سناً، أو ينشرون إعلاناً على أحد جدران الكلية السرية، عن توافر جماجم وعظام للراغبين في الشراء، ولكنهم، لم يفعلوا، ولم يفكروا لمرة واحدة، في تنظيم ورشة عمل يحضرها الطلبة المستجدون ليحدّثوهم عن تجربتهم في التدريب على جماجم الموتى، ومشاعرهم حيال ذلك، والتأكيد على ضرورة التعامل مع الأجساد بالاحترام والعرفان. علهم يتعودون حمل الأعضاء بكل عناية؛ ووضعها على المنضدة بحرص كأنهم يخشون أن يشعر الميت أو جمجمته بالألم إذا ارتطم بالسطح المعدني لمنضدة التشريح.
في حين نجد طلاب كليّات الطب في العديد من دول العالم، ينظمون بأنفسهم حفلاً جنائزياً يحضره الأساتذة لدفن الأجزاء الآدمية بعد الانتهاء من استخدامها في التعليم، وتُلقى بالمناسبة كلمات التأبين لأولئك الموتى الذين شُرحت جثثهم، أو استخدمت جماجمهم وعظامهم، عرفاناً لنبل إسهامهم في تطور الطب، كل ذلك ترسيخاً لمشاعر الاحترام والتقدير للجثث والعظام الآدمية بين أطباء المستقبل.
تحرّمه الشريعة
ليس لحراس المقابر أيّة ولاية شرعية على جثث الأموات، ونبش القبور للعبث بجثث الموتى هو عمل محرّم في الشريعة - بحسب الدكتور محمد حبش- لذا يتعين على جامعة دمشق في عصر التطور العلمي هذا أن تؤمّن جماجم حقيقية للطلبة وإنّما ليس عن طريق حراس المقابر، بل عن طريق التنسيق بين وزارات الأوقاف والداخلية والتعليم العالي لحصول كليات الطب على جثث مجهولي الهوية أو أشخاص منفّذ بحقهم حكم الإعدام، لا حرمة لهم، أولم يظهر من يطالب بجثثهم، ويمكن أيضاً من متبرعين يدونون عبر وثائق أن تستخدم جثثهم بعد الموت، أو من الجماجم والعظام المصنوعة من البلاستيك. وأيّة طريقة للحصول على جثث أو جماجم أو عظام تعليمية، ليست عبر هذه المخارج الشرعية الثلاث هي باطلة شرعاً.
وأما أولئك الذين يستخرجون الجماجم من المقابر بحكم أنّ المدفونين فيها أقرباء لهم، فحراماً يفعلون، لأنه ليس لأي إنسان ولاية على جثة إنسان آخر، ولا حتى بحكم الولاية الخاصّة.
يجرّمه القانون
نبش المقابر واستخراج العظام منها، جريمة يعاقب عليها قانون العقوبات السوري في مواده من ( 464 – 468)، وتوصّف بجريمة «التعدي على حرمة الأموات والجرائم المخلة بنظام موتهم»، والواقعة تحت باب «الجرائم التي تمسّ الدين والأسرة»
وجاء في المادة (466 ) من قانون العقوبات العام - بحسب المحامي فائق حويجة - «يعاقب بالغرامة من 100 إلى 250 ل.س؛ والحبس لمدة لا تزيد على ستة أشهر؛ أو بإحدى هاتين العقوبتين كل من أقدم لغرض علمي أو تعليمي دون موافقة من له الحق؛ على أخذ جثة أو تشريحها أو استعمالها بأي وجه آخر» وعلى اعتبار أنّ من يتاجر بمادة ممنوعة عقوبته كعقوبة الفاعل نفسه، فإنّ هذه العقوبة «تشمل الطالب كما تشمل حرّاس المقابر» بحسب المحامي حويجة.
¶ لا بديل عن التشريح
كما تحفظ الروح الجسد في الحياة، كذلك يحفظ الفورمالين الجسد بعد الموت، وإذا كان الدكتور يوسف مخلوف نفى إمكانية استخراج الجثث وإعادة تشريحها بعد دفنها في التراب، وأرجع ذلك إلى تحللها وتفسخها، فإن تقارير كبار أطباء التشريح في العالم تذهب إلى القول بإمكانية إعادة استخراج الجثة بعد مرور 7 أيام على دفنها، ومن ثم حفظها في البراد وحقنها بمواد خاصة وحفظها بالفورمالين، للحصول على حالة مناسبة للتشريح، طبعاً شريطة أن تكون الوفاة طبيعية، وليس بعمل جراحي، أو بأي سبب آخر شوه الجثة.
وتشريح الجثث، لا بديل عنه، وهذا ليس بالاكتشاف الجديد، فقد أصرّ أبو بكر الرازي - أشهر أطباء عصره - على تلاميذه الأطباء أن يعرفوا تشريح أعضاء الجسم، لما له من أهميه في كشف علاّته وأوجاعه، لذلك كان يأتي بالقرود من بلاد زنجبار في أفريقيا، ويجري عليها تجاربه التشريحية أمام تلاميذه» واليوم، وبعد قرن ونصف، ما زال الدكتور صالح داوود عميد الكلية يصر على أهمية التشريح، باعتباره والفيزيولوجيا هما عماد كليات الطب».
¶ لا جثث في المشرحة
في السابق، كانت الجثث متوافرة في جامعة دمشق أكثر من الآن، أي في فترة ما قبل ظهور الجامعات الخاصة التي باتت لا تسابق فقط في الحصول على الجثث، بل وتسبق أيضاً في الحصول عليها. ففي السنوات الثلاث الأخيرة، لم تصل أية جثة إلى مشرحة كلية الطب، ولنفترض أن لدينا الآن جثة في مستشفى معين، بالتأكيد لن تكون من نصيب جامعة دمشق» - الكلام للدكتور مخلوف- لأن الساعين إليها كثر من الجامعات الخاصة والذين يعرفون بوجودها مسبقاً ولديهم بطبيعة الحال إمكانات مالية أكبر قادرة على حل كل التعقيدات.
وهذا يعني، أن كل ما في المشرحة اليوم، وبتأكيد من أستاذ المادة الدكتور يوسف مخلوف، هو«بقايا نواحي مشرحة»، بدأ معظمها يفقد معالمه التوضيحية، ولن يكون في العام القادم أو الذي يليه كحد أقصى، وافياً بالغرض العلمي والطبي، أو قادراً على إشباع حاجات الطلاب التعليمية، «ألا يكفي أننا نحرم الطالب من رؤية الجثة وهي تشرح، لنحرمه من حقه في التعرف على تفاصيل المقاطع المشرحة» يضيف الدكتور مخلوف، معلناً بذلك عن وجود حالة غير طبيعية في الكلية تتمثل في نقص الجثث، والتي لن يتم تلافيها إلا في حال ورود جثتين إسعافيتين – إن صح التعبير – إلى المشرحة حالاً، واستكمال ذلك بتأمين 4 جثث على الأقل مع بداية العام القادم.
¶ الجثة من نصيب الأقوى
إذاً، أطباؤنا، أساتذة الكلية، لم يحدّهم عن مباشرة التشريح بالجثث مجهولة الهوية وازع الشريعة، أو ما في قلوبهم من الرحمة، ولكن، حدّهم ضعف التشريع القانوني..
بتأكيد الدكتور صالح داوود عميد كلية الطب، وجهت عمادة الكلية كتباً عدة إلى القضاء، ليسمح للمستشفيات بتحويل جثث المتوفين مجهولي الهوية أولم يظهر من يطالب بهم، إلى مشرحة كلية الطب في جامعة دمشق. شأنها في ذلك شأن الجامعات الخاصة، ولما فشلت تلك الكتب التي ثمنت دور التشريح في العملية التعليمية وفي خدمة البشرية، في إدخال أية جثة إلى مشرحة الكلية، توجه الدكتور يوسف مخلوف أستاذ التشريح في الكلية، إلى مقابلة النائب العام شخصياً، باعتباره صاحب القرار النهائي في البت بموضوع ذهاب الجثة إلى مشرحة كلية الطب، وكنت أحمل إلى ذلك اللقاء، اقتراحاً بأن يتم توزيع الجثث بين كليات الطب في الجامعات الحكومية والجامعات الخاصة بإشراف لجنة من وزارة التعلم العالي، بحيث تكون إحالة الجثث إلى هذه الكليات على أساس عدد الطلاب والحاجة وليس بحسب القدرات المادية وفك عقدة الإجراءات الروتينية، ولكنني، فشلت في الخروج من تلك المقابلة بتشريع قانوني يعطي لكلية الطب أملاً بوجود جثة في مشرحتها، فالنائب العام لم يقدم لي حتى التبريرات القانونية الواضحة لعدم موافقته على الموضوع، على الرغم من موافقة رجال الدين على تشريح الجثث للغرض العلمي في حالات معينة.
علماً بأن جامعة دمشق، لم يحدث وأن استوردت -كما تفعل بقية جامعات العالم- جثثاً من الخارج سواء بموجب تعاقدات أو بطريق غير قانونية، لأنه وفي كلتا الحالتين يسبب إشكالات، حلها أصعب من حل مشكلة عدم توافر الجثث في مشرحة الكلية.
من ذاكرة المشرحة
أدت أفكار أرسطو دوراً مهمّاً في تغيّر نظرة رجال العلم لفن التشريح - على الرغم من أن أرسطو نفسه لم يمارس سوى تشريح الحيوان- حيث نظر إلى الجسد بعد خروج الروح منه، يبقى خالياً من الحياة ومن الإحساس وبالتالي من الحقوق، لذا عد تشريح الجسد بعد موته لا يشكل اعتداءً على صاحب هذا الجسد أو تمثيلاً به.
لم يكتف بطليموس الأول الذي حكم مصر قبل ميلاد المسيح بثلاثمئة سنة، بسن قانون ملكي يشجع الأطباء على تشريح المحكوم عليهم بالإعدام، لمعرفة تركيب جسم الإنسان، ووظائف أعضائه المختلفة، بل كان يحضر شخصياً ويشارك المختصين في تلك العمليات، وربما يعود تقبل الحاكم والمجتمع لهذه الفكرة إلى تاريخ مصر العريق في عمليات تحنيط الموتى التي كانت تتطلب فتح الأجساد ونزع أحشائها.
ولكن، تبقى المفاجأة التي قد يجهلها الكثيرون أنّ ليوناردو دافنشي، شرّح 30 جسداً، نبشها من المقابر في عتمة الليل، فالتشريح لم يكن همّ الأطباء فقط وإنما هاجس الفنانين أيضاً.
حسنات الجثث
قمة احترام الجثة أثناء تشريحها، أن يطلق عليها الطلبة وأستاذهم اسماً حقيقياً، وقمة العطاء، أن يبذل الإنسان جسده، في سبيل تطور العلم الذي يخلص أبناء جنسه من أوجاعهم، فيصبح جسده مدرسة بعد مفارقة الروح له، وخمود الشعور وتلاشى الإدراك، جثث المشرحة تلك، تستحق أرواحها كل الاحترام والتقدير في الدنيا، رغم أن بعضهم يذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، إلى السماء، حيث تنال هذه الجثة الكثير من الحسنات..
وتبقى الوصية بالجثة لأغراض علمية أو طبية أو بالأعضاء البشرية من المصادر المهمة التي ترفد تطور الطب، وديمومة البشرية، لاسيما مع اتجاه الفقه الشرعي والمدني إلى أن مصلحة الحي أرجح من مصلحة الميت. صحيح أن تشريح الجسد بعد الموت أشد بغضاً وكراهة من الموت نفسه، ولكن، كما قال السيد المسيح «ما من حب أعظم من أن يبذل الإنسان نفسه فداءً عن أحبائه».
دارين سليطن
المصدر: بلدنا
إضافة تعليق جديد