الإستشراق ومحاولة الإلتفاف على المصطلح
الاستشراق، هو أحد المصطلحات الوعرة في وجدان وفكر عموم العرب والمسلمين، وقد لا نجانب الصواب عندما نقول أن الفكر الإسلامي العام لم يعرف مصطلحاً أشد وعورة من هذا المصطلح، فما إن يأتي ذكره حتى ترى عروق الكثير من السامعين أو الحاضرين وقد انتفضت وتنمرت واستعدت للمقاومة والانقضاض.
ومن هنا جاءت الحاجة الى إعادة صياغة مفهوم جديد لهذا المصطلح، والمفهوم الجديد هنا ليس معناه صياغة بلفظ آخر ولكن المطلوب هو صياغة مفهوم جديد في وجدان العامة تجاه نفس المصطلح.
ولكن قبل أن نبحر قليلاً في لجى الأفكار وعباب المعاني يجب أن نطرح السؤال التالي: لماذا اكتسب مصطلح الاستشراق هذا المعنى السلبي في الوجدان ويجيبنا على هذا السؤال الدكتور محمد الشاهد بقوله: «كثر الحديث في العقدين الأخيرين من القرن العشرين عما يسمى في بلادنا بظاهرة الاستشراق شارك فيه المتخصص وغير المتخصص من يعرف لغة الاستشراق ومن لا يعرفها، فجاء معظم الحديث نقولا عن نقول أخذت ترجمات فيها الثواب والخطأ وأصبح ميدان الاستشراق أو كاد حلاً لمن يريد التأليف السريع، لا يتطلب من طالبه سوى جمع بعض ما سبق، وتوليفه وتزيينه بعناوين جذابة ترضي ذوق متوسطي الثقافة». ويؤكد محمد الشاهد أن الباعث لهذا التوجه هو الاعتقاد بأن الاستشراق إنما ظهر للمكر والخداع ومؤازرة الاستعمار كما أنه أرتبط في أذهان الكثيرين بحركات التبشير في الشرق.
كانت المقولة السابقة هي ما مهد به محمد الشاهد للكتاب القيم الذي خطه الدكتور علي بن إبراهيم الحمد النملة وعنوانه «الالتفاف على الاستشراق... محاولة التنصل من المصطلح».
من المهم أن نسوق هنا أن مصطلح الاستشراق قد دخل القاموس الإنكليزي في عام 1779 الموافق 1204 للهجرة ثم دخل بعد ذلك الى القاموس الفرنسي في عام 1839 الذي يوافق 1245 من الهجرة وهذا يعني أن الاستشراق قد تم توثيقه أولاً في القاموس الإنكليزي.
ويؤكد النملة أنه يمكن القول إن مفهوم الاستشراق هو إسهام علماء ومفكرين غير مسلمين شرقيين أو غربيين في العلوم الإسلامية وفي تقاليد الشعوب الإسلامية وعاداتها وآدابها بغض النظر عن وجهة هؤلاء العلماء الجغرافية وبقطع النظر عن مكان الشعوب الإسلامية من الأرض وعن اللغة التي تتكلم بها هذه الشعوب بحيث يشمل المفهوم الآسيويين عامة والأفارقة والعرب من غير المسلمين. ومما يلفت النظر في هذا المفهوم أن الصياغة اعتمدت أن العرب من غير المسلمين ممن يتحدثون عن الإسلام بالمنهجية التي يتحدث بها المستشرقون إنما يعدون مستشرقون، وهذا التحديد لم يأت من فراغ، بل هو مستقى من إحدى الدراسات الموسوعية عن الاستشراق لكاتبها نجيب العقيقي والتي تتضمن فصلاً كاملاً عن المستشرقين الموارنة وأوردت هذه الموسوعة مجموعة من العرب عدتهم من المستشرقين منهم على سبيل المثال لا الحصر المطران بطرس صفير، الأب ميخائيل الفغالي، آل سمعانى، نصرالله شلق، وليس هذا فقط بل إن مؤلف الموسوعة قد ترجم لنفسه على أنه أيضاً مستشرق عربي حيث أنه ماروني عربي. ويؤكد باحث آخر وهو يوهان فوك في كتابه تاريخ حركة الاستشراق أن الأب لويس شيخو واحد من المستشرقين وهكذا نجد مما سبق أن صفة مستشرق لا تطلق فقط على غير الناطقين بالعربية أو الباحثين الذين لا ينتمون جغرافياً الى الشرق ولكن من الممكن أن يوصف بها أيضاً العرب والشرقيين الذين ينتهجون النهج الاستشراقي نفسه في البحث والتقصي.
وتقتضي الأمانة هنا أن نقول أن هذا المفهوم عن المستشرقين لم يمر مرور الكرام بل أن هناك من تصدى له ورفضه رفضاً قاطعاً وفى هذا المقام نسوق شهادة عمر فروخ وهو واحد ممن اهتموا بدراسة الاستشراق حيث يقول إن المستشرق قد لا يكون شرقياً ولا عربياً مسلماً أو غير مسلم إن محمد علي الهندي الذي نقل القرآن الى اللغة الإنكليزية ليس مستشرقاً بينما القس ج. م. رودل الذي نقل القرآن الى الإنكليزية يعد مستشرقاً وكذلك بلاشير الذي نقل القرآن الى اللغة الفرنسية إنما هو أيضاً مستشرق وبناء عليه لا يمكن اعتبار الأب لويس شيخو مستشرق على رغم أنه سلك في التأليف وفى نشر المخطوطات ووقف من الإسلام موقف المتحاملين ومع ذلك لا يمكن اعتباره مستشرق لأنه شرقي الأصل عربي اللغة، وكذلك لا يمكن اعتبار الدكتور طه حسين من المستشرقين بأي حال من الأحوال على رغم أنه سلك في كتابته لكتاب «في الشعر الجاهلي» مسلك المستشرقين وكان في كتابه «مستقبل الثقافة في مصر» اشد على العرب والمسلمين من نفر كثير من المستشرقين.
ومنذ أن نشر الدكتور إدوارد سعيد كتابه الذائع الصيت «الاستشراق» في عام 1978 ومن قبله عبدالله العروي بحثه القيم الأيديولوجية العربية المعاصرة في عام 1967 والمستشرقون المعاصرون يحاولون الالتفاف على مصطلح الاستشراق، ويستبدلون به مصطلحات قد تكون أكثر خصوصية. ويمضي بنا الكاتب علي بن إبراهيم النملة في توثيقه لحركة محاولات الالتفاف على مصطلح الاستشراق بتوثيقه للمؤتمر الذي عقده المستشرقون في باريس عام 1973 وذلك بمناسبة مرور مائة عام على بداية عقد مؤتمرات المستشرقين حيث يؤكد الباحث أن في هذا المؤتمر دارت النقاشات بل والتصويت على تغيير الاسم ليكون الاسم الجديد للمؤتمر هو «مؤتمر العالمية الإنسانية الآسيوية». ونقلاً عن الكاتب محمد الأرناؤوط المتخصص في الشأن اليوغوسلافي يقول الكتاب إن الاستشراق في أزمة منذ كتاب أنور عبدالملك «الاستشراق في أزمة» وكذلك كتاب إدوارد سعيد مما دفع بالكثيرين الى أن يجدوا حرجاً من استخدام مصطلح الاستشراق وأن يستعيضوا عنه ببدائل أخرى مثل «اللغات الشرقية وآدابها» و «الدراسات الشرق أوسطية» والسؤال هنا: هل هذا الالتفاف الواضح على المصطلح يعني نهاية المضمون؟ ومن ثم إزالة هذا المضمون من الخريطة الفكرية المعاصرة وانتفاء أن يكون الاستشراق عاملاً فاعلاً من عوامل الحوار بين الشرق والغرب؟ السؤال هنا للباحث الدكتور على النملة أما الإجابة فهي للدكتور رضوان السيد حيث يقول: «إن الاستشراق في حالة ركود فعلاً، ولا ينفصل ذلك عن حالة الركود الاقتصادي والثقافي بالغرب القديم لكن ذلك لا يعنى نهاية له، إذ أن الظواهر السالفة الذكر تبقى خارجية لا تمس جوهر التخصص ومتفرعاته، إنما يتهدد الاستشراق حقيقة مسائل أخرى فالذين يتحدثون عن نهاية الاستشراق الوشيكة يذكرون ثلاثة أسباب هي:
1 - تخلف المناهج لدى المسلمين
2 - فقدان الخصوصية بين المستشرقين
3 - تعدد مجالات اهتماماتهم».
وعلى ما يبدو أن عدوى الاستشراق وكراهية المصطلح الدال عليه قد انتقلا الى بعض المستشرقين أنفسهم. فلقد تنصل من هذا المصطلح البعض منهم وأورد لنا الكاتب علي النملة بعض الأمثلة على ذلك: فهذا أندريه مايكل يقول: «أنا لست مستشرقاً أنا عروبي، سحرني الأدب العربي فأنكببت عليه بحثاً ودرساً».
والمستشرق الفرنسي جاك توني يؤكد أنه مؤرخ للشرق فحسب وليس مستشرقاً.
ومستشرق فرنسي آخر هو دانيال ريج يعترف صراحة بكراهية المسلمين والعرب لمصطلحي الاستشراق والمستشرقين ويشير الى الغموض الكامن فيهما والى تطابق مصطلح الاستشراق في الجرس والوزن مع لفظ الاستعمار في أذهان الشرقيين.
أما المستشرقة الرومانية ناديا أنجليليسكو تقر أن شخصية المستشرق أصبحت مشؤومة الى حد كبير في وجدان أهل المشرق.
يتضح لنا مما سبق أن الكثير من المستشرقين رفضوا المصطلح وحاولوا الالتفاف عليه، وهنا يبرز سؤال ما هي ملامح هذا الالتفاف؟ تتبلور السمة الأساسية للالتفاف على مصطلح الاستشراق في توجه معظم المستشرقين الى العلوم الأخرى بجانبها الاجتماعي لا سيما الأنثروبولوجي مما يولد مصطلحاً جديداً بديلاً عن المصطلح القديم.
أما الدكتور محمد خليفة حسن وهو صاحب كتاب كبير عن الاستشراق فيؤكد أن هجرة مصطلح الاستشراق لا معنى له لأن الاستشراق لا يزال هو التخصص العام في مجال دراسات الشرق وشعوبه والهروب من التسمية لا يغير من الوضع شيئاً ولأن لكل فعل رد فعل فلقد ظهرت فكرة قيام حركة مضادة تعنى بالغرب ثقافة وفكراً وأدباً وعادات وتقاليد مما حدا ببعض المفكرين العرب الى الدعوة الى قيام علم الاستغراب occiedentalism، وانبرى الدكتور حسن حنفي ونشر كتاباً بعنوان «مقدمة في علم الاستغراب» ولقد نبعت الدعوة – آنذاك - من الشعور بأن الساحة العربية الفكرية والثقافية تكاد تخلو من معرفة ثقافية بالآخر والعلم به حيث لم يكن يتعدى العلم بهذا الآخر أن يكون حواراً أو رداً على شبهة من الشبهات التي تحوم حول الشرق ولكنه لم يرق بأي حال من الأحوال أن يكون علماً ممنهجاً.
ويقول الدكتور محمد النيرب وهو أحد المهتمين بالغرب في تنظيره علم الاستغراب: «لا أريد أن يكون الاستغراب مثل الاستشراق، بل أريد أن يكون أرقى في التفكير وأنبل في الأهداف، وينبغي أن يكون هدف الاستغراب هو إعطاء القارئ العربي معرفة أفضل وأدق بالبلدان الغربية ودرجة تطورها».
والسؤال الآن - من عندنا - ترى هل نجح ما يسمى بعلم الاستغراب وأثر في التعامل مع الغرب كما أثرت حركة الاستشراق على رغم كل المؤاخذات عليها في استبيان العقلية الغربية وفي سبر أغوار المجتمعات الغربية؟
وسؤال آخر يلح على ذهني: على رغم كل مساوئ الاستشراق وكراهية الشرقيين له، ألا يعد الاستشراق علماً ساهم بالفعل في استبصار الشرق بكثير من مفردات حياته والتي كان من المستحيل عليه أن يصل إليها أو أن يجرؤ على أن يتقول بها، وهل من الممكن لنا أن نتخيل المكتبة العربية وقد خلت من الكتب التي خطها المستشرقون؟
محمد عبد الفتاح سروري
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد