أخلاق الطاعة وتحولاتها التاريخية
على رغم أن النهي عن الخروج على الحاكم - حتى ولو كان جائراً - ليس أمراً جديداً، وإنما يتواتر في الأدبيات الفقهية والأحكام السلطانية، إلا أن توظيف مثل هذا النهي في الحدث المصري المعاصر يكتسب أهمية تاريخية لصدوره عن رموز الفكر السلفي المنظّرين له فقهياً وفكرياً في العالم الإسلامي.
وعلى كل حال، سننطلق في مقاربتنا من نقطة البدء هذه نحو مزيد من التجريد لبحث إشكالية «الخروج/ الفتنة» وسياقاتها المعرفية في التجربة التاريخية للأمة الإسلامية. وفي هذا الصدد يمكننا القول إن ثمة الكثير من التساؤلات التي تثور هنا وهناك حول ما يتعلق بالأسباب التي دفعت الفقهاء عموما لتأكيد النهي عن الخروج على الحاكم، حتى ولو كان جائراً، واعتبار ذلك من قبيل الإجماع. فهل يتعلق صدور هذا الحكم بفداحة ثمن الخروج على الحاكم كما بدا واضحاً في سياق التجربة السياسية التاريخية للأمة الإسلامية؟ أم يتعلق بالتعويل على جملة النصوص الواردة في شأن الفتنة في القرآن والسنّة؟ أم لا يتعلق الحكم بهذا ولا ذاك، وإنما بمحض الصراع على مشروعية المعارضة بين الفقيه والسياسي وواقع التوظيف السياسي المُحرم لمفهوم الفتنة تاريخياً؟!
بداية، تجدر الإشارة إلى أن لفظة «الفتنة» وردت في القرآن الكريم لتفيد أحد معنيين رئيسين: أولهما، الفتنة بمعنى الاختبار والامتحان والابتلاء الإلهي، سواء كان ذلك على مستوى الفرد المسلم أم الجماعة المؤمنة برمتها قولاً وسلوكاً وعملاً. والفتنة بهذا المعنى وردت في ما لا يقل عن أربعين آية قرآنية، كقوله تعالى: «واعلموا انما أموالكم وأولادكم فتنة» وقوله: «إنا مرسلو الناقة فتنة لهم».
وهي بذلك ترادف لفظة «المحنة»، والتي تعني عموماً كل شدة يتعرض لها المرء من مرض ونحوه، غير أنها حين تطلق مقترنة بلفظة العلماء أو أي جماعة فكرية أو دينية، يقصد بها الاضطهاد من ذوي النفوذ والسلطان، بغض النظر عن حجمه: إهانة كان أو تأنيباً، قتلاً أو تعذيباً... إلخ.
المعنى الثاني: هو الانقسام الداخلي الذي يمزق جسد الجماعة أو الأمة، أو ما يعبر عنه حالياً بالحرب الأهلية. وترد الفتنة في القرآن وفق هذا المعنى في سبعة أو ثمانية مواضع فقط كقوله تعالى: «وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة»، وقوله: «ألا في الفتنة سقطوا»، وقوله: «ولو دخلت عليهم من أقطارها ثم سئلوا الفتنة لآتوها».
وإذا انتقلنا إلى الأحاديث والآثار الواردة في هذا الشأن، وبخاصة تلك التي انتشرت إبان القرنين الأول والثاني الهجريين، لوجدنا أنه عادة ما يتم الاقتصار على استخدام الفتنة بمعناها الثاني، فيما فضل الكتاب استخدام لفظة «المحنة» بدلاً من الفتنة للدلالة على المعنى الأول.
وفي كل الأحوال، ترد لفظة الفتنة في الأحاديث والآثار والنقول والأقوال للدلالة على، والتحذير من، الانقسام الداخلي الذي يهدد كيان الأمة كما يثير الرعب لأقصى درجة من انتشار الفوضى أو «الهرج» وفق التعبير الكلاسيكي.
ومن الملاحظ في هذا السياق أن الرعب الناشئ عن الفتنة لم يكن فقط بسبب سفك الدماء، وإنما أيضاً بسبب الخوف من الفوضى، أي انعدام السلطة الضابطة والحارسة للمجتمع، وهو ما بدا واضحاً في الفتن الكبرى في تاريخ الإسلام. وهو أمر بديهي ما دام الخليفة يحتل موقعاً مركزياً في السلطة، الأمر الذي أباح للصحابي الجليل حذيفة بن اليمان أن يصف مقتل عثمان بن عفان بأنه كان بمثابة «حبل الله الذي انقطع» تعويلاً على قوله تعالى: «واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا».
أما عن تطور الفتنة تاريخياً، فيمكن القول إن العالم الإسلامي شهد ثلاثة نزاعات كبرى هزت كيان الأمة الإسلامية وأثرت بدورها في وجدانها على مستوى كل من الفكر والممارسة. بدأت الفتنة الكبرى بمقتل عثمان بن عفان وبلغت ذروتها بمقتل خلفه علي بن أبي طالب؛ أي أنها غطت تقريباً الفترة من سنة 35 إلى سنة 40 هـ.
واشتملت هذه الفتنة على الكثير من المواجهات والمعارك العسكرية كان أبرزها معركة الجمل بين علي والخارجين عليه، ومعركة صفين بينه أيضاً وبين جيوش معاوية، وأخيراً حربه ضد المحكِّمة من الخوارج بسبب قبوله التحكيم. وقد راح ضحية هذه الفتنة أربعة من خيرة الصحابة هم: عثمان وعلي وطلحة والزبير. أما الفتنة الثانية، فبدأت بمقتل الحسين في كربلاء سنة 61 هـ، مروراً بمقتل عبدالله بن الزبير وسعيد بن جبير وغيرهما على يد الحجاج، وليس انتهاءً بنزاعات الأمويين مع الزبيريين فضلاً عن النزاعات التي تمت بين القيسية واليمنية والمختار بن أبي عبيد طوال السنوات العشر اللاحقة لمقتل الحسين. أما في الفتنة الثالثة، والتي سميت بثورة ابن الأشعث (من عام 82 إلى 84 هـ) فقد حدث أن استولى الثوار على سجستان وأجزاء من خراسان كما انفصل العراق عن الشام.
بموازاة ذلك؛ يعكس الموقف العام من الخروج على الحاكم، تأييداً أو معارضة، ضرباً من جدلية النص والتاريخ. فمن ناحية، ثمة نوعان من المرويات الخاصة في هذا الشأن تقف كل واحدة منها على طرف النقيض من الأخرى، ففيما تؤيد بعضها شرعية الخروج على الحاكم الجائر، تنزع الأخرى نحو النهي عن الخروج خوفاً من وقوع الفتنة والمطالبة بالصبر والطاعة ولزوم الجماعة ليس إلا!
ومن بين الأحاديث الناهية عن الخروج على الحاكم، الآمرة بالتزام الطاعة، قوله (صلى الله عليه وسلم): «من أطاعني فقد أطاع الله ومن أطاع الإمام فقد أطاعني». وأيضاً ما روي عن حذيفة أنه قال: ليس من السنّة أن تشهر السلاح على إمامك، وما روي عن أنس بن مالك أنه قال: أمرَنا كبراؤنا من أصحاب النبي (عليه الصلاة والسلام) أن لا نسبّ أمراءنا ولا نغشهم وأن نتقي الله ونصبر.
وكذلك ما روي عن الحسن البصري أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: «لا تسبّوا الولاة فإنهم إن أحسنوا كان لهم الأجر وعليكم الشكر وإن أساءوا فعليهم الوزر وعليكم الصبر وإنما هم نعمة ينتقم الله بهم ممن يشاء فلا تستقبلوا نقمة الله بالحمية والغضب واستقبلوها بالاستكانة والتضرع».
لكن على الجانب الآخر، نصادف أحاديث مؤيدة للخروج على الحاكم، كقوله (عليه الصلاة والسلام): «أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر»، والحديث المعروف: «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان»، وقوله أيضاً: «أفضل الشهداء حمزة ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله على ذلك»... إلخ.
وفي الواقع؛ تعكس أحاديث المجموعتين موقفين مختلفين من السلطة، وتبعاً لذلك كان الفقهاء والعلماء ينحازون إلى هذا الجانب أو ذاك، حيث انتظمت في خط المقاومة فصائل المعارضة من الشيعة والخوارج وأبو حنيفة وسفيان الثوري وسعيد بن جبير وغيرهم. فيما كان أغلب الفقهاء، وبخاصة ما بعد العصر الأموي، يميلون إلى عدم تأييد الخروج على الحاكم. وأوضح مثال على ذلك الحسن البصري، والذي على رغم إدانته المعلنة لممارسات الحجاج ووصفه إياه بأفسق الفاسقين، إلا أنه عندما سئل عن حكم الخروج على الحاكم قال لسائليه: «اتقوا الله وتوبوا إليه يكفكم جوره، واعلموا أن عند الله حجاجين كثيراً»!
ومع أن الأحاديث السابقة، بجانبيها، لا تؤسس حكماً فقهياً بالدرجة الأولى بقدر ما توضح أمراً عاماً، إلا أن بعض الفقهاء أحالوا تأويلاتهم لها إلى حكم فقهي قطعي الثبوت والدلالة. فحين سئل أحمد بن حنبل، على سبيل المثال، عن حكم الخلافة بالغلبة أجاب: «ومن غلبهم بالسيف حتى صار خليفة وسُميَ أميرُ المؤمنين لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيت ولا يراه إماماً عليه، براً كان أو فاجراً»!
ويبدو واضحاً أن قوله «لا يحل» إنما يحيل إلى حكم شرعي بتحريم وتأثيم، ليس فقط الخروج على الحاكم، وإنما أن يبيت المرء ليلته من دون أن يرى في من وصل إلى الحكم بغلبة السيف «أميراً للمؤمنين»! أي حرمة أن ينفي المرء عن الحكومة المغتصِبة صفةَ الشرعية، ناهيك بأن يدعو للخروج عليها. هنا يخرج الفقيه عن إطار التأريخ لحادثة ما أو تقديم فتوى غير ملزمة لغيره نحو تأطير مبدأ عامٍ وتنظير نظرية وتأصيل حكم شرعي يتسم بالتأبيد والدوام.
وفي السياق ذاته، نقرأ في أحد الأحاديث الواردة عند البخاري أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) قال ذات يوم لأصحابه: «إنكم سترون أثرة وأموراً تنكرونها. قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: أدوا إليهم حقهم وسلوا الله حقكم»! مما يعني أن حق الأمراء معجل ولا بد من أدائه في الدنيا، فيما حق المحكومين المقهورين مؤجل إلى الآخرة!
ولعل ذلك ما دفع ابن حجر العسقلانيّ لأن يفسر الجملة الأخيرة: «وسلوا الله حقكم» بقوله: «أي سلوا الله أن يلهمهم إنصافكم أو يبدلكم خيراً منهم»!! الأمر الذي تمتنع معه كل مشاركة في التغيير وحق تقرير المصير ويبقى ذلك معلقاً: إما بيد القدرة الإلهية (يبدلكم خيراً منهم) أو بورع الخليفة وحصول الهداية له، أما الرعية فتبقى دائماً وأبداً خارج المعادلة السياسية برمتها!
يعكس المثالان السابقان بصورة واضحة مأسسة «الفتنة» وتوظيفها سياسياً. والواقع، أن توظيف «الفتنة» سياسياً يتجاوز الفقه إلى الأحكام السلطانية، والتي كانت تنتهج نهجاً تبريرياً وخطاباً مجسداً في واقعين: واقع التاريخ وواقع الكلمات، ما جعل مفهوم الطاعة يشكل المبدأ السياسي الملازم للسلطة. وعلى جانب الفقه، يبدو أن كثرة مراعاة الفقيه للظروف المحكمة وهلعه من الفتنة أديا به، في النهاية، إلى الخروج عن منطقه الأصولي وأفضيا إلى جر المقاصد العامة في السياسة الشرعية للانقلاب إلى عكس مقصودها الأساسي.
وفي المحصلة، يمكن القول إن محض النظرة المنتبهة المتيقظة للحجج التي يسوقها الفقهاء في سياق النهي عن الخروج على الحاكم، يكشف عن مفارقة لم ينتبه إليها الكثيرون. ذلك أن المحصلة النهائية لهذه الحجج تؤدي إلى أبدية القناعة التامة بأن الخروج على الحاكم منهيٌ عنه، ليس فقط بسبب ما يؤول إليه الأمر، أي الفتنة أو الحرب الأهلية، ولكنه منهيٌ عنه لأنه فتنة بحد ذاته!! ولا أدل على ذلك من أن الجُنيد البغدادي كان يرى أن الخروج على الأئمة من فعل الجهلة الفاسقين!
فلماذا يرتبط الخروج على الحاكم بالحديث عن الفتنة؟ وهل المشكلة تتعلق بالميل إلى أحد الجانبين من الاستدلالات النقلية وتأويل الأخرى، أم تتعلق بإصدار الحكم مراعاة للظرف التاريخي الذي قيلت فيه؟ ولماذا، حتى على المستوى التدويني، يتم الربط بين الخروج والفتنة كما فعل البخاري في إدراجه الأحاديث الواردة بهذا الشأن ضمن كتاب الفتن؟
وأيضاً: ما المقصود بالكفر البواح كما يرد في الحجج الفقهية التقليدية: هل هو إعلان الكفر والخروج عن الشريعة الإسلامية فقط؟ وهل يعد خروج الحاكم حالياً عن الشرعية الدستورية وحكم القانون كفراً بواحاً هو الآخر أم لا؟! وما معنى قول ابن تيمية في كتابه «منهاج السنة» إن الخروج على أئمة الجور كان مذهباً قديماً لأهل السنّة ثم استقر الإجماع على المنع منه؟! ألم يكن المذهب القديم إجماعاً في المقابل لا يجوز الخروج عنه؟!
ففي أغلب الآراء الواردة في هذا الشأن يؤكد الفقهاء أنه لا يجوز الخروج على الحاكم إلا في حالة واحدة وهي كفر السلطان، مدللين على ذلك بالحديث المرفوع إلى النبي (صلى الله عليه وسلم)، عن عبادة بن الصامت وفيه: «وأن لا ننازع الأمر أهله... إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان». وحقيقة الأمر، أن الآثار الكثيرة الواردة في سياق استفظاع العنف الداخلي ومحاولة وضع الفتنة في مقابل الطاعة ووسم الخروج على الحاكم الجائر بأنه فتنة تعكس في الأساس مدى فعل السلطة في التاريخ.
وسواء أخذتْ هذه الآراء انتفاء القدرة والكفاءة في حسبانها، أم قرأت النص وفق تركيبتها الأولى، فإن كلتا القراءتين منقوصتان وبحاجة إلى مراجعة ثالثة، أو بالأحرى قراءة ثالثة تأخذ في حسبانها حق الأمة في الخروج على الحاكم الجائر وتوسع من الأسباب المؤدية الى ذلك بدل اقتصارها على العامل الديني فقط، وفي الوقت ذاته، تؤطر لثقافة اللاعنف في المجتمع دونما توظيفه سياسياً.
كلتا القراءتين إذاً بحاجة إلى موقف ثالث (وسط)، لأن إطلاق الخروج على الحاكم بدعوى أنه جائر أمر نسبي ومن السهل أن يوظف سياسياً مثلما تم توظيف النهي عن الخروج في المقابل. وأيضاً التشديد على النهي عن الخروج، أمر يحول دون حق الرعية في مساءلة الحاكم حال مخالفته الشرعية الدستورية. لذا فنحن في الواقع لا نميل إلى هذه القراءة ولا إلى تلك، وانما الى تبني موقف وسط بينهما.
والموقف الوسط ببساطة آسرة يؤكد مبدئياً حق الأمة في الخروج على الحاكم الجائر ويوسع في الوقت نفسه من دائرة مسببات هذا الخروج ليضم إلى جانب الخروج عن الشريعة الخروج عن الشرعية، ولكنه في المقابل يضع من الآليات والوسائل ما يحول دون الوصول إلى «الفتنة» من خلال تأكيد ضرورة احترام الشرعية الدستورية في إطار العمل السياسي والاجتماعي العام، وتفعيل الآليات الدستورية الحاكمة لعلاقة الحاكم بالرعية. ومثل هذا الموقف الوسط ما بين الخنوع والعنف، من شأنه أن يعيد مراجعة إشكالية «الفتنة» وفق منظور مختلف يضمن حق الرعية ويحول، في الوقت نفسه، دون الوقوع في «الفتنة».
محمد حلمي عبد الوهاب
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد