عوامل منطقية تعيق تحوّل الإنترنت أداة للبحث العلمي
أجرت جامعة كاليفورنيا أخيراً مجموعة من ورش العمل حول أدوات البحث في الإنترنت، وخلصت إلى أن هذه الأدوات تقع في أربع فئات هي:
أ - محركات البحث المبنية على الأشياء التي يستخدمها الملمون بالتقنية المعلوماتية عند كتابة طلب للبحث عن معلومات معينة في محرك البحث. تتضمن هذه الأشياء حروفاً مثل «و» AND و «أو» OR و «و أو أو» AND OR OR «ليس» NOT وغيرها. تقنياً، يُشار الى هذه الحروف باسم «مؤشّرات المنطق البووليني»Boolean Logic Indicators، للإشارة الى أنها جاءت ضمن تطوّر في علم الجبر المُعاصر. ونشأت هذه المؤشّرات على يد الإنكليزي جورج بوول، وهو عالِم في الرياضيات والمنطق. وابتكر بوول هذه المؤشرات كوسيلة لاختزال قواعد المنطق والرياضيات كافة إلى مجموعة صغيرة من الخيارات التي يفترض أنها تكفي للتعبير عن الأشياء الأساسية في فكر الإنسان. لاحقاً، جرى تحدي هذا التفكير، فوصف بأنه اختزالي بشدّة.
تضم فئة محركات البحث التي تستخدم مؤشرات بوول، الأنواع الأكثر شيوعاً والتي توصف بالذكاء؛ مثل «غوغل» Google. ويُجري كل محرك بحثه ارتكازاً إلى قواعد بياناته الخاصة أو تلك التي تسمح له بالإطلاع على محتوياتها.
ب - محركات البحث غير المبنية على المنطق البووليني، تشبه هذه المتصفحات الفهارس الضخمة لمواضيع مبوبة، فكأنها ثبت ضخم عن هذه المواضيع Subject Directory. لعل المحرك الأكثر شهرة في هذه الفئة هو «ياهو» Yahoo!. تتميّز هذه المحركات بالبساطة وسهولة الاستعمال، لأنها تسند إلى شيء ثابت يقارب أن يكون «صورة رقمية» عن المعلومات. وعلى رغم أن هذه المحرّكات لا تستعمل مؤشرات المنطق البووليني، إلا أنها لا تقدر على الاستغناء عن المؤشّر البووليني «و» And.
ج - البحث الـ «ميتا - معلوماتي» Meta info Search. ظهرت هذه المحركات بعد ترسّخ قدم الفئتين السابقتين على الإنترنت، لكنها لقيت رواجاً كبيراً، خصوصاً عند من لديهم إلمام بالتقنيات المعلوماتية، إضافة إلى المهتمين بأنواع معيّنة من النشاطات على الإنترنت، مثل الارشيف الرقمي. وقد باتت شائعة في المواقع الإعلامية، إضافة إلى تلك التي تقدّم معلومات متخصّصة.
والمقصود بالـ «ميتا» تلك المعلومات التي تشكّل نوعاً من البطاقة التعريفية للنص أو الموضوع أو الشخص... إلخ. فمثلاً، بدل البحث عن «جايمس واطسون»، وهو مكتشف الحمض النووي، والغرق في ملفات آلاف الأشخاص الذين يحملون هذا الاسم، يمكن تركيز البحث وتطبيق دائرته عبر إضافة كلمات مفتاحية حوله كمثل: حمض نووي، مشروع الجينوم البشري، الشفرة الوراثية وغيرها.
على رغم إنها تبدو واعدة، إلا أن بريقها يخفت قليلاً إذا ما تذكرنا أن ما تقوم به فعلياً هو توزيع البحث وكلماته على مجموعة من المحركات الذكية من الفئة «أ»! ويبقى أن ميزتها تظهر في قدرتها على ترتيب الردود بموجب مقارنة النتائج الآتية من كل محرك، ثم تقديم الردود المتقاطعة بين هذه النتائج كلها. واضح أن محركات الـ «ميتا» تقف على الأرضية العلمية للمنطق البووليني وعلم الجبر المتّصل به.
د – «الترابط العالي» («هايبر لينك» Hyper Link) وكذلك «النص العالي الترابط» («هايبر تكست» Hyper Text). لا تشكّل هذه التقنيات محركات بحث فعلياً، بل هي أسلوب استحدثته المعلوماتية مع ظهور الإنترنت يرتكز إلى ربط كلمات أو صور أساسية في نص معين، مع هوامش ونصوص ومواقع ووثائق أخرى على الإنترنت.
في الصورة الواسعة للأمور، تبدو الإنترنت والمعلوماتية وكأنها ما زالت أسيرة المنطق البولووني ومفاهيمه ومؤشّراته.
ليس المقام بمقال عن أنواع النقد التي وجهت إلى المنطق الرياضي، الذي وصل إلى ذروته على يد برتراند راسل ووايتهيد، خصوصاً في عمليهما المشترك «مبادئ الرياضيات» Mathematical Principles .
الإختزال والمزيد منه: تلك كانت صبوة المنطق الرياضي ولعلها كانت مقتَلَهُ أيضاً. إذ اختزلت الفلسفة إلى مجرد تطبيق للنماذج التي يصنعها علم الرياضيات الذي مُجّد طويلاً باعتباره الصورة الأرقى للمنطق الإنساني برمته! حاول راسل بناء منطق شامل في التحليل الفلسفي وجعله «صورة مرآة» للرياضيات البوولينية في اختزالها كل الرياضيات إلى قواعد معدودة وعوامل قليلة.
في المقابل، بدا العالم الغنيّ والمعقد للفكر الإنساني، عصيّاً على هذه الاختزالية وما تنطوي عليه من ابتسار وقمع مقيتين.
مثلاً، رأى راسل أن اللغة الطبيعية هي مجرد مزيج من نوعين: مشاعر ووقائع. الأولى لا مكان لها، وفق رأيه، في بنية المنطق. أما الثانية فهي «حقيقية»، بل يجري التعبير عنها في جُمَل تقريرية. حلّل راسل العبارات التقريرية، مع المماهاة بينها وبين الرياضيات. وتوصّل إلى اختزال مفاده أن اللغة «الحقيقية» يمكن صوغها عبر استخدام المؤشّرات البوولينية مع مجموعة من الألفاظ التقريرية، لأن كلاهما محايد وموضوعي كذلك.
لكن، سرعان ما أقر راسل نفسه، في كتاب «المعنى والصدق»، بأن المؤشّرات البوولينية نفسها ربما حملت تضميناً سيكولوجيا، وأنها ليست محايدة. فمثلاً، قد يحمل المؤشّر «أو» التردّد، والعامل «لا» ربما عبّر عن ذهنية معرضة للقمع وغيرهما.
لطالما ركّز نقّاد المنطق الرياضي على قصوره عن حلّ غموض اللغة الطبيعية والتباساتها وتعقيدها. ولعل ذلك المنطق لم يستطع النفاذ إلى سياق العبارات Syntax وبنيتها. كما لم يتسطع قراءة الوعي والشعور وأثر المخيلة وغيرها. وفي عبارة وجيزة، ظل المنطق الرياضي بناءً منسجماً متماسكاً، لكنه بعيد من الواقع والحياة.
حتى لو لم يزد الأمر عن فشل المنطق الرياضي حيال اللغة وحدها، لكفى ذلك لإقامة عائق أمام التواصل بين عقل الإنسان و «منطق» الإنترنت، بل المعلوماتية عموماً. الأرجح أن اللغة وسياقاتها ودلالتها هي من أهم ما يمنع تحوّل الإنترنت إلى أداة حقيقية للبحث العلمي، وهو نشاط خلاّق للفكر البشري.
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد