"قانا، صديقين، القليلة" فدا المقاومة
الجمل-أنس أزرق: أيقظتني زوجتي باكراً وأنا الواصل إلى صور بعد يوم عمل متعب وطريق أكثر تعباً نظرت في ساعتي فإذا هي الساعة السادسة والنصف صباحاً .. ماذا تريد رنا واليوم هو الثلاثاء وعندها برنامج صباح الخير؟.
- صباح الخير أنوس، أيقظتك باكراً .. آسفة حبيبي.
- ولا يهمك، صباح النور، خير إن شاء الله.
- لا ولاشي بس جواد ما عم يرضى يروح للمدرسة .. عم يبكي ..
- ليش؟
- بدو يبقى مع أخته جودي بالصف.
- طيب لا تبعثيه مشان ما يخاف من المدرسة وهادا عادي في أول أيام المدرسة والولد ما صار عمره بعد 3 سنوات.
- طيب حبيبي رجاع نام..
لم أنم .. كان علي تجهيز نفسي وإيقاظ زملائي للعمل باكراً فأمامنا ثلاثة أيام فقط لإنجاز فيلم عن قانا وصديقين والقليلة .. البلدات الجنوبية الثلاث التي تكفلت سورية بإعادة بنائها بعد الحرب العدوانية الصهيونية على لبنان.
قانا:
في قانا التقينا الحاج محمد علي شلهوب وزوجته رباب "أم حسن" وصغيرهما حسن ذا الخمس سنوات، الزوجة التي أنقذت طفلها وزوجها المقعد وبعض أطفال جيرانها ولم تستطع أن تنقذ طفلتها زينب التي كانت تنام في جوارها كما هو حسن.
كان حسن يلعب بكل شقاوة سنواته الخمس .. كان يرد بتحد على استفزازات مرافقنا الذي كان يعرفه جيداً .. بينما لا تفارق الطمأنينة وجه أبيه الشيخ محمد علي شلهوب، فيما تداري أمه الحاجة زينب قلقها وحزنها بالدخول والخروج ورؤية صور زينب المنشورة والتي أصبحت علامة مميزة على مجزرة قانا الثانية.
يروي الأب "كنا نائمين في حوالي الساعة الواحدة ليل 30 تموز، لم أشعر إلا وأنا مندمل بالطين والحجارة ولم استطع الحراك لأنني ملقى على وجهي ومنعتني إعاقتي إذ أني مقعد".
تتدخل الحاجة زينب "كنا جميعنا مندملين بالتراب، لم أعرف هل أنا بحلم، بكابوس تلمست شعري فلم أجد حجابي .. بحثت عنه قرب السرير ووضعته على رأسي ثم ناديت بأعلى صوتي .. حسن .. حسن .. زينب .. زينب لم يرد أحد اختنق صوتي .. مرة أخرى جمعت صوتي وبكل قوة حسن .. حسن .. حسن .. زينب .. زينب".
- ماما .. أنا هنا .. زحفت لمصدر الصوت تعال حبيبي .. حسن .. لا تخاف.
- ماما .. علي رمل وطين.
- لا تخاف "ماما" هادا من السقف.
- ماما .. ما بقدر طلع رجلي.
نفضت الركام عن حسن وضممته لصدري ثم صرخت زينب .. زينب .. ما من مجيب .. كانت بجانبي بالسرير .. بحثت .. تلمست كل الجدران التي كانت أكثر من أربعة وأخيراً وجدت يد صغيرة لابد أنها لزينب .. جسستها .. لا يوجد نبض .. قلت لها إنني لا أستطيع أن أفعل لك شيئاً يا زينب .. تركتك وديعة عند شفيعتك السيدة زينب عليها السلام.
- "ناديت حاجة رباب" .. أنا هنا.. قال الشيخ محمد علي.
- أسرعت الحاجة رباب وحملت زوجها وأخرجته ولم تخرج معه وإنما لبت استغاثة جيرانها وكانت آخر من خرج من حارة الخريبة التي استحقت اسمها عن حق وحقيق بعد المجزرة.
- "حسن .. بدك تحكي مع الأستاذ أنس .. هادا مراسلنا في الشام" .. قطع الشيخ الهدوء الذي ساد للحظات.
- لا ما بدي.
- كان يحكي أول شي هلق ما عاد يحكي .. صارلو فترة.
- "مشتاق لأخته زينب" .. علقت الحاجة رباب.
فقدت الأسرة زينب ذات العشرة سنوات ولم تكن زينب هي الطفلة الوحيدة فمعظم الضحايا من الأطفال بل إن إحداهن رضيعة تبلغ من العمر 9 أشهر فقط، وكذلك أخت الشيخ محمد علي وهي معاقة مثله فضلاً عن منزلهما وعشرات الأقارب، فضحايا مجزرة قانا من عائلتين: شلهوب وهاشم، مثلاً محمد علي هاشم فقد أبناؤه الثلاثة .. حسين 12 سنة، إبراهيم 8 سنوات، وعلي سنتين ومعهم زوجته. كما فقد والده وابنتي أخيه وأولاد أخيه الثلاثة واستشهد أخوه في المقاومة .. ولم يبقى معه إلا ابنته الوحيدة عدا عن تدمير منزله ومنزل عائلته .
لم يشفع لقانا أن رسول المحبة السيد المسيح قد زارها .. بل قدم أولى معجزاته في عرسها "عرس قانا" حيث حول الماء إلى خمر مقدس كما يروي إنجيل يوحنا.
"وفي اليوم الثالث كان عرس في قانا فاظهر مجده فآمن به تلاميذه" وما زالت قانا تحتفظ بالأجران الحجرية الستة التي شهدت أول عجيبة مسيحية كما تحتفظ قانا بالمغارة التي زارها السيد المسيح وتلامذته وتحولت لاحقاً لمعبد للمسيحيين الأوائل والذين تركوا أيقونات منحوتة على صخورها تمثل: عجيبة الخمس خبزات والسمكتين حيث بارك السيد المسيح الخبز والسمك وأطعم الجميع، العشاء الأخير، وقيامة اليعاز وعروس قانا، ..الخ.
كما لم يشفع لقانا أنها تضم على أطرافها قبر الملك حيرام ملك صور والذي ساعد نبي الله سليمان في بناء مملكته فكافأه الصهاينة بسرقة قبره باجتياح عام 1982.
لم يشفع لقانا كل هذا فاحتفل الصهاينة بعرس قانا بمجزرتين، الأولى في 18 نيسان 1996، كان ضحيتها 106 شهداء تم التعرف إلى جثة 18 شهيد فقط منهم أما الباقي فأشلاء ممزقة وتم دفنهم بشكل جماعي والثلثين منهم أطفال وأكثر من مئتي وخمسين جريح لديهم إعاقة دائمة.
أما موقع العرس الصهيوني فهو الكتيبة الفيجية من قوات الطوارئ الدولية والتي ترفع علم الأمم المتحدة حيث التجأ إليها حوالي الألف من أهالي المنطقة، يروي "محمد جعفر" من أهالي قانا ومترجم الكتيبة الفيجية .. "دام القصف حوالي 5.30 دقيقة بأكثر من 35 قذيفة عيار 155 ملم انشطاري وكان الأهالي يحتمون بالكتيبة منذ أسبوع" .
أما العرس الصهيوني الجديد في 30 تموز 2006م فوقع ضحيته 37 شهيداً وشهيدة من حارة الخريبة بينهم 24 طفل من عمر 9 أشهر إلى 12 سنة.
رئيس بلدية قانا "د.صلاح شلهوب" قال لنا "إن المجزرة لم تكن جريمة إسرائيل الوحيدة في قانا فقد فقدنا 12 شهيداً توفوا بسبب عدم توفر الأدوية وهم مصابون بأمراض مزمنة كالسرطان والقلب والسكري،كما دمر 42 مبنى تدميراً كاملاً فيها 360 منزل و93 بناء تدمير جزئي، و250 بناء أصيب بأضرار متنوعة".
عدا عن تدمير منظم لشبكات الكهرباء، المياه، والصرف الصحي، الهاتف، الطرقات وتدمير الموسم الزراعي الذي يعول أكثر من 50% من عائلات قانا.
إلى صديقين:
لا تبعد صديقين عن قانا ولا تختلف عنها بشيء سوى أن الدمار هنا أكبر ورائحة الغبار أكثر .. أخبرنا مختار صديقين سليمان علي بلحص أن هناك "450 وحدة سكنية مدمرة كلياً، 135 وحدة سكنية تدمير جزئي، 600 منزل مضرر " .. لم يصاب أحد من أهالي صديقين لآن القرية بكاملها قد نزحت .. يفسر محمد عزام نائب رئيس بلدية صديقين "تجربة صديقين مع العدوان الصهيوني أعوام 1982-1993-1996 والتدمير الذي أصاب صديقين جعلت الأهالي ينزحون .."
علي بلحص وهو أسير محرر قضى في سجون الاحتلال 11 سنة وشهرين و17 يوم إلا ثلاث ساعات وثلث كما يقول، وهو مبتسم، وحُرر بعملية التبادل الأخيرة، دمر منزله الذي بناه له الوالد أثناء الأسر، يقول الوالد: "نعم .. لقد جهزت له المنزل رغم أنه كان محكوم 99 سنة .. لم أقطع الأمل .. راح البيت - يضيف مسرعاً - فدا المقاومة".
القليلة:
لقد رأينا القليلة وهي تدمر .. مسؤول حزب الله في القرية يحتفظ بشريط يسجل لحظة لحظة يوميات العدوان الصهيوني على القليلة كما يحتفظ بشريط آخر يصور الدمار كاملاً بعد وقف النار.
أما جمال شبلي رئيس بلدية القليلة فيقول: "إن القليلة هي هدف مستمر في بنك الأهداف الإسرائيلية .. فقريتنا أعلنت قرية منكوبة من قبل الحكومة اللبنانية والمنظمات الدولية عامي 1993-1996 .."
حجم الدمار هنا يقارب 45% من القرية حيث دمرت 325 وحدة سكنية تدميراً كاملاً واحترقت معظم البساتين ودمرت شبكة الري والكهرباء والماء وحتى المستوصف ومدارس القرية وبلديتها لم تسلم من الأذى.
القليلة شكلت بالنسبة للمقاومة مثل الكثير من القرى مركزاً للتموين حيث ترك معظم أصحاب المحلات كما يروي أحمد حسين سالم، محلاتهم مفتوحة ليأخذ المقاومون حاجتهم منها.
أحمد حسين سالم قدم لنا الفواتير التي تركها المجاهدون بما أخذوا ..
المرأة التي دمر حيها بالكامل باست الأرض وقالت "فدا الشباب" وقبلت ابنها الذي على ما يبدو يجاهد في صفوف المقاومة.
القليلة تتبارك بمقام النبي عمران والد السيدة مريم العذراء الذي بُني كما يقول الباحث أ.وجيه أبو خليل الذي أرخ لقريته كرامة لوالد السيدة مريم في المنطقة التي كانت تسمى بدير عمران.
استكمال الصورة:
استكملنا الصورة في بيروت بلقاء الحاج قبلان قبلان رئيس مجلس الجنوب حيث سألناه عن حجم الدمار في الجنوب ؟ أجابنا .. "أكثر من 7 آلاف منزل مدمر كلياً، 7 آلاف منزل تدمير جزئي، أكثر من 40 ألف منزل أضرار مختلفة، آلاف السيارات والآليات، شبكات الكهرباء، المياه، الهاتف، الآبار والمزروعات .. كل البنية التحتية، وعلى رأسها الجسور والطرق".
أضرار غير منظورة كالمشكلات البيئية، الركام، القنابل العنقودية والتي صورنا منها الكثير ..
شكراً لسورية ولرئيسها:
كل من سألناهم عن المبادرة السورية وكثيرون بدون سؤال كانوا يشيدون بدعم سورية ومساندتها وإن كانوا يسألون عن التفاصيل كيف ستبني سورية؟ متى ستبدأ؟ لا نريد ضواحي كما في المدن، نريد أن نبقى كما كنا ..
نغادر الجنوب وصدورنا قد ضاقت بالغبار ورؤوسنا أصابها الصداع .. قصص كثيرة يمكن أن تروى ولكن العبارة الأكثر رسوخاً في القلب والعقل
"فدا المقاومة"
الجمل
إضافة تعليق جديد