كيف كتبت السيرة المحمديّة؟ (2/2)
في الجزء الأوّل من هذه المقالة، اعتبرنا صدور الترجمة الأنجليزيّة للكتاب الذي نقدّمه، كتاب الباحث الألمانيّ غريغور سكولار حدثا علميًّا جديرًا بالاهتمام والإبراز. وأرجعنا ذلك إلى سبب مركزيّ مفاده اقتناع صاحب الكتاب بأنّ عمله جاء بإجابات جديدة على الأسئلة القديمة التي أثيرت بشأن المرويّات والنقول العربيّة الإسلاميّة المعتمدة في كتابة السيرة المحمّديّة. وسعيا منّا (ومن صاحب الكتاب قبلنا) إلى تحديد مقدار الإضافة والتجديد الذي ينطوي عليه عمله، استعرضنا بصورة موجزة حصيلة ما أنجزه العلماء الغربيّون في نطاق مبحث الدراسات المحمديّة. وقد تبيّن لنا أنّهم سلكوا في أعمالهم نهجَيْن: نهجًا يطعن في المرويّات والنقول العربيّة الإسلاميّة الطعن كلّه ويرفض الأخذ بها على اعتبار أنّها استقرّت في شكل مكتوب قرنَيْن بعد وفاة الرسول (صلعم) دون أن تَـسْـلَـمَ من التحريف والزيادة والنقصان. ونهجًا لا يُخفي احترازه من الموادّ المعتمدة في كتابة السيرة، ولكنّه ينتهي إلى القبول بها جزئيّا والقول بأنّها تقدّم لنا صورة أقرب ما تكون إلى "الحقيقة" عن حياة محمّد (صلعم) والبيئة التي احتضنت رسالته. ولئن ظلّ النهج الثاني غالبا على الدراسات الغربيّة إلى حدود سنوات السبعين من القرن المنصرم، فإنّ الجدل سرعان من استؤنف مفضيا إلى غلبة النزعة الريبيّة التي أعلنت إمامة الشكّ فعصفت بالسيرة النبويّة واعتبرت أنّ نصوصها أقرب إلى الأدب منها إلى الكتابة التاريخيّة، ولذلك فإنّ من الخطل الوثوق فيها أو الاعتماد عليها.
ومن منطلق وعينا بأنّ نتيجة كهذه التي انتهى إليها أصحاب النزعة الريبيّة لا يمكن إلاّ أن تصدم "سباتنا التاريخيّ" تساءلنا في خاتمة الجزء الأوّل من مقالنا: من هو كبير العلماء الغربيّين الذي علّمهم الشكّ؟ وألمحنا إلى أنّ طرحنا لهذا السؤال يهدف إلى إدراك حقائق أخرى أكثر خفاء ودقّة تتجاوز الإسلام ديانة وحضارة وشخصيّات تاريخيّة.
كبيرهم الذي علّمهم الشـك!
لم يكتف غريغور سكولار في مقدّمة عمله باستعراض ما أنجزه الباحثون الغربيّون في نطاق الدراسات المحمّديّة، بل أشار أيضا إلى أهمّ أصل نظريّ ومنهجيّ نهضت عليه قراءة المدرسة التاريخيّة، ونعني بذلك الكتاب الذي وضعه الباحث الألمانيّ إرنست برنهايم (1850-1942) Ernst Bernheim تحت عنوان: "درس في المنهج التاريخيّ وفلسفة التاريخ" (Lehrbuch der Historischen Methode und der Geschichtsphilosophie).
وقد كان هذا الأثر الذي صدرت طبعته الأولى سنة 1903 في أكثر من ثمانمائة صفحة فتحا حقيقيّا وأداةً من الأدوات التي لا غنى عنها لأيّ مؤرّخ والباب المفضي بالدارسين إلى تمييز الخطإ من الصواب. ففيه وضع إرنست برنهايم القواعد التي يجدر بأيّ مؤرّخ أن يعتمدها للتعامل مع المرويّات ولتمييز صحيحها من السقيم. إنّه -بلغة الأدب والشعر- "عَروض الوقائع والأحداث" تُـعَـيَّـرُ وفق ميزانه المرويّات والنقول استنادًا إلى شروط أهمّها ضرورة اختبار المصادر عن قرب اختبارا نقديًّا وذلك بالنظر في مدى معاصرة الشهود للأحداث. فإن لم يكن الشهود معاصرين للحدث مباشرة، جاز للمؤرّخ أن يستنتج أنّ ما يُنقل على لسانهم ليس الوقائع كما هي في حالتها الخام، بل الوقائع كما فهموها وتصوّروها. بعبارة أخرى، فإنّ "الشهود" (أو من نعدّهم -مبدئيّا- كذلك) بقدر ما يبتعدون زمانيّا عن الأحداث إنّما يقدّمون لنا رؤيتهم لما جرى ولا يقدّمون بالضرورة الحدث في حدّ ذاته لأنّ بعدهم الزمانيّ عن الوقائع يجعلهم خاضعين للمؤثّرات، فهم "يلوّنون" الحدث و"يشوّهونه" بسبب الآراء الشخصيّة والأفكار المسبقة، سواء أكان ذلك بصورة قصديّة أو غير قصديّة، واعية أو لاواعية.
ولتجاوز مثل هذه الصعوبات المنهجيّة التي تطرحها الشهادات، يقترح إرنست برنهايم إخضاع المصادر إلى ضربَيْن من القراءة: قراءة داخليّة، وأخرى خارجيّة. وهما قراءتان تهدفان إلى إعادة تشكيل الاحداث من خلال التعامل مع كلّ مصدر معتمد بشكل مختلف يراعي طبيعته وخصوصيّاته الذاتيّة والموضوعيّة. ولإكساب القراءتيْن الداخليّة والخارجيّة ما يكفي من الضمانات المنهجيّة وآليات التحقّق يتّخذ إرنست برنهايم الراهن شاهدًا على الغائب من منطلق أنّ الحدث الماضي (إن وقع حقّا) فلا بدّ أن تكون له امتدادات ونتائج وآثار في الزمن الحاضر. وفي جميع الأحوال، فإنّ على المؤرّخ أن يقتنع بأنّ مجال عمله لا يقدّم الحقيقة بشكل مطلق، بل يقدّم فرضيّات وأحيانا لا يقدّم إلاّ احتمالات لا غير.
ذاك أهمّ ما ألمح إليه الكاتب غريغور سكولار في معرض حديثه عن المؤرّخ إرنست برنهايم، أبي المنهج التاريخيّ. ومن الضروريّ أن نلاحظ في المقام الذي نحن فيه أنّ هذا المؤرّخ الذي اعتبرناه "كبير العلماء الغربيّين الذي علّمهم الشكّ" (وبعض الشكّ سحر!!) لم يتطرّق إلى محمّد (صلعم) ولا إلى سيرته بل كانت غايته الاساسيّة وضع منهج عامٍّ تُقرأ وفقه المصادر قراءة نقديّة من أجل كتابة التاريخ كتابة أقرب ما تكون إلى الدقّة والموضوعيّة.
لا مناص لنا من أن نلحّ وأن نبالغ في التأكيد على أنّ نشأة المنهج التاريخيّ في أروبا وامتداداته المعرفيّة اللاّحقة في العالم الغربيّ لم تكن على صلة عضويّة مباشرة بالإسلام ديانة وحضارة وشخصيّات تاريخيّة. فلا ينبغي أن تأخذنا الأوهام إلى الاعتقاد الخاطئ بأنّ هذا المنهج الذي أرسى إرنست برنهايم أسسه ثمّ عدّلها من بعده وفي عصره مؤرّخون آخرون قد تمّت صياغته خصّيصًا لدراسة تاريخنا العربيّ الإسلاميّ وللنيل منه كما يحلو للكثيرين القول. وإذا كان ثمّة من حقيقة يجدر بمعظم المفكّرين العرب المسلمين المحدثين والمعاصرين أن يعترفوا بها، فهي تلك المتّصلة بمواقفهم من الاستشراق. فقد ظلّت أعمال المستشرقين وآراؤهم مثار جدل لا ينقطع حتّى بعدما تخلّى الاستشراق ذاتُـه عن تقديم أعلامه بهذه الصفة وتحت هذا المسمّى ولا سيّما أنّه جدّد أفقه المعرفي (نقول: جدّد الأفق، ولم نقل: جدّد الأرضيّة المعرفيّة!) وطوّر أدواته المنهجيّة (نقول: طوّر الأدوات، ولم نقل: غيّرها أو استبدلها!) ونَـقَـضَ، أو كاد، سلطان أساطينه ومؤسّسي خطابه الأوائل (نقول: نقض سلطانهم، أو كاد، ولم نفصّل القول في إمكانيّة إبرامه سلطانًا غيره لعلّه أشدّ وقعا ووطأة!).
مشكلة معظم مفكّرينا العرب المسلمين المحدثين والمعاصرين في علاقتهم مع الاستشراق أنّ أيّ حديث عن خطابه ومضامينه وأحكامه سرعان ما ينقلب إلى محاكمة وإلى تصفية حساب لا تخلو -في معظم الأحيان- من حالات التشنّج التي تؤبّد سوء الفهم المتبادل، أو بالأحرى سوء الفهم لدينا ولدى قطاع كبير من المشتغلين بقضايا الفكر عندنا.
لِـنَـقُـلْـها بكلّ وضوح ولـتَـعِـهَا كلُّ أُذْنٍ واعية: ما نسمّيه اليوم استشراقًا، وما يصبّ عليه جُلّنا جام الأحكام المسبقة ليس من الاستشراق الذي عَـهِـدَهُ أسلافنا ونظنّ أنّنا نعرفه في شيء.. فـ"مستشرقو" أيّامنا الحاضرة أو من نسمّيهم -عن غفلة منّا- كذلك ليسوا أبدا مستشرقي الأيّام الخوالي.. لقد تغيّر السياق، سياق تحديد القطاعات المعرفيّة وتقسيمها وتعيين أدوات الإنتاج فيها وصيغ تداول نتائجها، فصارت القضايا التي هي في الأصل قضايانا (ولكنّ قصورنا جعلنا مغيّبين عنها!) قضايا عالميّة يتبارز في صياغة أطروحاتها الباحثون الألمان والإنجليز والأمريكان.
إنّ محاور الجدل المعرفيّ، بل محاور الصراع العلميّ المحتدم اليوم، ليست بيننا نحن العرب المسلمين، من ناحية، وبين من نسمّيهم -خطأ- بـ"المستشرقين"، من ناحية أخرى… ذاك زمان ولّى وانقضى، فقد غيّر الاستشراق عنوانه دون أن يُعْلِمَ أحدًا منّا، مؤيّديه أو مخالفيه، بعنوانه الجديد… أجل، غيّر الاستشراق عنوانه واستبدل يافطته، وما نظنّ اليوم أنّ أحدًا من هؤلاء الباحثين الغربيّين الذين يكتبون في قضايا السيرة النبويّة أو في قضايا الشريعة أو في قضايا العلاقة بين الإسلام والديموقراطيّة أو في غيرها من القضايا يأبه حقّا لما يُنشر في العالم العربيّ الإسلاميّ من دراسات تعقيبا على آرائه أو تقويمًا لمواقفه. ولكن، في المقابل، فإنّ الباحثين الألمان (على سبيل المثال) لا يكتبون حرفًا في قضايا العالميْن العربيّ والإسلامي إلاّ وهم يستحضرون أمام أعينهم نظراءهم الأنجليز والأمريكان ويتوجّسون منهم موقفًا أو ردًّا أو تصويباً؛ والعكس بالعكس.
لقد تشكّلت هناك، بعيدا عن أعيننا وعن وعينا المنهك بجراح أحكامه المسبقة وأدواته المنهجيّة الرثّة المتقادمة مجموعات علميّة تحتكم إلى معايير دقيقة غاية في الصرامة لا يعنيها في شيء إن كان الموضوع المدروس شخص النبيّ محمّد (صلعم) أو شخص المسيح (عم) أو شخص بوذا أو شخص حسين علي النوري بهاء الدين زعيم البهائيّة؛ فالمهمّ بالنسبة إليها إخضاع هذه الشخصيّات التي يقدّمها أتباعها على أنّها شخصيّات تاريخيّة لمعايير علم التاريخ. وهل بمقدور عاقلٍ حقّا أن يستكثر على من يدّعي أنّ له دورًا في التاريخ أن يُدرس بمعايير هذا العلم؟!
ذاك هو بيت القصيد، بيت نظنّ فيه (واهمين حينا وجاهلين أحيانًا أخر) أنّ شخص محمّد (صلعم) "مستهدف" دون غيره من الشخصيّات التاريخيّة، وأنّ سيرته وحدها هي التي تحوم حولها الشكوك بما يستدعي إخضاعها لمعايير القراءة/الكتابة التاريخيّة. ولكنّنا بالعودة إلى النصوص الأصول التي احتكم إليها الباحثون الغربيّون سرعان ما نتفطّن إلى أنّ الأمر ليس بهذه الدرجة من البساطة ولا بهذا القدر من الاختزال.
أبدًا لم يكن محمد (صلعم) مستهدفًا دون الآخرين في شخصه ولا في رسالته، أبدًا لم يكن الإسلام موضوعًا للطعن أو التشكيك دون غيره من الديانات السماويّة أو الوضعيّة. كلّ ما في الأمر -والأمر مع ذلك عظيمٌ جَـلَـلٌ- أنّ علماء التاريخ ألزموا أنفسهم بضوابط ومحاذير لا نُماري في أنّها تصدم أصحاب المشاعر الرقيقة والقناعات المرهفة أيّا تكن الديانة التي يعتنقونها أو المعتقد الذي يتمسّكون به. كان علماء التاريخ يرومون الحقيقة "كما هي" بلا "زيادة ولا نقصان"، بعيدًا عن اعتبارات الإيمان والدوغما.. كانوا يسعون إلى إدراكها "عاريّة" لا تشوبها نوازع التضخيم أو التهجين. وهذا بعض ما سعى غريغور سكولار إلى الإسهام فيه. فما الجديد الذي جاء به؟ وما مقدار الجدّة فيه؟
الأسئلة القديمة… والأجوبة المستحدثة
يعترف غريغور سكولار بمنتهى الوضوح وبكامل التواضع أنّ الرؤية المنهجيّة التي يقترحها لدراسة السيرة النبويّة هي رؤية تجريبيّة، بما يعني أنّ الغاية التي يهدف إليها ليست الوصول إلى "حقائق" نهائيّة قاطعة بل تلمّس الطريق نحو صيغة جديدة في معالجة القضايا التي تطرحها حياة محمّد (صلعم) كما دوّنها أتباعه والمؤمنون برسالته قرنَيْن من الزمن على الأقل بعد وفاته. ولأنّ نزعة الكاتب تنحو أكثر منحى الاختبار والتجريب، فقد اكتفى من السيرة النبويّة بواقعَتَيْن من وقائعها: واقعة ما يُعرف بـ"بـدء الوحي" وواقعة ما يُعرف بـ"حادثة الإفك". ولعلّ مكمن الطرافة في المنوال الذي يقترح غريغور سكولار السير على هديه أنّه يحوّل مركز ثـقـل القضايا المطروحة لينزّلها ضمن إشكاليّة تعوّد الدارسون على طرحها في سياق الدراسات الأدبيّة، ونعني بذلك إشكاليّة الشفويّ والمكتوب. والواقع أنّ تنزيل السيرة النبويّة وقضاياها في هذا المستوى الإشكاليّ غير المعهود يُـعَـدُّ تطوّرًا نوعيًّا في الدراسات المحمّديّة، تماما مثلما يمثّل نقلةً في مسيرة غريغور سكولار ذاته. فممّا لا ينبغي أن يغيب عن أذهاننا أنّ هذا الباحث إنّما اشتهر في الأوساط العلميّة والأكاديميّة الدوليّة -أوّل ما اشتهر- على أساس كونه من المنشغلين بالأدب العربيّ القديم وقضاياه من خلال دراسته الموسومة بـ"الشفويّ والمكتوب في بدايات الإسلام" والمترجمة من الألمانيّة إلى الإنجليزيّة سنة 2006 تحت عنوان (The Oral and the Written in Early Islam). ومن الواضح أنّ وعيه بقيمة النتائج التي انتهى إليها في أعقاب طرحه لمسألة الشفوي والمكتوب ضمن مبحث الدراسات الأدبيّة هو الذي دفعه إلى طرحها واختبارها في نطاق مبحث الدراسات المحمّديّة. ومن أهمّ ما انتهى إليه، في مستهلّ طرحه للإشكاليّة بهذه الصيغة أنّ تداول المعارف (بما في ذلك المعطيات والموادّ التاريخيّة) في فترة بواكير الإسلام (أي إلى حدود القرن الأوّل هجريّا) كان قائما على المشافهة التي تقتصر فيها وظيفة من يمكن أن نُسمِّيهم تجوّزًا بـ"العلماء" على تبليغ المعلومة، ويقف فيها دور من يمكن أن نسمِّيهم تجوّزًا بـ"الطلبة" أو "طالبي العلم" عند حدود التلقّي والاستيعاب؛ مع غياب شبه كليّ لأيّ أثر مكتوب من منطلق الوعي الصريح والإجماع الضمنيّ بأنّ الكتابة وما يتّصل بها من أدوات ووسائل ينبغي أن تُـقْـصَـرَ وأن تُـحْـصَـرَ في النصّ المقدّس وحده، فالقرآن هو "الكتاب" بامتياز ولا يجوز أن تشاركه في هذه المرتبة أيّ نصوص أخرى مهما تكن قيمتها التوثيقيّة أو أهميّتها التاريخيّة.
لكن، ورغم هيمنة الشفويّ على صيغ تداول المعرفة إلى حدود القرن الأوّل هجريّا للاعتبارات السالف ذكرها، فإنّ المكتوب سرعان ما "تـسـلّـل" إلى الشفويّ واقتحم حَـرَمَـه، متّخذًا في بداية الأمر صيغة "مذكّرات" و"رؤوس أقلام" هدفها مساعدة طالبي العلم على استحضار ما قيل خلال الدرس. ثمّ تدرّج الأمر نحو صيغة أكثر تطوّرًا خرجت فيها المذكّرات المكتوبة ورؤوس الأقلام المدوّنة من دائرة الاستعمال الشخصيّ الضيّقة إلى دائرة أكثر اتّساعًا، شيئا ما، أي دائرة التداول في نطاق ما يمكن أن نسمّيه تجوّزًا بـ"المدرسة". وذلك ما يسمّيه غريغور سكولار بـ"أدب المدرسة من أجل المدرسة".
وفي أعقاب هذه المرحلة التي غلب عليها تراشح ما بين الشفويّ والمكتوب مع غلبة واضحة للأوّل على الثاني، عرفت الحضارة العربيّة الإسلاميّة -رسميّا- عصر التدوين على يد العبّاسيّين بشكل أضحى فيه المكتوب الوسيلة والواسطة الأساسيّة لتناقل المعارف وتداولها. ولكنّ "تقدّم" المكتوب و"هيمنته" الظاهريّة على الشفويّ كان مجرّد شكل خارجيّ. فـ"الثقافة الجديدة"، ثقافة التدوين والتصنيف ظلّت محكومة في عمقها بما يُتداول على الألسنة القصّاص والرواة والإخباريّين.
واستنادًا إلى هذا المنطلق/المدخل عالج غريغور سكولار واقعَتَيْ بدء الوحي وحادثة الإفك. فدرس كيفيّة تداول المعطيات "التاريخيّة" أو ما يمكن -مبدئيّا- أن نعتبره كذلك، من خلال رصد أسانيد أربعة أجيال متعاقبة، جيل أوّل نقل فيه عروة بن الزبير (ت.94 هـ.) المعطيات إلى ابنه هشام بن عروة (ت.146 هـ.) أو إلى الزهريّ (ت.124 هـ.)؛ وجيل ثان نقل فيه الزهريّ المعطيات إلى معمّر (ت. 154؟ هـ.) أو إلى ابن إسحاق (ت. 151 هـ.)؛ وجيل ثالث نقل فيه ابن إسحاق المعطيات إلى البكائي (ت.183 هـ.) أو إلى يونس بن بكير (ت.199؟ هـ.)، ونقلها فيه معمّر إلى عبد الرزاق بن همّام (ت.211 هـ.)؛ وجيل رابع نقل فيه البكّائي المعطيات إلى ابن هشام (ت.218 هـ.).
والذي يعنينا من هذه المعطيات وكيفيّة تداولها جيلا بعد آخر أنّها تراوحت بين حَدَّيْ "الرواية بالمعنى" و"الرواية باللّفظ". وبين هذَيْن الحدَّيْن، فعلت الذاكرتان الفرديّة والجمعيّة فعلهما فلم تنقلا لنا الوقائع والأحداث كما هي بل نقلتاها وفق آليّة الاسترجاع، أي أنّهما أوّلتاها في ضوء أفق انتظار المتقبّلين وفي ضوء معارفهم السابقة وفي ضوء ما تصوّروا -عن صواب أو عن خطأ- أنّ حدوثه ربّما كان أكثر منطقيّة ومعقوليّة. ومعنى ذلك أنّ ما تداولته الألسن وما سطّرته بعض الأقلام منذ منتصف القرن الأوّل هجريّا وإلى حدود النصف الثاني من القرن الثاني هجريّا لم يكن موضوعيّا تمام الموضوعيّة لأنّ المهتمّين بالسيرة النبويّة وببواكير التاريخ الإسلاميّ إنّما دوّنوا مادّةً عبّرت عن اهتماماتهم الشخصيّة وعكست مشاغل الرواة الذين نقلوا عنهم الأخبار.
وممّا يؤكّد ترجّح هذا المنحى في التحليل ظهور عناصر في المرويّات/المدوّنات هي أقرب إلى "الأساليب الإنشائيّة" (Topos) تعكس بداية شيوع نمط في الكتابة أكثر من أن تعكس حيويّة المشافهة وحركيّة مادّتها. وشيئا فشيئا اكتسبت "مؤثّرات المكتوب" و"نواميس التدوين" الأسبقيّة على "طبائع المشافهة" مفسحة المجال لظهور اقتباسات الأسلوب ولاعتماد المرادفات وللتعويل على المختصرات وإضافة الملحوظات الصغيرة التي قد يكون لها أثر بالغ في توجيه المعنى و"تحريفه".
وبالرغم من خطورة النتائج التي ترتّبت على انتقال المادّة التاريخيّة من مستوى التداول الشفويّ إلى مستوى التدوين فإنّ غريغور سكولار يعتبر أنّه من غير المقبول التشكيك في "الحقيقة التاريخيّة" للملامح الكبرى التي نقلتها لنا المرويّات الأولى إلى حدود جيلَيْن من الأجيال التي أعقبت وفاة محمّد (صلعم) لأنّ ما يسمّيه "الذاكرة الحيّة" لا يمكن أن تصيبها الأعطاب وآفة النسيان سريعًا، وخاصّة إذا ما تعلّق الأمر بحادثة مخالفة للمعهود كما هو الشأن بالنسبة إلى ما يعرف في المصادر الإسلاميّة بـ"حديث الإفك". فالوقائع الاستثنائيّة غير المألوفة غالبا ما تكون عصيّة على النمذجة والمثلنة (idealization)، وليست للاختلافات في مستوى تفاصيل الروايات وجزئيّاتها أيّة دلالة خاصّةٍ، لأنّها لا تعني بالضرورة أنّ ما نُقل إلينا وما تمّ تدوينه مختلقٌ أو موضوعٌ؛ وغاية ما في الأمر أنّ الفروق بين الروايات ناتجة عن خلل في الذاكرة وعن تعديلات عرضيّة وعن مؤثّرات لاواعية. ومع ذلك، فإنّ الكاتب يلحّ على ضرورة التمييز بين مستوَيَيْن تكشف عنهما المصادر المكتوبة التي وصلتنا: مستوى تتجلّي فيه بصورة واضحة آثار المشافهة ونواميسها وهو المستوى الذي يبدو فيه المدوّنون غير آبهين بضبط التواريخ ضبطا كرونولوجيّا فغاية ما يرمون إليه مراكمة الموادّ المنقولة كلّ مادّة على حدة دون اعتناء بتسلسلها وببيان صلة إحداها بالأخرى؛ ومستوى تبرز من خلاله آثار المكتوب وقواعده التي تعكس رغبة واضحة في بيان العلاقة بين الأسباب والنتائج وسعيا جليّا إلى الوقوف على تعالقها. وهذا ما يميّز على وجه الخصوص جيل "المؤرّخين" أمثال الواقدي وابن إسحاق اللّذَيْن تميّزت كتاباتهما بعنصر جديد كلّ الجدّة تمثّل في إقحامهما استنتاجات وبراهين خاصّةً وتصريحًا بمواقفهما من الأحداث التي يرويانها لا تخلو في أحيان كثيرة من التناقض والخطإ.
أنا لا أكذب… ولا أتجمّل!!
"أنا لا أكذب، ولكنّني أتجمّل" عنوان شريط سينمائيّ أخرجه سنة 1981 المصريّ إبراهيم الشقنقيري عن قصّة للروائي إحسان عبد القدّوس، شريط لم يستطع فيه بطله إبراهيم (قام بالدور الممثّل الراحل أحمد زكي) أن يخفي طويلا حقيقة أصوله الاجتماعيّة الفقيرة أمام البطلة خيريّة (قامت بالدور الممثّلة آثار الحكيم) المنحدرة من أصول اجتماعيّة راقية.. فكان الصدام.
نختتم هذه المقالة ونحن نستحضر هذا الشريط وعنوانه، فقط لنقول إنّ بمقدورنا أن نكذب وأن نتجمّل وأن نلبس ما لا يتناهى من الأقنعة وأن نحتمي بها وأن نتخفّى وراءها؛ ولكنّ الأقنعة -أيّا تكن متانتها وقدرتها السحريّة على تزييف وعينا- لن تفيدنا في شيء ولن تنفعنا في مواجهة الحقيقة، حتّى ولو كانت الحقيقة قبيحةً عاريةً بائسةً… وذاك شأن تاريخنا العربيّ الإسلاميّ كما تعوّدنا التعامل معه.. تاريخ تحملنا وقائعه التأسيسيّة الملحميّة إلى الاعتزاز به والتماهي معه والدفاع عنه كما هو أو كما وصلنا؛ ولكنّ ضوابط العقلانيّة وقيود المنطق تدعونا إلى إعادة النظر فيه بعين التجرّد، عين يبدو من الضروريّ أن نستعيرها من غيرنا… ولكن، أَلَـمْ يقل عبّاس بن الأحنف يومًا ما:
من ذا يُعيرُكَ عَـيْـنَـهُ تَبكي بها؟/أَرَأَيْـتَ عـيْنًا للبكاء تُـعَارُ؟!
فمن أين نستعير عينًا ننظر بها إلى ماضينا لا لنبكي عليه (فقد تعوّدنا البكاء على الأطلال)؟ ولكنّنا نريد عينًا أخرى، عينا ترى وتعي وتتكلّم…
الكتاب/ The biography of Muhammad – Nature and Authenticity
سيرة محمّد – طبيعتها و موثوقيّتها
المؤلّف / غريغور سكولار Gregor Schoeler
المترجم/ نقله من الألمانيّة إلى الإنجليزيّة: Uwe Vagelpohl
دار النشر/ Routledge، لندن 2011 .
فاتح منصور
المصدر: الأوان
إضافة تعليق جديد