أسلمة مصر بين نموذجي تركيا وباكستان
يقدم «الإخوان المسلمون» في مصر والعالم العربي في السنوات الأخيرة أنفسهم باعتبارهم من أصحاب «النموذج التركي»، والقادرين على اجتراح إيجابياته في بلدانهم. وتفاقم استخدام النموذج التركي في أدبيات الجماعة قبيل «الربيع العربي»، حيث استخدم هذا النموذج كوسيلة ممتازة للمقارعات الفكرية للأخوان مع خصومهم السياسيين والسلطات الديكتاتورية الحاكمة في كل من مصر وتونس. ولكن الأمر سار على نحو مغاير نسبياً بعد تنحي مبارك وبن علي، ففي حين ينظر راشد الغنوشي مؤسس حزب النهضة بإيجابية كبيرة إلى النموذج التركي من جوانبه المختلفة، تعتقد قيادات «الإخوان المسلمين» في مصر بوجود جوانب إيجابية في النموذج التركي تتعلق بالطفرة الاقتصادية وإدارة السياسة الخارجية، دون أن ينسحب ذلك بالضرورة على السياسة الداخلية. ويتجلى المثال الواضح على ذلك في تصريحات أردوغان خلال زيارته القاهرة العام الماضي، وإعلانه تفضيل «الدولة العلمانية» كأساس للحكم رغم كونه مسلماً. أثارت تصريحات أردوغان زوبعة من الانتقادات الإخوانية، التي تعتقد أن التوازنات المجتمعية القائمة في تركيا لا تجعلهم مضطرين إلى القبول في مصر بما قبل به أردوغان ورفاقه في تركيا. ومع وجود تشابهات واضحة بين النموذج الإخواني والنموذج التركي، من حيث أنهما يمثلان «الإسلام الوسطي» غير الجهادي وغير السلفي، كما أنهما يرسمان سياستيهما الإقليمية والدولية ضمن إطار النظام الدولي الراهن وتراتبيته المعلومة، فضلاً عن عدم تحدي أي منهما للنمط السائد في الاقتصاد الدولي ولا أسسه. وبالرغم من هذه الاشتراكات الثلاث الهامة، فلا يمكن تجاهل مجموعة كبيرة من الفوارق بينهما.
يعد السياق العلماني الذي يحكم التطور التاريخي والمجتمعي في تركيا، الملمح الأول للاختلاف بين الحالتين المصرية والتركية، في حين يبدو هذا السياق ملتبساً في الحالة المصرية على أحسن تقدير. ويعني ذلك أن التوازنات المجتمعية القائمة في تركيا منذ تأسيس الجمهورية العام 1923 والمرتكزة على العلمانية تختلف عن توازنات مصر، التي لم تتبن العلمانية صراحة في أي وقت من تاريخها الحديث، ولكنها لم تكن دولة دينية منذ تأسيس دولتها الحديثة 1820. وتشي نسبة 10% التي تتمثل عندها الأحزاب في البرلمان التركي ـ وليس أقل من تلك النسبة ـ برغبة مؤسس الجمهورية التركية في وجود حزبين كبيرين يتناوبان على السلطة، وهو ما حدث لعقود طويلة في تركيا. أما في مصر ومنذ العام 1952 وحتى الانتفاضة الشعبية في 2011 فقد دانت السيطرة لحزب واحد اختزل ـ تحت مسميات مختلفة ـ الدولة ومؤسساتها وأجهزتها. وهنا بالتحديد تبدو الحالة السياسية التركية أكثر تطوراً من الحالة المصرية، وحتى قبل وصول حزب «العدالة والتنمية» للسلطة العام 2002. وتختلف طبيعة وبنية حزب «العدالة والتنمية» الحاكم في تركيا كثيراً عن جماعة «الإخوان المسلمين» في مصر؛ فمن حيث السياق التاريخي يعد حزب «العدالة والتنمية» نتاجاً لتطور الأحزاب التركية المحافظة ذات الجذور الإسلامية والمشاركة في الحكومات التركية منذ السبعينيات (أحزاب نجم الدين أربكان). بالمقابل لم تتح لجماعة «الإخوان المسلمين» المشاركة في أية حكومات مصرية قبل الانتفاضة الشعبية. وفي حين يعد حزب «العدالة والتنمية» حزباً تركياً بامتياز، ولا أحزاب شقيقة لديه، تعتبر جماعة «الإخوان المسلمين» تنظيماً دولياً له فروع في عشرات الدول الإسلامية. يركز حزب «العدالة والتنمية» التركي على العمل السياسي حصراً، في حين لم تتخل جماعة «الإخوان المسلمين» عن المزج بين السياسي والدعوي، فلها ذراع سياسي يتمثل في حزب «الحرية والعدالة» بينما الجماعة تنشغل بالاثنين معاً.
تتباين المنطلقات المرجعية للحزبين، فهي فقه المقاصد والتراث الصوفي في الحالة التركية، بينما تعد جماعة «الإخوان المسلمين» مظلة يستظل بها تيارات ثلاثة: سلفي وإصلاحي وقطبي (نسبة إلى سيد قطب وهم من يسيطرون على قيادة الجماعة). تتشكل عضوية الحزب في الحالة التركية من أعضاء من كل الأديان والطوائف التركية، إلا أن جماعة «الإخوان المسلمين» تتشكل حصراً من المسلمين السنة. ويكمن الفارق الأساسي والجوهري في رأس المال الداعم للحزب، حيث يدعم حزب «العدالة والتنمية» التركي فوائض عمليات الانتاج التركية عموماً والأناضولية خصوصاً، بينما اعتمدت جماعة «الإخوان المسلمين»، تاريخياً، على الفوائض المتحققة من ريع النفط والغاز في الخليج، وما يعنيه ذلك من اختلاف في النسق القيمي للرأسمال الداعم، الذي يترك تأثيره الواضح على منظومة القيم الخاصة بالمتلقي. لم تكن العلاقة بين الدولة والأحزاب ذات المرجعية الإسلامية سهلة في تركيا، والدليل على ذلك حل هذه الأحزاب طيلة السبعينيات والثمانينيات. وبلغ التصادم اوجه بين الطرفين مع الانقلاب الناعم الذي أطاح بنجم الدين أربكان من رئاسة الوزراء العام 1997. وأدى الصدام المذكور إضافة إلى عوامل أخرى إلى انشقاق مجموعة أردوغان وغول عن «حزب الرفاه» الذي ترأسه أربكان، وقاموا بتأسيس حزب جديد هو «العدالة والتنمية» أكثر انفتاحاً من حزب «الرفاه». وخاض الحزب الجديد الانتخابات البرلمانية وفاز بها العام 2002 واستمر في الحكم من وقتها وحتى الآن باعتراف دولي واضح. ومع ذلك لا يمكن وصف طريق الجيش والمؤسسة العلمانية من ناحية وحزب «العدالة والتنمية» في تركيا من ناحية أخرى بالسهل، فالأكيد أن طبيعة حزب «العدالة والتنمية» ومقتضيات التوازن مع المؤسسة العسكرية وضعت قواعد لعب جديدة في تركيا، تلخصت في غياب منطق الضربات القاضية واعتماد مبدأ مراكمة النقاط.
يقوم الجوهر الأساسي للنموذج التركي على وجود توازن للقوى المجتمعية بين «حزب العدالة والتنمية» من ناحية والمؤسسة العسكرية والدستور من ناحية أخرى، بمعنى أن القيود تجعله خلاقاً أكثر وأقل اصطداماً بمؤسسات الدولة، مع التسليم بأن هذا الجوهر غير موجود وغير متبلور في الحالة المصرية. كانت الأحزاب المدنية ذات المرجعية الدينية نتاجاً للتطورات للأحزاب في تركيا ذات الخلفية الإسلامية؛ إذ أن «حزب العدالة والتنمية» هو بالأساس انشقاق عن «حزب السعادة»، وهو الحزب الذي خلف «حزب الرفاه»، وبدوره كان»حزب الرفاه» خليفة «حزب السلامة الوطني». هذه التجربة السياسية لم تشهدها الحالة المصرية والعربية، لأن هذه الأحزاب كانت أحزاباً علنية، وبالتالي ما انبثق منها كان علنياً وله تاريخ معروف واضح. فضلاً عن امتلاك الأحزاب ذات الجذور الإسلامية في تركيا لموهبة النفاذ بين الثغرات الدستورية، ولا أعتقد أن هذه الرشاقة السياسية موجودة في مصر حتى الآن. ولا تغيب أيضاً في هذا السياق ملاحظة هامة مفادها أن الصراع لا يحسم بين القوى المجتمعية في تركيا بالضربات القاضية، بمعني أن «حزب العدالة والتنمية» في صراعه مع المؤسسة العسكرية التركية يراكم النجاحات، ولكنه لا ينتصر انتصاراً ساحقاً.
الخلاصة
تتموضع الحالة المصرية في موقع وسط بين الحالتين التركية والباكستانية، اللتين ترتهنان بسياق تاريخي ومجتمعي مغاير عن الحالة المصرية، على الرغم من نقاط الالتقاء المشتركة معها. تفضل المؤسسة العسكرية النموذج الباكستاني بما يتيحه من إمكانات غير مقيدة تقريبا للمؤسسة العسكرية لصياغة وتشكيل المشهد السياسي بما يخدم مصالحها، في حين تقترب جماعة الإخوان المسلمين نسبياً من النموذج التركي، الذي تراه مواتياً لمصلحتها، خصوصاً لجهة قدرته على حسم الصراع مع المؤسسة العسكرية، وإن بالنقاط وعلى مراحل متتابعة. نشأت الحركة الإسلامية الباكستانية في مواجهة الهوية الهندوسية، أي أن الإسلام منغرس في بذرة قيام الدولة الباكستانية، وعلة وجودها في الواقع. وهنا بالتحديد يكمن اختلاف عميق عن الحالة المصرية، لأن الدولة المصرية قامت قبل الأديان بقرون طويلة، وبالتالي لا تستند في بذرتها إلى الأساس الديني كما في الحالة الباكستانية.
يرتهن النموذج الباكستاني بكينونة دولتية ومجتمعية غير متحققة في مصر، مثلما يقوم النموذج التركي على حالة من الحراك السياسي والمجتمعي لم تتح لمصر خلال العقود الماضية. تبدو الصيغة التركية في إدارة الصراع بين حزب «العدالة والتنمية» والمؤسسة العسكرية التركية أكثر مناسبة لمصر من مبدأ الإقصاء أو الانتصار الساحق لطرف على أخر، ولكن اختلاف السياق التاريخي بين الحالتين المصرية والتركية؛ فضلاً عن الاختلافات البنيوية والعقائدية بين «الإخوان المسلمين» وحزب «العدالة والتنمية» التركي تجعل الموضوع يدخل حيز التمنيات أكثر مما يعبر عن الواقع. ربما يتوجب على مصر أن تبحث عن نموذجها الخاص، وهو ما ينسحب على الطرفين الأساسيين بالمعادلة الإخوان المسلمون والمؤسسة العسكرية، نموذج لا يعرف الضربات القاضية في حسم الصراعات، وإنما المواءمات السياسية النابعة من خصوصية المجتمع المصري وتركيبته المختلفة عن كل من باكستان وتركيا. ربما تكون الإجابة عن سؤال المقال: إلى أين تتجه مصر: تركيا أم باكستان؟ قد أصبحت واضحة نوعاً ما، فمصر التي تملك مشتركات مع نموذجي تركيا وباكستان وتناقضات تاريخية وبنيوية معهما، لن تتجه على الأرجح إلى أي منهما، بل ستدخل مرحلة التعايش بين العسكر والإسلاميين وفق توازناتها السياسية وخصوصية مجتمعها. ريثما تجد مصر نموذجها الخاص بها، الذي ينطلق من خصوصياتها الوطنية والمجتمعية، سيظل الصراع / التعايش الأساسي بين العسكر والإخوان قائماً في بر مصر، وستستمر المقارنات منعقدة حتى ذلك الحين بين النماذج... ولكن كمسرح رمزي للصراع الأساسي!
مصطفى اللباد
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد