الجيش السوري الحر: ثوري أم رجعي ؟
منذ ثمانية عشر شهرا, وسورية فريسة اضطرابات ازدادت حدتها, حتى تحولت إلى نزاع مسلح, حصد حياة نحوا من عشرين ألف شخص حتى الآن. فإذا كان هناك اتفاق حول هذا الاستنتاج, هناك في المقابل اختلاف في الرواية والتفسير لما يجري.
بالنسبة للدول الغربية وصحافتها, فإن السوريين يطمحون للعيش على الطريقة الغربية, في ديمقراطيات السوق, وأنهم انتفضوا منطلقين من نموذج " الربيع العربي" التونسي, والمصري, والليبي, للإطاحة بالدكتاتور بشار الأسد, الذي قمع مظاهراتهم وأغرقها بالدماء. وأنه حين كان يأمل الغربيون التدخل عسكريا لوقف المجازر, كان الروس والصينيون, يبدون, مدفوعين بمصالحهم وازدرائهم لحياة البشر, معارضتهم لهذا التدخل.
على النقيض من ذلك, ترى جميع الدول التي لاتدور في فلك الولايات المتحدة وصحافتها, بأن الأخيرة قد أطلقت عملية سبق أن خططت لها منذ زمن بعيد ضد سورية.
أولا , من خلال خداع حلفائهم الاقليميين, ثم قيامهم بشكل مباشر بإدخال عصابات مسلحة لزعزعة استقرار البلد, على غرار عصابات الكونتراس, في نيكاراغوا.
مع ذلك, لم يجن هؤلاء, من الداخل إلا دعما محدودا جدا, كان السبب في فشلهم, خصوصا عندما منعت روسيا والصين حلف الناتو من القضاء على الجيش السوري. الأمر الذي قلب المعادلة الاقليمية, رأسا على عقب.
من يقول الصواب؟ ومن المخطئ؟
المجموعات المسلحة في سورية لاتدافع عن الديمقراطية, بل تحاربها
أولا, إن تفسير مايجري في سورية على أنه امتداد لمسلسل "الربيع العربي" هو مجرد وهم, لأن هذا "الربيع" لا أساس له في الواقع. إنه شعار دعئي, الهدف منه عرض وقائع غير متجانسة بشكل ايجابي.
فإذا كان ثمة انتفاضة شعبية قد حصلت فعلا في تونس واليمن والبحرين, إلا أن ماحصل في مصر وليبيا ليس كذلك.
في مصر, اقتصرت المظاهرات على الطبقة الوسطى في العاصمة, ولم تشعر بقية أفراد الشعب بأنهم معنيون بذلك الاستعراض التلفزيوني الخارق الذي رأيناه في ميدان التحرير [1]. أما في ليبيا, فلم يكن هناك ثورة سياسية, بل حركة انفصالية ليبية, ضد سلطة العاصمة طرابلس, والتي جلبت تدخل قوات حلف الناتو الذين قتلوا نحوا من 160 ألف مدني ليبي.
لقد تمكنت محطة النور التلفزيونية اللبنانية من تحقيق نجاح باهر, حين بثت عدة برامج لحسان حمد, وجورج رحمة, بعنوان " الربيع العربي من لورانس العرب إلى برنار هنري ليفي".
لقد عالج مقدما البرنامج فكرة أن "الربيع العربي" ليس إلا نسخة جديدة عن "الثورة العربية الكبرى" التي خطط لها البريطانيون ضد العثمانيين من عام 1916-1918.
عاد الغرب هذه المرة ليسيطر من جديد على الأوضاع, لكي يطيح بجيل من القادة, وفرض الأخوان المسلمين مكانهم.
واستنادا إلى ما تقدم, يتضح أن "الربيع العربي" ليس إلا كذبة دعائية, بعد أن تبين أن من يحكمون الآن في كل من المغرب, وتونس, وليبيا, ومصر, وغزة, هم جماعة دينية, من جهة تفرض نظامها الأخلاقي على البلد الذي تحكمه, وتساند الصهيونية والرأسمالية الليبرالية المزيفة, من جهة أخرى. أي بمعنى حماية مصالح اسرائيل والأنغلو سكسون في المنطقة.
لقد تبدد الوهم.
فقد مضى بعض الكتاب مؤخرا, كحال الاعلامي السوري سعيد هلال الشريفي إلى حد السخرية بالقول: "ربيع الناتو le printemps otanien".
ثانيا, إن قيادة "المجلس الوطني السوري" كما "الجيش السوري الحر", أبعد ما يكونوا عن الديمقراطية, التي تعني " حكومة شعب, منبثقة من الشعب, وللشعب" حسب تعبير ابراهام لنكولن, الذي اعتمد في متن الدستور الفرنسي.
إذا, هكذا تم تنصيب الأستاذ الجامعي الباريسي برهان غليون, كأول رئيس "للمجلس الوطني السوري", رغم أنه " لم يتعرض في حياته للاضطهاد كمعارض سوري للنظام", نظرا لأنه كان يعود دائما إلى بلده, ويتجول بحريته فيه. كما تجدر الاشارة إلى أنه لم يكن يوما مثقفا علمانيا كما يزعم, لأنه عمل كمستشار سياسي لفترة طويلة لعباسي مدني, رئيس "جبهة الخلاص الاسلامية" الجزائري الذي يعيش حاليا كلاجيء سياسي في قطر.
أما خلفه, عبد الباسط سيدا [2], فلم يدخل معترك السياسة إلا في الشهور الأخيرة, ولم يتوان عن التأكيد فورا بأنه مجرد منفذ لرغبات الولايات المتحدة. وبمجرد اقرار انتخابه على رأس " المجلس الوطني السوري ", سارع في تقديم تعهداته, ليس بالدفاع عن مصالح شعبه, بل بتطبيق بنود "خارطة الطريق" التي صاغتها الادارة الأمريكية من أجل سورية "اليوم التالي The day after". أما مقاتلوا "الجيش السوري الحر", فهم قطعا ليسوا مناضلين من أجل الديمقراطية, طالما أنهم يقرون بالسلطة الروحية للداعية التكفيري عدنان العرعور, الذي يحرض على الاطاحة ببشار الأسد وتصفيته, ليس لأسباب سياسية كما يظن البعض, بل لأنه ينتمي للطائفة العلوية, الكافرة بنظره.
هذا إضافة إلى أن كل ضباط الجيش الحر الذين تم التعرف عليهم, هممن طائفة السنة, وكل الكتائب التي أعلنوا عن تشكيلها, حملت أسماء شخصيات تاريخية من تنتمي لنفس الطائفة.
أما " المحاكم الثورية" التي أقامها "الجيش السوري الحر", فقد أصدرت أحكامها بحق كل من لايتفق معهم سياسيا ( لم تقتصر تلك الأحكام على مناصري بشار الأسد فقط, بل طالت من اعتبرتهم كفارا, وتم تنفيذ الأحكام بحقهم ذبحا أمام الجمهور).
يقتصر برنامج "الجيش السوري الحر" على انهاء النظام العلماني, المؤلف من حزب البعث, والحزب القومي السوري الاجتماعي, والحزب الشيوعي في سورية, لصالح نظام طائفي سني خالص.
الصراع السوري تدبير غربي مسبق
الارادة الغربية بالتخلص من سورية, أمر بات معروفا للجميع, وكاف تماما لتفسير الأحداث الجارية حاليا. لنتذكر في هذا الخصوص بعض الوقائع التي لاتترك مجالا للشك, في أن مايجري, قد تم التخطيط له عن سابق ترصد وتصميم [3].
قرار الحرب على سورية تم اتخاذه من قبل الرئيس جورج والتر بوش, أثناء اجتماع عقد في كامب ديفيد بتاريخ 15 أيلول-سبتمبر 2001, بعد أيام من تفجيرات نيويورك وواشنطن. وكان من المقرر أن يتم التدخل العسكري في سورية وليبيا في وقت واحد, لإثبات قدرات الولايات المتحدة على التحرك في مسرح عمليات مزدوج. وقد أكدت شهادة الجنرال ويسلي كلارك, الذي كان يشغل منصب القائد الأعلى لقوات حلف شمال الأطلسي صحة هذا القرار, لأنه كان من أبرز المعارضين له.
وعقب سقوط بغداد عام 2003, صادق الكونغرس على قرارين يخولان رئيس الولايات المتحدة بشن حربين: واحدة ضد ليبيا, وأخرى ضد سورية ( قانون محاسبة سورية). في عام 2004, اتهمت واشنطن سورية بأنها تخبيء أسلحة الدمار الشامل التي لم تعثر على أي أثر لها في العراق. وقد تم التراجع فيما بعد عن هذا الاتهام, إثر الاعتراف بعدم وجود هذه الأسلحة أصلا, وبأنه قد تم استخدامها كذريعة لغزو العراق.
في عام 2005, وإثر عملية اغتيال رفيق الحريري, سعت واشنطن لاستثمار الحدث بافتعال حرب مع سورية, لكنها فشلت بسبب قرار سورية بسحب قواتها العسكرية من لبنان. الأمر الذي حدا بالولايات المتحدة لتلفيق شهادات, تحمل الرئيس الأسد مسؤولية حادث التفجير, بعد انشاء محكمة دولية خاصة من أجل محاكمته. لكنهم اضطروا في نهاية المطاف إلى سحب اتهاماتهم, بعد أن انفضح أمر تسييس المحكمة والسيطرة عليها من قبل الولايات المتحدة.
في عام 2006, أنشأت الولايات المتحدة "برنامج سورية الديمقراطي Syria Democracy Program" وباشرت بالتحضير "للثورة السورية". وقد تجلى ذلك في تأسيس وتمويل مجموعات معارضة, موالية للغرب ك ( حركة العدالة والتنمية). وإلى جانب التمويل الرسمي لهذه المجموعات مباشرة من وزارة الخارجية الأمريكية, كان هناك أيضا تمويل سري مقدم من قبل وكالة الاستخبارات المركزية, عن طريق جمعية في كاليفورنيا تدعى المجلس الديمقراطي The Democracy Council.
وفي عام 2006 أيضا, شنت الولايات المتحدة حربا على لبنان عبر وكيلها الاسرائيلي, أملا منها بجر سورية إلى الحرب, ومن ثم التدخل مباشرة فيها. لكن الانتصار الحاسم الذي حققه حزب الله, أحبط ذلك المخطط.
عام 2007, قامت اسرائيل بمهاجمة سورية, وقصفت منشأة عسكرية (عملية أورشارد). غير أن دمشق حافظت على برودة أعصابها, ولم تستدرج إلى الحرب. وقد أثبت التفتيش الذي أجرته الوكالة الدولية للطاقة الذرية فيما بعد, عدم صحة المزاعم الاسرائيلية التي بررت عمليتها بأنها استهدفت موقعا نوويا.
في عام 2008, أثناء اللقاء السنوي الذي ينظمه حلف الناتو, تحت مظلة "مجموعة بلدربيرغ", قدمت بسمة قضماني رئيسة "المبادرة العربية للاصلاح", بالتعاون مع فولكر بيرث, مدير مؤسسة العلوم والسياسة في برلين Stitung wissenschaft und politik عرضا موجزا أمام "الغوتا" الأمريكية-الأوروبية عن الفوائد الاقتصادية, والسياسية, والعسكرية, التي يمكن ان تنجم عن تدخل عسكري محتمل في سورية.
عام 2009, أنشأت الولايات المتحدة أدوات دعايتها الاعلامية الموجهة ضد سورية, بإطلاق قناة بردى من لندن, وأورينت من دبي.
من المناسب أن نضيف لكل هذه العوامل التاريخية, الاجتماع الذي انعقد في القاهرة خلال الأسبوع الثاني من شهر شباط-فبراير 2011 حول جون ماكين, وجو ليبرمان, وبرنار هنري ليفي, بحضور شخصيات ليبية كمحمود جبريل ( والذي كان الشخص الثاني في ظل الجماهيرية), إضافة إلى شخصيات سورية كمالك العبده, وعمار قربي. وقد تم في هذا الاجتماع بالذات, إطلاق إشارة البدء بتنفيذ عمليات سرية, تبدأ في 15 شباط-فبراير في ليبيا من مدينة بنغازي, وفي 17 منه في سورية.
في شهر كانون ثاني-يناير 2012, أسست وزارة الخارجية, بالتعاون مع وزارة الدفاع الأمريكية مجموعة عمل "اليوم التالي the day after. Supporting a democratic transition in Syria", التي قامت بصياغة دستور جديد لسورية, وبرنامج الحكومة القادمة [4].
في شهر أيار-مايو 2012, أسس حلف الناتو ومجلس التعاون الخليجي, مجموعة عمل خاصة بالاقتصاد والتنمية, المنبثقة عن مجموعة أصدقاء الشعب السوري, تضطلع برئاستها كل من ألمانيا ودولة الامارات. وقد كلف الخبير السوري أسامة القاضي بإعداد ملف تقاسم الثروات السورية بين الدول الأعضاء في التحالف, والذي من المقرر له أن يوضع في التنفيذ في "اليوم التالي", أي في اليوم التالي للإطاحة بالنظام على يد قوات حلف شمال الأطلسي ومجلس التعاون الخليجي [5].
ثوار, أم مناهضي ثورة؟ ?
لم تخرج المجموعات المسلحة في سورية من صفوف المظاهرات السلمية, التي انطلقت في شهر شباط 2011, مطالبة بمكافحة الفساد وبالمزيد من الحريات, بل انبثقت من صفوف الاسلام السياسي كما رأينا سابقا.
لقد تعرضت المناطق الريفية في سورية لأزمات اقتصادية قاسية خلال السنوات الماضية, كان السبب الرئيسي فيها سوء المواسم الزراعية, التي أسيء تقدير تبعاتها, عندما تم اعتبارها كارثة عابرة, في حين أنها كانت نتيجة تغيرات مناخية طويلة الأمد, تواكبت مع أخطاء فادحة في عمليات اصلاح الاقتصاد, التي خلقت فوضى في القطاعات الانتاجية الأولية. وقد نتج عن كل ذلك نزوح هائل من الريف, لم تحسن الحكومة مواجهته, تمثل في تدهور أوضاع شريحة واسعة من الريفيين الذين أهملتهم السلطة. لم يكن السكن الريفي في العديد من المناطق, متمركزا في وحدات قروية, بقدر ما كان موزعا على شكل تجمعات مزارع صغيرة معزولة. لهذا لم يقدر أحد فداحة هذه الظاهرة, إلا حين تجمع أولئك المشردون في أماكن محددة.
وبالمطلق, حين كان المجتمع السوري يجسد مثلا أعلى في التسامح الديني, كان ثمة تيار تكفيري ينمو في جسده رغما عنه. هذا التيار هو الذي سمح بنشوء قاعدة الجماعات المسلحة, التي أغدقت عليها مشيخات الخليج الوهابية الأموال (السعودية وقطر و الشارقة). [6].
لقد أثار هذا الزخم الرغبة لدى أطراف أخرى بالانضمام للمقاتلين. من بين هؤلاء نجد أقرباء ضحايا القمع الجماعي, الذي نجم عن محاولة الانقلاب الفاشلة التي قادها الأخوان المسلمون عام 1982, مدفوعين بأسباب شخصية, تتعلق بالرغبة بانتقام, أكثر منها أيديولوجية.
هناك أيضا العديد من قطاع الطرق, والفارين من العدالة, المدفوعين بجني المال السهل, الذين انضموا إلى الانتفاضة المسلحة: يتلقى الثائر أجرا يعادل 7 أضعاف متوسط الأجر. وفي صفوف المسلحين, هناك أيضا محترفون, ممن قاتلوا في أفغانستان, والبوسنة, والشيشان والعراق, الذين توافدوا إلى ميدان المعارك في سورية. من بين طلائع هؤلاء, نجد رجالا من تنظيم القاعدة في ليبيا, يقودهم عبد الحكيم بلحاج شخصيا [7]. وسائل الاعلام تقدمهم على أنهم مجاهدين, وهذا غير صحيح, لأن الاسلام لم يقر أبدا الجهاد ضد أبناء جلدته. إنهم قبل كل شيء مجرد مرتزقة. تصر الصحافة الغربية, وكذلك إعلام الخليج, على وجود منشقين في عداد الجيش السوري الحر. هذا صحيح إلى حد ما. لكن ما هو غير صحيح البتة, هو الادعاء بأن انشقاق هؤلاء الجنود, كان يحصل دوما إثر رفضهم اطلاق النار على المتظاهرين.
هؤلاء المنشقون يصنفون تقريبا جميعا ضمن الحالات التي ذكرناها أعلاه. ومن الطبيعي لجيش سوري قوامه 300 ألف مقاتل, أن يحوي في صفوفه بعض المتشددين دينيا, وقطاع الطرق أيضا.
تستخدم كل المجموعات المسلحة راية تحتوي على شريط أخضر, بدلا من الأحمر, وثلاث نجوم بدلا من اثنتان, تصفها الصحافة الغربية بعلم الاستقلال, لأنه العلم الذي تم رفعه إبان الاستقلال عام 1946.
أما الواقع فينبئنا بعكس ذلك. لأن هذا العلم, هو الذي كان يرفع أثناء الانتداب الفرنسي, والذي استمر منذ عام 1932 حتى عام 1958. أما النجوم الثلاث فهي ترمز في الواقع إلى التقسيم الطائفي الذي يرمز إلى (العلويين, والدروز, والمسيحيين ) برعية المستعمر. إن استخدام هذا العلم لايعني بالتأكيد رفع شعار ثوري. بل على العكس من ذلك, فهو يؤكد امتداد المشروع الكولونيالي, المتمثل بسايكس-بيكو عام 1916, وإعادة تشكيل "الشرق الأوسط الموسع".
على مدى الثمانية عشر شهرا من العمليات المسلحة, تمكنت هذه المجموعات من رص صفوفها والتنسيق فيما بينها. وقد أصبح الجزء الأكبر منها حاليا, خاضعا للقيادة التركية مباشرة, تحت مسمى "الجيش السوري الحر".
وفي الواقع فقد أصبح هذا "الجيش السوري الحر" بمثابة قوة رديفة لحلف الناتو, بعد أن منح مقرا لقيادته العامة, في قلب قاعدة أنجرليك, التابعة لحلف شمال الأطلسي.
أما الاسلاميون الأكثر تشددا, فقد شكلوا منظماتهم المسلحة الخاصة بهم, أو التحقوا بتنظيم القاعدة. وهم جميعا إما تحت سيطرة قطر, أو تحت سيطرة فرع السديري, التابع للعائلة الملكية السعودية [8].
وبالمجمل, جميعهم مرتبطون بوكالة الاستخبارات المركزية.
هذه التركيبة المتصاعدة, التي انطلقت في بدايتها من ريفيين فقراء, لتنتهي بتدفق المرتزقة, تتماهى مع ماعرفناه سابقا في نيكاراغوا, حين أنشأت وكالة الاستخبارات المركزية عصابات الثورة المضادة "الكونتراس" للاطاحة بالساندينيين, وما عرفناه أيضا في كوبا, حين نظمت السي.آي.ايه, انزالا عسكريا في خليج الخنازير, للإطاحة بنظام كاسترو.
هذا هو بالضبط, النموذج الذي تقتدي به المجموعات المسلحة في سورية الآن:
في شهر أيار-مايو 2012, نظمت عصابات الكونتراس الكوبية في ميامي, دورات تدريب على "حرب العصابات" المناهضة للثورة, لنظرائهم السوريين [9].
الأساليب التي تتبعها وكالة الاستخبارات المركزية, لاتتغير,هي نفسها في كل مكان. لذا فقد كثفت "الكونتراس السورية" عملياتها العسكرية, أملا بتأسيس قواعد ثابتة, (لكن أيا منها لم يدم, بما فيها الإمارة الاسلامية في بابا عمر), أعقبتها عمليات تدمير للاقتصاد ( ضرب البنى التحتية, اشعال الحرائق في المصانع الكبرى ), وصولا إلى الارهاب المباشر ( اخراج قطارات الركاب عن مساراتها, تنفيذ تفجيرات بسيارات مفخخة في مواقع مزدحمة بالناس, اغتيال قادة من رجال الدين, والسياسيين, والعسكريين). في المحصلة, أخذت شريحة من الشعب السوري, التي تعاطفت في بداية الأحداث مع هذه المجموعات المسلحة, لأنها رأت فيها بديلا محتملا للنظام الحالي, بالتراجع تدريجيا في التضامن معهم.
لذا, لم يكن مستغربا أن تتركز معركة دمشق عبر حشد سبعة آلاف مقاتل من كافة أنحاء البلاد وزجهم في العاصمة, بانتظار أن تنضم إليهم فلول المسلحين المرتزقة, الذين تم استقدامهم من عدة بلدان, وتجميعهم في البلدان المجاورة لسورية.
وعندما صدر أمر الهجوم, تحركت مجموعات تقدر بعشرات الآلاف من المرتزقة, باتجاه الحدود السورية, محمولين على متن بيك آبات, مفضلين الانتشار في البادية السورية, بأرتال متناثرة, بدلا من الطرق المعبدة. لكن الطيران السوري كان لهم بالمرصاد, وقد تم وقف زحفهم بقوة, فرضت على الناجين منهم العودة من حيث قدموا.
فقط, بعض هذه المجموعات, ممن تمكنوا من السيطرة على بعض نقاط الحدود, استطاع أفرادها الوصول إلى العاصمة. لكنهم فوجئوا بغياب الدعم الشعبي المنتظر لهم. بل على العكس من ذلك, فقد هرع سكان دمشق, لمساندة الجيش النظامي في تعقب هؤلاء الوافدين واستئصالهم.
وفي النهاية, وجدوا أنفسهم مجبرين على الانسحاب من المعركة, وإعلان استئنافها في حلب, بدلا من دمشق.
هنا, انكشفت الأمور على أرض الواقع, وتبين أن الانتفاضة لا تشمل الدمشقيين, ولا الحلبيين, إنما هي مجموعة مقاتلين جوالين.
هنا أيضا, تجدر المقارنة بين لا شعبية المجموعات المسلحة, والشعبية التي يحظى بها الجيش السوري النظامي, إضافة إلى فصائل الدفاع الشعبي.
من المعروف أن الجيش السوري قوامه الخدمة الالزامية, أي أنه جيش مؤلف من الشعب نفسه. وهذا يقودنا إلى الاعتقاد بأنه من المتعذر على هذا الجيش, أن يمارس القمع السياسي لشعبه. لهذا سمحت الحكومة مؤخرا بتشكيل لجان شعبية من سكان الأحياء, ووزعت السلاح على المواطنين الذين تطوعوا بساعتين من يومهم, للدفاع عن أحيائهم في اطار عسكري.
أكياس هواء لمشكاة
اعترضت الرئيس ريغان في زمنه, مصاعب جمة في تقديم "الكونتراس" كثوار من أجل الحرية. لذا فقد أسس بنية بروباغندا لهذا الغرض, أطلق عليها اسم "المكتب الدبلوماسي العمومي, وأوكلت شؤون إدارته ل- أوتو ريخ [10].بدأ أوتو ريخ أنشطته بشراء ذمم الصحفيين في معظم كبريات الصحف في الولايات المتحدة, كما في أوروبا الغربية, من أجل انجاح حملة تضليل الرأي العام. وبدأ ببث الشائعات تلو الأخرى, لكن أهمها كانت شائعة وجود أسلحة كيماوية لدى الساندينيين, والتي يخشى أن يستخدموها ضد شعبهم.
وفي أيامنا هذه, نرى أن البروباغندا نفسها, تدار في البيت الأبيض من قبل مساعد مستشار الأمن القومي, بن رودس.
لم يأت بن رودس بجديد. لقد اكتفى بتطبيق الأساليب القديمة, فأخرج شائعة الأسلحة الكيماوية ضد الرئيس الأسد.
لقد نجح بن رودس, من خلال تعاون جهاز الاستخبارات البريطانية (ام16) معه, بأن يفرض على كل وكالات الأنباء الغربية, بنية وهمية, كمصدر مرجعي وحيد, للأخبار المتعلقة بسورية. إنه "المرصد السوري لحقوق الانسان".
وهكذا لم يعد بوسع وسائل الاعلام الغربية أن تتحقق من مدى مصداقية هذا المرجع, على الرغم من صدور العديد من البيانات التي كانت تكذب الأخبار التي يبثها, سواء من قبل مراقبي الجامعة العربية, أو مراقبي الأمم المتحدة.
والأنكى من كل ذلك, أن هذه البنية الوهمية التي ليس لها مكاتب, ولا موظفين, ولا خبرة في العمل الحقوقي, أصبحت أيضا, مصدر معلومات وحيد لجميع السفارات الأوروبية, بعد أن تمكن البيت الأبيض من اقناع الدول الأوروبية, بضرورة سحب بعثاتها الدبلوماسية من سورية.
كما قام بن رودس بتنظيم عروض ترفيهية للصحفيين المتعاطفين. وقد أقام لهذا الغرض برجي تنظيم رحلات سياحة, يتبع الأول لمكتب رئيس الوزراء التركي أردوغان, والثاني لرئيس الوزراء اللبناني الأسبق, فؤاد السنيورة. وقد وجهت الدعوات للصحفيين الراغبين بدخول سورية, أن يدخلوها بشكل غير نظامي بمساعدة المهربين.
كانوا يقدمون طيلة الشهور الماضية, رحلات انطلاقا من الحدود التركية, في قرية مراقبة, تقع في الجبل المطل على سورية, تتيح بموقعها التقاط صور "للثوار" عن بعد, و "مشاركة المقاتلين حياتهم اليومية". أما بالنسبة للصحفيين الأكثر نشاطا, فقد منحوا فرصة زيارة الإمارة الاسلامية في بابا عمر, انطلاقا من الحدود اللبنانية.
المدهش في الأمر, أن العديد من هؤلاء الصحفيين الغربيين, قد شاهدوا بأم أعينهم عمليات تزوير هائلة, لكنهم لم يستخلصوا أي نتائج.
وهكذا رأينا كيف قام صحفي فرنسي شهير بتصوير فيلم يظهر "الثوار" وهم يشعلون الاطارات, كي تصدر دخانا كثيفا يوحي مع المؤثرات الصوتية المزيفة, بأن بابا عمر يتعرض من جديد للقصف. لقد قام بتصوير كل ذلك, وبثه على القناة الرابعة في لندن [11], ومع ذلك ظل يؤكد بأنه شاهد عيان على قصف بابا عمر, مكررا الرواية التي روجها المرصد السوري لحقوق الانسان.
أما صحيفة نيويورك تايمز, التي أشارت إلى أن الصور والفيديوهات التي أرسلت إليها من قبل المكتب الصحفي للجيش السوري الحر, التي تظهر بسالة مقاتليه, كانت مجرد مسرحيات مفبركة [12]. بعد أن كشفت الصور أن الأسلحة التي الحربية, التي كان يحملها المقاتلون البواسل في الفيدو, هي مجرد نسخ بلاستيكية لأسلحة ألعاب الأطفال. ومع ذلك, استمرت الصحيفة بتصديق كذبة أن الجيش المنشق قوامه 100 ألف مقاتل.
وفقا للتحليل الكلاسيكي, يفضل كل الصحفيين, أن يستمروا بالكذب, على أن يعترفوا بأنه قد تم التلاعب بهم. لذا, فبمجرد أن تنجح عملية خداعهم, يصبحون مشاركين في تأكيد الكذب الذي اكتشفوه.
تبقى المسألة الأهم هنا, هي أنتم قراء هذا المقال.
هل تفضلون الاستمرار في غض بصركم عن الحقيقة, أم اتخاذ قرار بمساندة الشعب السوري, ضد اعتداء هؤلاء الذين يعتدون عليه؟
تييري ميسان
ترجمة سعيد هلال الشريفي
مصادر El-Akhbar (Algérie)
المصدر: شبكة فولتير
التعليقات
الحقيقة الغائبة والشعوب النائمة
إضافة تعليق جديد