هل تنتقل الحرب الأهلية العراقية إلى دول الجوار؟
الجمل: تؤكد كل نظريات علم الاجتماع المعاصر على ترابط المجتمعات الإنسانية، وما يترتب عليه من ترابط الظواهر الاجتماعية، ومن ثم ما من ظاهرة اجتماعية تحدث إلا ويتردد صداها في الظواهر الاجتماعية الأخرى.
ظاهرة الصراع الداخلي الدامي الدائر حالياً في العراق، أصبحت تهدد بانتقال عدوانها إلى مناطق الجوار الإقليمي، ولما كانت منطقة الشرق الأوسط تمثل نطاقاً إقليمياً فرعياً ظل لفترة طويلة واقعاً تحت دائرة الاستهداف الأمريكي- الإسرائيلي، فقد تزايدت الشكوك حول احتمالات أن تسعى أمريكا من أجل تطبيق مخطط يهدف إلى نقل عدوى جرثومة العنف الأهلي الداخلي من العراق إلى كل المنطقة، وعلى وجه الخصوص سوريا وإيران.
يقول إلين كنيكماير في مقاله الصادر اليوم 16 تشرين الثاني على الواشنطن بوست: (في الوقت الذي يقول ويدعي فيه القادة الأمريكيون بأن الحرب الأهلية قد أصبحت ممكنة في العراق، فإن زعماء عديدون، وخبراء، والسكان في مدينة بغداد وبقية أنحاء الشرق الأوسط أصبحوا يقولون بأنها –أي الحرب الأهلية- قد انطلقت وأخذت طريقها..).
ويحاول الكثير من مناصري الاحتلال الأمريكي للعراق، إنكار حقيقة وجود الحرب الأهلية، وحالياً بدأت بعض عناصر مراكز الدراسات التابعة لجماعة المحافظين الجدد تروج إلى وصف ما يحدث في العراق باعتباره يمثل (ظاهرة الدولة الفاشلة)، وليس حرباً أهلية، وتبرر هذا الزعم على أساس تحويل الأنظار من ظاهرة القتل والعنف الدامي في الشارع العراقي إلى ظاهرة الحكومة العراقية الضعيفة، وبالتالي تصبح المشكلة هي ظاهرة الحكومة العراقية الضعيفة حصراً.
إن القيام بعملية تصدير الأزمات ونقلها عبر الحدود ليس أمراً مستغرباً، فقد برعت الحكومة الأمريكية طوال الستين عاماً الماضية في القيام بعملية نقل أزمات أمريكا الداخلية إلى بقية أنحاء العالم، بحيث تواجه أمريكا الأزمة، وتجعل الآخرين يدفعون تكاليف خسائر الأزمة.
أصبحت ماكينة الصراع الداخلي العراقي تعمل وفقاً لخطوط وتقسيمات محددة:
- في الجنوب فصيلان شيعيان: جيش المهدي وفيالق بدر.
- في الشمال عدة فصائل كردية أبرزها: قوات الاتحاد الوطني الكردستاني، وقوات الحزب الديمقراطي الكردستاني، إضافة إلى الفصائل والميليشات الكردية الأخرى منها الخاصة بأكراد تركيا، وأكراد إيران.
- في الوسط توجد العديد من الميليشيات والفصائل السنية، والتي تتميز بالكثرة المتعددة، والارتباط بالعشائر، لذلك تتوزع هذه الجماعات المسلحة جغرافياً في وسط العراق تبعاً للتوزيع العشائري.
أولاً: ديناميكيات الصراع الداخلي العراقي:
• السلطة: تحاول الأطراف العراقية السيطرة على مقاليد السلطة في العراق وتنقسم في هذا الصراع إلى ثلاثة محاور:
- محور رافض للوجود الأمريكي: ويتمثل في الميليشيا الإسلامية السنية الناشطة في وسط العراق بشكل رئيسي، إضافة إلى مؤيدي النظام السابق.
- محور مؤيد للوجود الأمريكي: ويتمثل في الميليشيات الكردية الموجودة في شمال العراق، إضافة إلى الجماعات العراقية الداعمة للحكومة العراقية الحالية.
- محور يقف في الوسط: ويتمثل في بعض الميليشيات والجماعات التي تجمع على نحو مرن بين التعامل مع الوجود الأمريكي كأمر واقع.. وفي الوقت نفسه تعارض هذا الوجود، وترى بأن تبنّي هذه الاستراتيجية يتيح لها كسب الوقت من أجل تجميع قواها والاستفادة من هامش المناورة المتاح أمامها من أجل الحصول على المزيد من المزايا النسبية، ومن أمثلة هذه الجماعات: الفصائل الخاصة بالأقليات العراقية الصغيرة.
• الثروة: تحاول الأطراف العراقية الحصول على أكبر قدر ممكن من مخصصات الثروة، ومن أمثلة ذلك، المزايا التي يحاول الأكراد الحصول عليها عن طريق رفع نصيبهم من عائدات الثروة النفطية، كذلك تحاول فصائل جنوب العراق القيام بإجراء مماثل.
ثانياً: بؤر الصراع العراقي الداخلي:
أدت عملية الاستقطاب الناتجة عن الصراعات العراقية البينية إلى نشوء استقطابات نظامية هيكلية في خارطة العراق، وحالياً تزايدت بؤر التوتر الموجودة والتي يتمثل أبرزها في المناطق الآتية:
• بغداد: ظلت مدينة بغداد باعتبارها عاصمة للعراق، تجمع مختلف الفئات والجماعات السكانية العراقية، وذلك على النحو الذي أصبحت فيه أحياء المدينة تضم خليطاً غير متجانس من السكان، وحالياً بسبب التوترات الطائفية والبينية بين شيعة الجنوب وشيعة الوسط، وأكراد الشمال، انتقلت عدوى هذه التوترات إلى أحياء العاصمة بغداد، وأصبحت كل مجموعة تحاول طرد السكان الآخرين من الأحياء الخاصة بها، وذلك على النحو الذي أدى إلى العديد من عمليات التطهير العرقي داخل هذه الأحياء.
• مدينة كركوك: وبسبب التنوع السكاني الموجود في هذه المدينة، على خلاف بقية مدن شمال العراق الأخرى التي تقطنها أغلبية كردية مثل الدهوك، فقد نشطت الميليشيات الكردية في القيام بعملية تطهير عرقي شاملة في مدينة كركوك، وأيضاً في مدينة الموصل وذلك حتى تكون كل مدن شمال العراق مناطق كردية خالصة.
• مناطق التماس بين الوسط والشمال: وتتميز هذه المناطق بالتداخل بين السكان العرب السنة والأكراد، ويحاول الأكراد حالياً ضم هذه المناطق الى خارطة إقليم كردستان، ولكي يتسنى لهم ذلك تحاول الفصائل الكردية حالياً القيام بعملية طرد العرب السنة من هذه المناطق ودفعهم جنوباً باتجاه العاصمة بغداد.
• مناطق التماس بين الوسط والجنوب: وتتميز هذه المناطق بالتداخل الطائفي بين العرب السنة والعرب الشيعة، وعلى خلفية إرث التوترات الدامية التي خلفتها الصراعات بين نظام صدام وشيعة الجنوب، فقد أصبحت هذه المناطق تعاني من الاحتقان والتوتر بسبب الخلافات السياسية والثارات بين قبائل وعشائر المنطقة.. كذلك أصبحت النخب السياسية السنية والشيعية تحاول العمل على ضم هذه المناطق إلى مجالها الإقليمي.
نقل الصراع إلى دول الجوار:
تشير معطيات الخبرة التاريخية إلى قيام الإدارة الأمريكية بتطبيق استراتيجية نقل عدوى الصراعات في العديد من مناطق العالم، فقد نجحت عملية نقل الصراع الفيتنامي إلى لاوس وكمبوديا ضمن ما عرف بعملية (الحرب السرية) في جنوب شرق آسيا والتي أشرف على إدارتها مدير المخابرات الأمريكية السابق كولبي.. ومن أبرز الوسائط والآليات التي يمكن أن تستخدمها الإدارة الأمريكية في نقل عدوى الصراع الداخلي العراقي إلى دول الجوار نجد الآتي:
• استخدام الفصائل المسلحة الشيعية في نقل الصراع إلى داخل إيران، وذلك عن طريق التغلغل إلى عمق إيران الجنوبي المعروف بإقليم عربستان.. وبسبب معارضة سكان عربستان للحكومة الإيرانية الحالية، نجد أن الإدارة الأمريكية تحاول إنشاء حركات وفصائل مقاومة مسلحة داخل هذا الإقليم لإثارة التمرد ضد حكومة طهران.. وبسبب التقارب والتداخل بين سكان عربستان وسكان جنوب العراق، من الممكن أن يتم لاحقاً الربط بين حركات المقاومة في كلا المنطقتين، ومن ثم تندلع المواجهات بحيث تتورط أمريكا في منطقة عربستان، وتتورط إيران في جنوب العراق.
• استخدام الفصائل المسلحة الشيعية في نقل الصراع إلى منطقة الخليج العربي، وبسبب وجود أغلبية شيعية في شرق السعودية، وفي معظم دول الخليج العربي، وأيضاً بسبب أن هذه الأغلبيات الشيعية تعارض الحكومات السنية التي تسيطر على هذه المنطقة فمن المتوقع أن تعمل أمريكا على دعم هذه الجماعات الشيعية بما يدفعها للقيام بعمليات مسلحة في مناطق الخليج –على غرار تفجير الخبر الذي نفذه حزب الله السعودي- وبرغم العداء والخلاف بين أمريكا والشيعة، إلا أن قيام أمريكا باستخدام أساليب الحرب السرية سوف يجعلها لا تواجه صعوبة في العثور على (وكيل) تستخدمه كواجهة لتقديم الدعم لهذه الحركات.
• استخدام الفصائل المسلحة السنية والشيعية والكردية العراقية في نقل الصراع إلى منطقة الشام.. وبسبب وجود الكثير من الامتدادات الاثنية والطائفية الخاصة بالمجتمع العراقي في منطقة بلاد الشام، فمن الممكن أن تحاول أمريكا نقل تداعيات الصراع الداخلي العراقي إلى هذه المنطقة، وهو أمر يمكن أن يتم وفق العديد من الآليات، ومنه على سبيل المثال الآليات الاقتصادية والتي تنتج عادة عن طريق رفع معدلات حركة التهريب، وتجارة الحدود غير المشروعة، ونقل المواد المحظورة.. كذلك هناك الآليات السياسية والتي تتمثل في نقل الخلافات المذهبية والطائفية والدينية إلى مجتمعات المنطقة.. أما الآليات العسكرية، فمن الممكن أن تتم بنقل عمليات الثأر والتصفية بين الفصائل العراقية إلى دول المنطقة، بحيث تعمل الفصائل على متابعة خصومها المتواجدين خارج العراق، وتنفيذ عمليات التصفية بحقهم في دول المنطقة، على النحو الذي يهدد الأمن والاستقرار.
وأخيراً نقول: إن تصاعد دوامة العنف العراقي الداخلي سوف تحول العراق إلى بؤرة صراع إقليمي شامل، يلقي بتداعياته على منطقة شرق المتوسط، وبقية أجزاء الشرق الأدنى، فالصراع في شمال العراق سوف يورط تركيا، ويؤثر سلباً على شرق سوريا، والصراع في غرب العراق سوف يؤثر سلباً على سوريا والأردن، والصراع في جنوب العراق سوف يؤثر سلباً على إيران والخليج العربي، أما الصراع في وسط العراق فسوف يشكل نقطة الـ(قلب) والـ(نواة) لماكينة الصراع العراقي الداخلي، إضافة إلى أن تداعياته المباشرة سوف تعبر الحدود على وجه السرعة إلى داخل السعودية، على النحو الذي لا يهدد السعودية وحسب، بل والمصالح الأمريكية في السعودية، وهذا ما تعمل أمريكا على تفاديه حالياً، بالضغط على الحكومة السعودية.. تدفع على وجه السرعة مبلغ نصف مليار دولار بحيث يتم استخدامها فوراً في عملية بناء الجدار العازل بين العراق والسعودية، وذلك حتى تضمن أمريكا، عدم انتقال عدوى الصراع العراقي إلى داخل السعودية.
الجمل: قسم الدراسات والترجمة
إضافة تعليق جديد