سيمفونيتان عربيتان لرمسكي كورساكوف
ربما تكون السيمفونيتان «العربيتان» الوحيدتان الجديرتان بأن تحمل كل منهما اسم سيمفونية، تينك اللتين ألّفهما موسيقي روسي لا علاقة له بالعرب من قريب أو من بعيد. بل يمكن ان يكون هذا الموسيقي، حين كتب عمليه الكبيرين هذين، لا يعرف اصلاً انه إنما يؤلف اعمالاً تمت الى التاريخ العربي، والإسلامي، بأي صلة من الصلات. وسواء كان يعرف هذا أو لا يعرفه، فإننا نعرف ان المستمع العربي اكتشف، وعلى الأقل منذ خمسينات القرن العشرين سيمفونية روسية تحمل اسم «شهرزاد» سيقال له لاحقاً انها ليست سيمفونية بل «قصيدة» سيمفونية، واكتشف ان مؤلفها روسي يدعى رمسكي – كورساكوف. ثم لاحقاً عرف هذا المستمع ان نفس هذا المؤلف ابدع عملاً كبيراً آخر من العيار والاسلوب نفسه أطلق عليه اسم «عنتر» تيمناً بالبطل العربي – الشاعر الكبير. ثم، لاحقاً، تتابعت الأنباء، إذ عُرف ان موسيقى «عنتر» هذه إنما كانت ألهمت مؤلفاً فرنسياً، لبناني الأصل، عاش في باريس اواخر القرن التاسع عشر، وهو شكري غانم، مسرحية بلغة موليير عن «عنتر» استخدمت فيها موسيقى رمسكي – كورساكوف. وبصرف النظر عن هذه المعلومة الأخيرة، التي اتينا بها في سياق الحديث، لا أكثر، يبقى ان العملين الكبيرين «شهرزاد» و «عنتر» بديا من اهم الأعمال الموسيقية الاستشراقية وأجملها، وانتشرا انتشاراً كبيراً ليتبين لاحقاً ان مؤلفهما لم يزر الشرق أصلاً، ولم يتأثر بأية موسيقى شرقية عرفها. كل ما في الأمر انه سار، في تأليفه على نهج استخلصه من اطلاعه على شتى الفنون الشرقية، كما انه عرف عن قرب شغف معاصره ومواطنه بيوتر تشايكوفسكي تجاه ما تصور هذا الأخير انه موسيقى عربية – كانت تركية في الواقع – فضمه داخل إطار بعض أعماله ومنها «بحيرة البجع» التي تحتوي بين ما تحتوي على مقطوعة عربية اللون والمذاق شديدة الجمال. وكل هذا إنما دنونا منه هنا لنتحدث عن عمل آخر لرمسكي – كورساكوف، من الواضح انه يمت بصلة ما، الى عمليه «العربيين»، ونعني به قطعته الرائعة «نزوة اسبانية» أو «كابريتشيو اسبانيول». فهذه القطعة بدورها تحتوي على ملامح شرقية لا شك فيها. ويبدو شبه مؤكد ان «شرقية» «شهرزاد» و «عنتر» إنما نبعت منها، لأن «النزوة الإسبانية» تحتل موقعاً زمنياً مبكراً في مسار هذا الفنان الذي كان تشايكوفسكي يصفه بـ «العصامي»، أي بأنه علّم نفسه بنفسه. وهو وصف غير دقيق تماماً على اية حال.
> كتب رمسكي – كورساكوف موسيقى «النزوة الإسبانية» عام 1887، ما يجعلها ثاني عمل كبير له من ناحية الترتيب التاريخي بعد «زهرة الثلج» (1882). وهنا قد يكون ذا دلالة ان نشير الى ان هذا الفنان، كان في حوالى الزمن الذي لحن فيه «النزوة»، شديد الولع بموسيقى مواطنه غلينكا، ولا سيما بعمله الضخم «رسلان وليوديلا»، وهي اوبرا شرقية خالصة. ومن الواضح هنا ان هذا كله، إنما يفسر الأجواء التي توخى رمسكي – كورساكوف ان يعبر عنها من خلال كتابته العمل الذي نحن في صدده. إذ ان من يستمع الى «النزوة» سيكتشف من فوره طابعها الشرقي وتلوين ألحانها الذي يكاد يكون صلة وصل بين الموسيقى الأندلسية – كما نعرفها اليوم – والموسيقى الشرقية في شكل عام والتركية – العربية في شكل خاص. وتحمل هذه القطعة في ترتيب اعمال المؤلف الرقم 34. وقد كتبها رمسكي – كورساكوف في وقت كان مكلفاً بالاشتغال على تدوين التوزيع الأوركسترالي لعمل الموسيقي بوردوين الأكبر «الأمير ايغور» – التي تعتبر بدورها قطعة شرقية السمات. وقد وصف رمسكي – كورساكوف نفسه، في مذكراته قطعته «نزوة اسبانية» بأنها «عمل متألق رفيع المستوى في مجال التكوين الأوركسترالي. وهي الى جانب «شهرزاد» و «الفصح الروسي الكبير» تحدد نهاية الحقبة التي كنا نطبعها بضرورة العمل على إبداع التألق في مجال توزيع الآلات، خارج تأثيرات فاغنر، وضمن حدود التوزيع على الطريقة الروسية الذي كان غلينكا سيداً حقيقياً من سادته إن لم يكن هو مبتدعه اصلاً».
> والحقيقة ان الحقبة التي يتحدث عنها رمسكي – كورساكوف على هذا النحو في مذكراته، إنما كانت تلك التي ستؤدي الى ظهور تبدل شديد الوضوح في التذوق الموسيقي، كما الى وعي جلي بالقيم الموسيقية التي كانت جماعة الخمسة (أي كوي وبالاكيريف وبوردوين وموسورفسكي ورمسكي – كورساكوف) تسعى للعثور عليها في ثنايا الغناء الشعبي الروسي وتقاليده العريقة، بعد حقبة سابقة تميزت بالتأثر بفاغنر، خصوصاً وبالموسيقى الألمانية الصاخبة والعقلانية – في آن معاً – عموماً.
> واستناداً الى هذا المنهج «الجديد» في استلهام الموسيقى الشعبية، اشتغل رمسكي – كورساكوف في «النزوة الإسبانية» على التقاليد الشعبية الموسيقية في إسبانيا والبرتغال، مستعيناً بإبداعه ايقاعات وألحاناً تمكن من خلالها ان من «يبين حساسية خاصة تجاه طابع ولون يقربانه غريزياً من المناخ الانطباعي الذي كان قيد التشكل في ذلك الحين، بحسب ما يوضح لنا دارسو هذا الفنان وكاتبو سيرته الفنية. وبما ان الانطباعية ذكرت هنا، سيبدو لنا من قبيل تحصيل الحاصل ان يكون الموسيقي الفرنسي كلود ديبوسي أعلن في تلك الآونة، وبكل صراحة ان ثمة ألف رابط ورابط بين ذوقه الموسيقي الخاص وبين نتاجات «الروس الخمسة» ولا سيما منهم موسورفسكي ورمسكي – كورساكوف.
> ستكون «القصيدة السمفونية» التي عُرفت، إذاً، باسم «نزوة اسبانية» من ثلاثة مقاطع هي «البورادا» وتنويعات على «البورادا»، وهو مقطع ذو مناخ تهيمن عليه مجموعة السمات التي شكلت النسيج الهارموني للعمل كلل، ثم «مشهد غناء بوهيمي»، ويقوم على ايقاعات ورقصات غنية في تلاوينها، سيقول كثر من النقاد انها مهدت الطريق للفرنسي موريس رافيل في شكل أو آخر، ولا سيما بالطابع الإيقاعي الصاخب في تدرجه الذي وسم «البوليرو» الشهير، وأخيراً «فاندانغو استوريان» وهو العنوان الذي تحمله في العمل تلك الرقصة الختامية التي اعطت المجال واسعاً لتوزيع اوركسترالي فريد من نوعه. ولا بأس ان نذكر هنا انه كثيراً ما يقدم كل قسم من اقسام «نزوة اسبانية» الثلاثة على حدة، بوصفها قطعة موسيقية تكفي بذاتها.
> واضح من كل ما تقدم ان «نزوة اسبانية» مكتوبة بنفس اندلسي خالص – باستثناء بعض اجزاء القسم الأخير، الذي يبدو شمالياً في علاقته الجغرافية مع شبه الجزيرة الإيبيرية، ولكن من الواضح ايضاً، انه إذا كان هذا النفس الاندلسي يقربها من الموسيقى العربية – ما يعيدنا الى «شهرزاد» و «عنترة»، فإن الفنان لم يستطع بأي حال من الأحوال ان يخرج في جمل موسيقية كثيرة عن روسيته. ومن هنا هذا المزيج الخلاّق في «نزوة اسبانية» بين «الشرق» في بعديه: العربي والأندلسي، وبين التقاليد الروسية ذات الأصول البيزنطية والسلافية المتمكنة.
> وكل هذا كان على اية حال طبيعياً، بالنسبة الى نيقولاي رمسكي – كورساكوف (1844 – 1908) الذي ولد ونشأ في منطقة من روسيا تدعى تيخفين ويقال لها منطقة البحيرات، وهي منطقة شديدة الشبه في تقاليدها وعادات سكانها وفنونها الشعبية بما يمكننا ان نتصوره شرقياً وعربياً بامتياز. ونيقولاي كان الولد الأخير لأبيه المحافظ السابق لمنطقة فولينيا، والذي كان تقاعد حين ولد ابنه الأخير هذا، اذ بلغ الحادية والستين. وفي البداية كان الأب يريد لنيقولاي ان يكون جندياً بحاراً، فتوجه الى سانت بطرسبرغ حيث اكتشف أعمال غلينكا وفن الأوبرا وقرر ان يتجه صوب الموسيقى من دون أية دراسة علمية. كل ما في الأمر انه ارتبط بصداقة مع عدد من الموسيقيين من مجايليه ومن الأكبر منه سناً، ثم راح يحاول ويحاول، حتى تمكن اخيراً من ان يفرض نفسه، ليعد طوال عقود طويلة واحداً من الخمسة الكبار في الموسيقى الشعبية الروسية في ذلك الحين.
إبراهيم العريس
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد