قضايا الحجز الاحتياطي .. ما لها وما عليها
الحجز على الأموال حديث ما زال يتفاعل إثر كل حديث عن الفساد, أكثر من 538 قرار حجز احتياطي أصدرته وزارة المالية خلال هذا العام بحق 10315شخصاً، أما قيمة الأموال المطلوبة بموجب هذه القرارات فتزيد على مليار و809 ملايين ليرة, وربما هذا وحده مؤشر على كم الفساد المستشري في العديد من المؤسسات.
اللافت في الموضوع، أنه عندما يصدر قرار الحجز الاحتياطي على أحدهم تتناول الألسن الشخص الذي يصدر في حقه هذا القرار, وتشير إليه الأصابع أنه مختلس أو أن جريمته مثبتة وتصبح هذه التهمة وصمة عار في تاريخه, ربما أغلبية الناس لا تهتم لفكرة أن قرار الحجز ليس سوى إجراء احترازي لحفظ المال العام ريثما تنتهي التحقيقات وتثبت أو تنفي عنه التهمة.
يؤكد القاضي حسام رحمون رئيس محكمة الإسئناف التجارية أن الحجز إجراء احترازي لحفظ المال العام ريثما تنتهي التحقيقات, لافتاً إلى أنه يحق للأشخاص الاعتباريين, وحتى للأفراد الاعتراض أو رفع الدعوى وحتى الطعن لكن في نهاية التحقيقات، في المقابل يرى د. شفيق عربش أن هذا الرقم مؤشر على كم الفساد المستشري, وفي الوقت ذاته يؤكد أن الأجهزة الرقابية تغطّ في سبات عميق! لافتاً إلى أن المشكلة الأساسية تكمن في معظم إداراتنا التي تعتمد على الولاءات بعيداً عن الكفاءات, داعياً إلى ترك الإدارة لأهلها!
ماذا نعرف عن الحجز الاحتياطي على الأموال المنقولة وغير المنقولة وتبعات هذا القرار على الأشخاص وعلى الوضع الاقتصادي وما الاقتراحات لضبط هذا التردي في الكثير من مؤسساتنا؟
ضريبة المسؤولية
في تجارب أشخاص تعرضوا لقرارات حجز احتياطي وصفوا معاناتهم بـ «الحقبة السوداء» والتي مروا فيها وعائلاتهم لن تمحى من الذاكرة.
يقول أحد العاملين سابقاً في مؤسسة الطيران المدني مفضلاً عدم ذكر اسمه: لقد شغلت عدة مهام منها مدير عقود، وبسبب وجود مخالفات أثناء توريد تجهيزات لمطار دمشق الدولي تمت إحالة الموضوع للأجهزة التفتيشية ليدخل بعدها متاهة القضاء يقول: كانت الفاتورة كبيرة صحياً واجتماعياً لما يتعرض له الشخص المحجوز على أمواله من إساءة (لسمعته), وتعرضه أيضاً لضغوطات نفسية وما ينجم عنها, ناهيك بابتزاز المحامين له والسنوات التي يمضيها لاهثاً لإثبات براءته, والتي تأخذ وقتاً طويلاً، إلى أن أصدرت المحكمة قراراً بعدم مسؤوليته.
بعد تجربة هذا الشخص سنوات يشكك بأداء الأجهزة الرقابية داعياً إلى تعديل للقانون بما يكفل للمحجوز على أمواله حقوقه وحفظ ماء وجهه، لكن غالباً تُحمَّل المسؤولية للصغار ويخرج منها الكبار متسائلاً: هل هي ضريبة المسؤولية؟!
300 مليون ليرة مقابل 40
للتجار والحجز على أموالهم كقصة القروض المتعثرة منحى آخر، حيث يقول محمد مهروسة من غرفة تجارة حلب: تم الحجز على معمله الذي تصل قيمته إلى نحو 300مليون ليرة, بينما قيمة المبالغ المقترضة بموجب قرض تصل إلى 40 مليون ليرة, لافتاً إلى أن المشكلة في الحجز الاحتياطي هو أن القانون 26 لعام 2015 الخاص بتسوية القروض لم يعدل، متسائلاً: كيف يمكن للتاجر أن يسدد قرضاً وهو معدم ومعامله مدمرة؟
(شمّع الخيط)
الحجز على أموال مئات الأشخاص من وزارة التربية أقام الدنيا ولم يقعدها), من بين هؤلاء الأشخاص مدير مالي مندب لجامعة دمشق..حسب مصدر من جامعة دمشق, أكد أن المدعو (م-ع- ر) تم تعيينه مديراً مالياً وبعد بدء عمله مدة شهر في جامعة دمشق, وقبل أن ينهي إجراءات الاستلام من المدير الذي سبقه, قدم طلباً للحصول على إجازة عادية وكذلك تأشيرة خروج نظامية بحجة أن لديه عملاً طارئاً في دبي, وبعد يومين أتت الرقابة للسؤال عنه لكن كان قد (شمع الخيط وطار)..!
المبالغ ليست القيمة الكلية
يؤكد معاون وزير المالية -بسام عبد النبي أن عدد قرارات الحجز الاحتياطي الصادرة عن وزارة المالية, منذ بداية العام الجاري 2019 بلغ 538 قرار حجز تم بموجبها الحجز على الأموال المنقولة وغير المنقولة لـ 10315 شخصاً في حين بلغت قيمة المبالغ بموجب هذه القرارات ملياراً و809 ملايين ليرة, مضيفاً أن هذه المبالغ ليست القيمة الكلية لمجموع قرارات الحجز الاحتياطي الصادرة عن الوزارة وذلك بسبب وجود قرارات لم تحدد فيها قيمة المبالغ.
هو الأكبر!
فيما يتعلق بالقرار الخاص بملف وزارة التربية والذي (أقام الدنيا ولم يقعدها) والذي صدر بموجبه الحجز الاحتياطي على 224 شخصاً يؤكد عبد النبي: ذكرت أسماؤهم في القرار ولكن من دون أن يتبين فيه قيمة المبالغ التي يجب الحجز عليها، وتالياً، فإن الرقم الذي تم تداوله غير حقيقي، لحين الانتهاء من التحقيقات وعند التأكد من المبالغ التي يجب الحجز عليها يتم الطلب إلى وزارة المالية بتعديل قرار الحجز وإضافة قيمة المبالغ المترتبة، لافتاً إلى أن هذا الأمر طبيعي وهو ما يحصل في قرارات كهذه والتي غالباً ما يتبعها بعض التعديلات إن كان لجهة الأسماء أو عدد الأشخاص المحجوز على أموالهم، أو قيمة المبالغ المحجوزة عليها، مؤكداً أن القرار الخاص بوزارة التربية هو الأكبر من حيث كم الأسماء الموجودة فيه مقارنة بالقرارات التي صدرت خلال العام الحالي.
المالية جهة تنفيذية
معاون وزير المالية يؤكد أن وزارة المالية تنوب عن الهيئة المركزية للرقابة المالية بإلقاء الحجز الاحتياطي بحق الأفراد والمؤسسات وبحق الشباب الذين لم يلتحقوا بخدمة العلم وذلك بموجب نص قانوني يسمح فيه لشعبة التجنيد بأن ترسل لوزارة المالية إلقاء الحجز على أموالهم حتى يلتحقوا بخدمتهم، مشيراً إلى أنها ليست هي الجهة الوحيدة التي تصدر قرارات الحجز الاحتياطي، يضاف إليها جهات أخرى مثل الجهاز المركزي للرقابة والتفتيش والقضاء وبعض الجهات الأخرى وتالياً قرارات الحجز الاحتياطي ليست وزارة المالية المعنية الوحيدة بها وإنما هي أداة تنفيذية، مبيناً أن إصدار أي قرار حجز احتياطي يستلزم من الجهة المختصة أن تقيم دعوى أمام القضاء خلال مدة أقصاها ثمانية أيام من أجل تثبيت الحجز.
يبين عبد النبي أن الحجز الاحتياطي على الأموال المحجوز عليها تبقى في عهدة الشخص الذي حجز علي أمواله, ولكن يمنع التصرف بها ولا يتم رفع الحجز عنها, إلا إذا سدد المبلغ كاملاً أو في حال صدر حكم قضائي برفع الحجز مكتسب الدرجة القطعية، أو صدور حكم بالبراءة أو عدم المسؤولية أو إذا صدر حكم قضائي بمنع المحاكمة, وكان بناء على طلب الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش، مشيراً إلى أن هناك صلاحيات أعطيت لوزير المالية بقصر الحجز عن شخص ما في حال كان لديه عقار أو مبلغ يغطي مبلغ الحجز، إضافة إلى 35 % كهامش احتياطي.
للوقوف على رأي وزارة العدل لمعرفة وجهة نظر القانون في هذا الموضوع التقينا رئيس محكمة الاستئناف التجارية القاضي -حسام رحمون، يعرف القاضي رحمون الحجز الاحتياطي بأنه تدبير تحفظي يلجأ إليه صاحب المصلحة لصون حقه حين يراه مهدداً, وينظم وسائل الإثبات سواء الدعاوى للمحاكمة الجزائية أو التجارية أو المالية أو الجمركية التي لها صلاحية إلقاء الحجز. وأضاف: إن للحجز فلسفة خاصة تقوم على طلب صاحب المصلحة لإلقاء الحجز على ضوء ظاهر المستندات والأدلة التي يقدمها طالب الحجز, وفيما يتعلق بصلاحيات السلطة التنفيذية أوضح القاضي رحمون أنه يحق لوزير المالية أن يصدر قراراً بإلقاء الحجز على أموال أحد الأفراد الطبيعيين أو الاعتباريين فهو بمنزلة قرار قضائي وليس إدارياً، مشيراً إلى أن لوزير المالية صلاحية الحجز بموجب القانون 12 لعام 1952وكذلك القانون رقم 177.
وعن تساؤل أغلبية الناس عن أسباب حجز الأموال على الزوجة, أوضح أنه القانون 177 أعطى الصلاحية لوزير المالية للحجز على أموال الزوجة وذلك بناء على تحقيقات تتعلق بالمال العام, وكيلا يتسنى لأحد تهريب الأموال أو نقلها.
قابل للنقاش
يؤكد القاضي أنه في حال عدّ قرار وزير المالية قراراً قضائياً, يعني أنه قابل للنقاش أو حتى للاعتراض, ونظم قانون أصول المحاكمات للمحجوز على أمواله حق الاعتراض للأفراد الطبيعيين كما نظم مدة الاعتراض وسبل الطعن بالدعوة وذلك بعد الانتهاء في التحقيقات.
مقترضون كبار
يشير إلى بعض القطاعات الاقتصادية التي هي في حاجة لحماية أكثر لأهميتها الخاصة, من الممكن للمشرع أن يسن قوانين وإجراءات تحفظية كقطاع المصارف العامة والخاصة، حيث يوجد آلاف القروض التي استجرت من المصارف العامة والخاصة وبمبالغ تصل إلى مئات الملايين وأحياناً وصلت للمليارات، ولكن حدث أنه لم يلتزم المقترض بدفع مستحقاته حيث تذرع البعض بالأزمة، بدليل أنه يوجد أسماء لمقترضين كبار من أصحاب القروض المتعثرة صدر بحقهم منع سفر والبعض الآخر تمت تسوية وضعه, مشيراً إلى أن البعض منهم امتنع عن السداد ودفع المستحقات الشهرية منذ ما قبل الحرب..
يضيف رحمون: إن المشرع تصدى لمثل هذه الحالات منذ عام 2014 وذلك بإحداث قانونين الأول: إحداث محاكم مصرفية، أما الثاني: فجعل عقود القرض المبرمة مع المصارف بمنزلة تنفيذ من خلال سندات تنفيذية ويمكن تحصيلها، مضيفاً: أن القانون الثاني أضاف صلاحية جديدة للمحكمة لمنع السفر مع المحافظة على حرية التنقل (وهذا قابل للاعتراض).
يجوز الحكم بالقياس
يضيف رئيس محكمة الإسئناف التجارية: عندما يلقى الحجز يتوجب على المحجوز عليه وضع كفالة حجزية وتنظر المحكمة بقيمة هذه الكفالة , وهذا نص أوجده القانون 2010 في إمكانه أن يطالب بتعويض الكفالة وفي حال رأى القاضي أنها لاتغطي الضرر الذي أصاب المحجوز على أمواله, يجوز الحكم بالقياس وذلك في حال ثبت عدم مسؤوليته من خلال رفع دعوى يطالب بالتعويض, مختتماً حديثه بالقول: تبقى الإجراءات أمام القضاء «سرعتها –حق الدفاع – المساواة» بين الطرفين هي حق مصون أمام الدستور.
صغير..كبير
لأصحاب الشأن الاقتصادي وجهة نظرهم، إذ يؤكد د. شفيق عربش -الباحث والأستاذ في كلية الاقتصاد في جامعة دمشق أن الرقم الذي تم الإعلان عنه من قبل وزارة المالية للمحجوز على أموالهم هو رقم صغير أمام كل ما يجري من فساد, وهو في الوقت ذاته رقم كبير لأنه يؤشر إلى أن معظم الإدارات العامة والأجهزة الرقابية تغط في سبات طويل, بدليل لدينا مئات القصص من الفساد الذي هو ليس وليد اللحظة إنما متجذر منذ زمن ولم يحاسب أحداً الحساب الذي يستحق حتى يتشكل لديه رادع على مدار الأيام, مضيفاً: أن الفاسد يترك ليتمتع بما جنت يداه لأن غياب المحاسبة يساهم في استشراء الفساد، ناهيك بالظروف التي مرت في البلد خلال الحرب, إضافة إلى عدد من الأسباب منها ارتفاع سعر الصرف الذي يعد سبباً كبيراً في ارتفاع الأسعار وعدم مواكبة الرواتب والأجور لمتطلبات المعيشة.
أين الخلل؟
يؤكد د. عربش أن الخلل في منظومة الإدارة العامة والخلل الأكبر في الخيارات الإدارية, لأننا لم نضع معايير لاختيار القيادات الإدارية، حيث تم الاعتماد على الولاءات من دون الكفاءات, ومشكلتنا في سورية أنه نفتقد الكفاءات فضلاً عن أن الأجهزة الرقابية لم تقم بواجبها كاملاً، ومن وجهة نظره أنها هي الأخيرة تعاني ما تعانيه من خلل, وفي مقدمة الأسباب تبعية إدارتها وارتباطها برئاسة مجلس الوزراء في حين يفترض أن تكون مستقلة بقرارها والأصح تبعيتها لمجلس الشعب وأن ترفع تقاريرها لمجلس الشعب، ويتساءل: هل يعقل أنه منذ عام 1987 إلى الآن لم يحاسب أي وزير في مجلس الشعب.
مشاعر تقود إلى التهرب الضريبي
يتحدث د. عربش عن تبعات الفساد ليس فقط بشكل عام, وإنما له آثاره على كل الناس باختلاف شرائحهم منها مشاعر الإحباط التي تقود إلى التهرب الضريبي, وتالياً يقود إلى الغضب وتضعف الانتماء لدى المواطن الذي حين يرى المسؤول بتلك الرفاهية (حتى لو لم يكن فاسداً) يشعر بالغضب والغبن, مستشهداً بمثال، حدث في بريطانيا بمحاسبة قائد أكبر سفينة حربية في بريطانيا لقيادته سيارة الخدمة في يوم الأحد العطلة الرسمية في البلاد!!
يرى د. عربش أن المشكلة لدينا تكمن في الاعتماد على المهندسين اعتماداً كبيراً علماً أنه لا يصلح المهندس لوظيفة إدارية وإنما لوظائف فنية فقط.. مشيراً إلى أن قرار فرز المهندسين يجب أن يعاد النظر فيه، فالإدارة يجب أن تعطى لأهلها.. لذلك الحل هو بالاتجاه إلى الإدارات الجديدة المهيأة جيدا والخطوة الإصلاحية هي بانسحاب القطاع العام من المستويات المتدنية كاستثمار معمل إنتاجي مثلاً، يجب أن يترك للقطاع الخاص وتالياً العمل بروح التنافسية وتحقيق الجودة والسعر.
تشرين
إضافة تعليق جديد