تفلسف النعي الأخير
يوم كتب آلان باديو عن الفلسفة الفرنسية، حددها بستة تمارين. الأول، هو إنهاء الفصل بين المفهوم والوجود. الثاني، دفع الفلسفة إلى مواكبة العصر. الثالث، تبديد التناقض بين المعرفة والفلسفة، وبين العمل والفلسفة. الرابع، إقحام الفلسفة في السياسة، من دون المرور بالفلسفة السياسية. الخامس، البحث في موضوع الذات. أما السادس، فهو خلق أسلوب كتابي، أو بالأحرى أدبي، خاص بالفلسفة. وعلى هذا الأساس، اعتقد آلان باديو أن فرنسا أسست لفلسفتها خلال الفترة الممتدة من كتاب "الوجود والعدم" لجان بول سارتر، إلى كتاب "ما هي الفلسفة؟" لجيل دولوز وفيليكس غاتاري. فبينهما، تحول الفيلسوف من حكيم إلى مقاتل، ومن ناسك إلى كاتب، ومن منعزل في أناه إلى فنان ذاته، ومن فارض أفكار إلى محبٍ للابتكار.
لقد بلغت الفلسفة الفرنسية أوجها خلال تلك الفترة، التي عيّنها باديو. لكنها، سرعان ما انحدرت نزولاً، حتى بات الحديث عنها بمثابة التفتيش عن ورقة نعيها، خصوصاً من أجل تعليقها على نعش نظريتها، التي راجت، بعد بلد المنشأ، في الولايات المتحدة الأميركية. من هنا، حشدت مجلة "الجهة المقابلة" نصوصها، لإطلاق حملة، أو لنقل، تيار جديد، يقف بالنقض على الفلسفة المعاصرة، ويكشف عن "حقيقة" مفاهيمها.
قداسة التعطيل
كان ذلك العام 2009، عندما أصدرت "الجهة المقابلة" عددها الأول لقصف النظرية الفرنسية، بدءاً من ميشال فوكو ووسواسه الأركيولوجي، وصولاً إلى آلان باديو وثيابه الجديدة، لكن، البالية، ومعهما المتأثرين غير الفرنسيين، أمثال سلافوي جيجك، إضافة إلى فصل "المعلم" فريدريك نيتشه عن ما بعد الحداثة. أعلنت "الجهة المقابلة" في عددها الأول أن الفلسفة قد انتهت في فرنسا، وأن المسؤولية، كل المسؤولية، تقع على كواهل فلاسفة الفترة الذهبية، بحيث أنهم، بفعل وطأتهم الأكاديمية والإعلامية، عرقلوا ولادة فلسفة حديثة، تكون على قيمة السابقة عليها نظرياً وأفهومياً. بالتالي، شارك هؤلاء الفلاسفة في إنهاء الفلسفة، وتركها جثة ً متعفنة على قارعة الطريق، وما التفلسف اليوم سوى تصوير لها من جوانب مختلفة.
ماتت الفلسفة الفرنسية إذاً. نظريتها ولّت إلى غير رجعة. ما نراه منها في هذا النص أو ذاك، ليس أكثر من طيف من أطيافها، الزائلة؟ نعم، لكنها، تمتلك صوراً، وهنا خطورتها. فالميديا عمقت الحفرة بين الفلسفة والفلاسفة، كما قعرت الهاوية بين مسارين من التفلسف، الصحافي والأكاديمي. ومن ناحية أخرى، يرى جان كلود ملنر أن الفلسفة انتهت، لأن المجتمع قد طغى على ناسه. ذاك، أن الفرنسيين ما عادوا شباباً، ولا مجانين، مثلما كانوا في ستيناتهم المشاكسة، لذلك، انطفأ فكرهم، أو تعطل على الأقل.
فعند الوقوع على فلاسفة اليوم، سيكونون نسخات تقليدية أو معدلة عن "قديسي" النظرية الفرنسية، الذين حولهم الإعلام إلى أيقونات، مُفرِغاً مضامين كتاباتهم. والأخيرة، بعضها، إيديولوجي للغاية ("إديولوجيا الرغبة" عند دولوز، بحسب النجم برنار هنري ليفي)، وبعضها الآخر، ينطوي على ضروب من التركيب والإفتراء واللغو (دريدا، وبودريار وغيرهما). أما التأليف بعد هذه الكتابات، فلا يأتي بجديد، أو بمضمونٍ نظري ما على وجه التحديد.
هؤلاء، الذين خاضوا معركة الفلسفة في أشد مراحلها، كتبت "الجهة المقابلة" في نقضهم، حتى لاحظ كريستيان روبي أن المجلة قد وقعت في أحكام الإحتقار والشتيمة، كالقول بأن باديو مجرد "مهرج منكوب"، وأن فوكو، أفكاره غير مرتبطة، وأحياناً لا تعود بالنفع. وفضلاً عن ذلك، لم تطرح "الجهة المقابلة" أي نظرية جديدة سوى العودة إلى "الحس المشترك"، الذي لا تحدده، أو تعيّن زمانه بحقبة ما. ومن المحتمل أنها ركنت إلى فضفضة الحل، كي تؤكد أن الفلسفة لاقت حتفها، ولا داعي لذرف الأفكار لإنقاذها. انتهت النظرية الفرنسية، وهذا الإعلان معروف ربما، لكن، المجهول، أن النظرية تلك، قد خدعتنا، وقتلت الفلسفة. ثمة من اغتال الأخيرة، و"نحن ضحاياه".
تمرين سابع؟
في كل الأحوال، وبعيداً من ضحوية "الجهة المقابلة"، التي رفعت شعار لاجدوى الفلسفة، وتلحقها في ذلك، وعلى الطرف الأكاديمي، أصوات طلابية ترى أن التفلسف لم يعد ضرورياً، بل بات مملاً. من الممكن رصد بعض زفرات الاحتضار، التي تلفظها الفلسفة الفرنسية، بالإستناد إلى تمارين آلان باديو. إذ يبدو اليوم كأن الفلاسفة قد توزعوا بين صورتين. الأولى، يظهرون فيها بخفة نظرية، وطراوة فكرية، وبلا جهد بحثي. والثانية، يجلسون داخلها وراء جدران من الكتب، يؤلفون نصوصاً أكاديمية، جافة، ومنغلقة على التجريد. فهل من الممكن المصالحة بين الصورتين، أو تخطيهما إلى صورة ثالثة، لا تكون صورة؟
تبقى الإجابة معلقة ً على المقبل من وقت التفلسف في فرنسا. غير أن الملاحظ، عند الإنطلاق من تجارب الفلسفة الناشئة، أن الأخيرة سائدة إعلامياً على صعيد الشكل، لكن، مضمونها، قد انقطع عن تمارين باديو الستة، مكتفياً بتكرار مقولات "عصرية"، وممارستها على السطح من الوقائع في أغلب الأحيان. وهذا ما يشير إلى وجود "أزمة فلسفة"، و"أزمة لغة فلسفية"، بحيث ما عاد التفلسف يفتش عن صوته اللغوي الخاص به، لكنه، يتطفل على حقول علمية، أو فنية أخرى، مستخدماً لغاتها أو قواميسها.
وذلك، ارتكازاً إلى حقه في تأويل أي ظاهرة أو حدث أو اكتشاف. واللافت، في هذا السياق، أن عدداً لا بأس به من الفلاسفة الحاليين، قد انتقل من الرواية إلى الفلسفة، أي أنهم مهدوا تنظيرهم بالسرد، قبل أن ينقطعوا عنه. كما لو أن العلاقة الذهبية بين الأدب والفلسفة انقلبت رأساً على عقب، فإما لا تعود صلتهما حاضرة، أو يطغى طرف على آخر، وبالتالي، ينتهي التوازن بينهما.
يتحمل نعي الفلسفة مفارقة تأويلية أيضاً. فقد يكون التأكيد عليه ضرباً من ضروب التفلسف، أو ربما مرحلة، أو بالأحرى قد يكون تمريناً سابعاً، يُضاف إلى تمارين باديو. فهل الفلسفة تموت حقاً؟ فهي قد تنحدر، أو تعاني من شلل ما، لكن، لا يمكن أن تزول بالكامل، فحتى إعلان نفيها هو شكل من أشكالها.
كتب دولوز مرة ً أن سؤال "ما هي الفلسفة؟" هو استفهام الشيخوخة، والذي لا يمكن طرحه سوى في هذه الحقبة العمرية، ومن الممكن، والحال هذه، أن يكون سؤال "هل ماتت الفلسفة؟" بمثابة إستفهام ما قبل ولادتها، الذي يساوي احتضارها، وفي الوقت نفسه، هو إشارة قاطعة إلى بقائها على قيد الحياة. الفلسفة في أزمة؟ صحيح، وهذا سبب كاف كي لا تتوقف، لأنها غالباً ما تكون وليدة المحن الضالة، بما فيها محنتها الخاصة.
روجيه عوطة
إضافة تعليق جديد