داروين على محك المساءلة الفلسفية

07-06-2021

داروين على محك المساءلة الفلسفية

مشير باسيل عون: 

يتفق أهل الفكر على القول بإن الأبحاث البيولوجية التي أنشأها تشارلز داروين (1809-1882) استثارت أشد العواصف هيجاناً في الأوساط الثقافية. بمناسبة مرور 150 عاماً على صدور كتابه "نسب الإنسان والانتقاء المرتبط بالجنس" (1871)، يعود الكلام على الجرح النرجسي الذي أصاب كرامة الإنسان من جراء ربط أصوله بالفصيلة الحيوانية. لا ريب في أن كتاب داروين الأشهر هو "أصل الأنواع". أما الكتاب الأشد علمية، فهو "نسب الإنسان" (The Descent of Man and the Selection in Relation to Sex)، يعلن فيه داروين أن الإنسان، على الرغم من صفاته النبيلة والقدرات والمهارات العظيمة التي اكتسبها، "يحمل على الدوام في بنيته الفيزيائية الطبيعية ختم أصوله المتواضعة الذي لا يمحى".

يعلم الجميع أن عالم البيولوجيا الفرنسي جان-باتيست دلامارك (1744-1829) كان قد سبق داروين إلى القول بتطور جميع الأجناس استناداً إلى أصل واحد أو عدة أصول. وكان داروين أيضاً قد أخذ عن عالم الطبيعيات والبيولوجيا والأنثروبولوجيا البريطاني ألفرد راسل والاس (1823-1913) القول بالانتقاء أو الفرز الطبيعي. حقيقة الأمر أن داروين لا يتكلم على أصل البشر في كتابه هذا، ولا يربط نشأة الإنسان بالقرد، بل النقد الذي استثاره كتابه جعل الناس يظنون به سوءاً.

إذا نظر المرء في مسرى داروين الحياتي الوجودي، يدرك أنه ظل على إيمانه المسيحي الأنغليكاني. فكان يثق بالكتاب المقدس سلطةً روحيةً أخلاقيةً ضروريةً من أجل انتظام الحياة الإنسانية ورقيها. غير أنه كف عن القول بتاريخية الكتاب المقدس وعلميته، لا سيما نصوص العهد القديم. في رأيه أن الدين استراتيجية خطة قبائلية ناجحة تحافظ على ديمومة الجنس البشري. أما الله، فيظل في نظره المشرع الأعلى. بيد أنه، في إثر موت ابنته آني عام 1851، تزعزع إيمانه، فآثر أن ينسب موت الأبرياء إلى نواميس الطبيعة العامة على أن يتهم الله بالمأساة الرهيبة هذه. في جميع الأحوال، يبدو أنه انتهى إلى نوع من اللاأدرية في غروب حياته، فاكتفى بشعور ملتبس إزاء سر الكون.

التكيف الذكي

تقوم نظرية التطور على القول بأن الأفراد، في كل نوع على حدة، يتناسلون من جيل إلى جيل من جراء التكيف الذكي مع مقتضيات البقاء على قيد الحياة. بفضل الانتقاء الطبيعي، تلتئم ضمة من الخصائص المفيدة في تناسل الأفراد، فتتيح لهم أن يتغلبوا على أسباب المرض والضعف والانحلال. من جيل إلى جيل، تشتد شوكة هذه الخصائص لتصبح أقدر على مغالبة عوامل الإفناء. يستند الانتقاء الطبيعي إلى ثلاثة مبادئ: يقوم المبدأ الأول على التنويع الذي يتيح لكل فرد من أفراد المجموعة أن يتصف بخصائص تميزه عن غيره، يقتضي المبدأ الثاني أن  يتكيف الأفراد تكيفاً يساعدهم على الانخراط في بيئتهم والتفاعل معها والتكاثر فيها، أما المبدأ الثالث، فيعتمد الوراثة قانوناً يجعل الخصائص تنتقل من جيل إلى جيل، وقد زودت عناصر الاشتداد والرسوخ التدرجي. في هذا السياق، يصر داروين على اعتبار النضال في سبيل البقاء على قيد الحياة عاملاً جوهرياً في الحفاظ على إيقاع الوجود والتطور الذي يصاحبه. غير أن هذا النضال لا يستقيم إلا استناداً إلى رغبة التنافس أو التضامن أو التعاون.لا شك في أن الخلفية الفلسفية في تطورية داروين ترسم للطبيعة حدود الاستقلال التام عن المقاصد الخارجية. فالطبيعة تتطور من جراء حركية لصيقة بها لا تخضع إلا للقوانين المنبثقة من صميمها. في صدد هذه الغائية، يعترف داروين بأن الكلمات لا تساعده على التعبير الأمين عن فكره. ذلك بأن الطبيعة تتحرك من دون غاية واضحة، ما خلا الانتقاء الطبيعي والتطور العفوي. لذلك أثارت نظريته ردوداً شديدة اللهجة.

في الحقل العلمي، على سبيل المثال، أظهرت بعض الدراسات أن الانتقاء الطبيعي لا يفرز الكائن الأقدر على التكيف، بل يلغي الأعضاء التي يعتل فيها التوازن في التبادل. وعلاوةً على هذا النقد، تبين لعلوم الأثريات وعلوم الحفريات القديمة أو الإحاثة (الباليونتولوجيا) والعلوم البيولوجية أن تطورية داروين لا تفسر تفسيراً مقنعاً الحلقة المفقودة بين الفصائل القردية والفصائل الإنسانية، في حين أن أقدم اكتشافات أجداد الجنس البشري الهيكل العظمي الإثيوبي أردي الذي يقارب عمره حوالى أربعة ملايين سنة ونيف.

من الانتقادات أيضاً رد عالم الأنثروبولوجيا أوغستين فوينتس (Augustin Fuentes) الذي انتقد داروين على عنصريته وذكوريته وحصره التطور في جانب من المهارة الإنسانية. بيد أن الاختصاصي البارز في نظرية التطورية باتريك تور (Patrick Tort) أبرز أن داروين كان حريصاً على وحدة الجنس البشري، وعلى قيمة التعاطف التي تجعل الناس يتضامنون في حلقات متنامية تبدأ بالدائرة الصغرى، فالوسطى، فالدائرة الإنسانية الأشمل. لا شك في أن الحقائق العلمية التي كانت في حوزة داروين لم تكن تؤهله لاستخراج الخلاصات البيولوجية الصائبة في جميع معايناته. غير أن النقص الإبيستمولوجي هذا يقترن بالوضعية المعرفية السائدة في عصره. يبقى أن الثابت في مشروعه العلمي يكشفه ما قاله عالم البيولوجيا التطورية الأكراني تيودوسيوس دوبزانسكي (Theodosius Dobzhansky): "لا معنى في البيولوجيا لأي أمر من الأمور إلا في ضوء حقيقة التطور".

تقويم التطورية

لا بد، والحال هذه، من التروي والتأني في تقويم التطورية الداروينية الجريئة. هنا ينشط التناول الفلسفي من أجل التبصر في حقائق الاختبارات الإنسانية المتطورة على تراخي الأيام. يعتقد مؤرخ الفلسفة الفرنسي إتيان جيلسون (1884-1978) أن اصطلاح التطور كان يعني في القرن السابع عشر مسرى من التغير ينتقل بالكائنات من حال إلى حال حتى يبلغ مقاصده المعروفة على وجه الاستباق. أما عالم البيولوجيا والأنثروبولوجيا والفيلسوف البريطاني هربرت سبنسر (1820-1903)، فاستخدم مقولة التطور، وهو ما لم يفعله داروين في صريح العبارة، وأنشأ تصوراً تطورياً فلسفياً مخالفاً يحلل به وضعية الكائن الحي المتغيرة في مستوى البيولوجيا والنفسيات والاجتماعيات. فإذا به ينادي بالتطور نحو الأشد كفاءةً واقتداراً وتعقداً، ينشط بفضل ميزة التعاطف الضمني بين الأفراد (sympathy).

ومن ثم، فإن العلماء وأهل الفكر يتفقون على القول بأن ثمة قطيعة خطيرة استحدثها كتاب "نسب الإنسان" في تصور هوية الإنسان ومقامه ودعوته في الكون. ذلك بأن داروين اجترأ فوضع الإنسان في سياق التطور الطبيعي الذي تختبره جميع الكائنات. ومن ثم، فإن الاختلاف زهيد بين الكيان الإنساني والكيان الحيواني، ربما لا يتجاوز بعض الخصائص، في حين أن الشبه يبلغ نسبة 96 في المئة بين الإنسان وأصناف الشمبانزي والغوريلا والبونوبو. في كتاب "نسب الإنسان" يصرح داروين بأن "الاختلاف بين روح الإنسان وروح الحيوانات الأرفع، مهما عظم مقداره، هو بلا شك اختلاف في الدرجة، لا في الطبيعة". بيد أن داروين يعود فيستدرك، إذ يقول إن الاختلاف في الدرجة عظيم بحيث يتميز الكائن الإنساني بسمات تجعله على هذا القدر من الإبداعية الخاصة به.

لا عجب، من ثم، أن تتناول الفلسفة خصائص التميز الإنساني الفريد وتتحرى عن علاقته بظاهرة الوعي. إذا تناول المرء آثار الوعي الإنساني في إنجازاته الثقافية (اختراع الآلات، المحاكاة والتعبير، التعلم والتربية والتهذيب، التعاطف والانضواء الجماعي، القدرة على التخطيط المستقبلي والتنبؤ الاستشرافي، وعي الوعي الذاتي وإدراك وعي الآخرين)، تبين له أن سمات الأنسنة هذه تمنح الوعي الإنساني ضمة من الخصائص تجعله ينفرد عن الوعي الحيواني انفراداً بليغاً. الميل الأنثروبولوجي السائد عند القائلين بالتطور وعند المنادين بالخلق الاعتراف بأن الوعي الإنساني قد يسقط كله في مأزق العبث إذا رده العلم إلى مجرد تشابك اعتباطي للخلايا العصبية.

طبيعة الوعي

في هذا الموضع الإشكالي عينه، يتبين لنا أن الوعي العلمي هو الذي يحكم على الوعي الإنساني برمته. أفلا يكون في ذلك بعض من المفارقة المربكة؟ هل يجوز للوعي الأول أن يبطل الوعي الثاني، وكلاهما يبحثان عن خصوصية الوجود الإنساني. لذلك أعتقد أن مسألة الوعي تبقى عالقة في تطورية داروين حين يسأل المرء: ما طبيعة هذا الوعي وما قوامه ووظيفته وأثره وارتباطه بالبنيان الفيزيولوجي الجسدي كله، هل تفاعل الخلايا العصبية وجه من وجوه تحقق الوعي فينا، أم هل الوعي بعد رفيع من الأبعاد الروحية الناشبة في تضاعيف البنيان الإنساني؟

الحقيقة أن التطور هو الأمثولة الثمينة المستخرجة من نظرية داروين. يجب الاعتراف هنا بأن التطور أمر إيجابي في فهم طبيعة الوجود الإنساني. فالإنسان الذي عرفه الفلاسفة بأنه كائن اجتماعي، سياسي، عقلاني، جمالي، اقتصادي، ينبغي أن يتجلى أيضاً في تطوريته ليصبح كائن التطور على الإطلاق. لست أظن أن الخلق في اللاهوت المسيحي المعاصر، على ما كان يذهب إليه الفيلسوف واللاهوتي والأنثروبولوجي الفرنسي بيار تيار دشاردن (1881-1955)، يخالف مبدأ التطور في مدلوله الفلسفي العام. ذلك بأن الخلق ليس إنشاء فورياً للإنسان، بل إحياء تدرجي للوعي حتى يبلغ البنيان الإنساني مقام النضج.

في المطارحات الفلسفية الراقية التي وثقها في كتاب ثمين (La nature et la règle) الفيلسوف الفرنسي بول ريكور (1913-2005) وعالم الأعصاب الفرنسي الباحث في معهد باستور جان-بيار شانجه (Jean-Pierre Changeux)، يستنتج القارئ أن تطور العلوم البيولوجية، لا سيما علوم الأعصاب، سيساعد الإنسان على إدراك خصوصية كيانه وإنضاج وعيه الأخلاقي. فالفكر الناشط في محضن الوعي يحث الإنسان على تجاوز مبانيه البيولوجية من غير التنكر لها. في جرأة التجاوز تكمن الإشكالية الأخطر. ذلك بأن العلوم تشرع كل الاحتمالات، في حين أن الفلسفة تنظر نظراً متفحصاً ناقداً في هذه الاحتمالات. أما الاعتقاديات الدينية الرجائية، فإنها تستصفي الأنسب والأغنى والأقدر على زرع الدفء والسكينة والأمل في فؤاد الإنسان.

خلاصة القول أنه ليس من الممكن علمياً وفلسفياً معرفة الأصل الإنساني، سواء في النظرية التطورية أو في النظرية الخلقية. التطور حقيقة أنثروبولوجية تاريخية ثابتة. والثابت أيضاً أن هناك تواصلاً بين العالم الحيواني والعالم الإنساني، وأن هناك قطيعةً تدرجيةً بينهما. غير أن الحيوان ما برح مستقراً على حيوانيته طوال ملايين السنين، في حين أن الإنسان انتقل من حيوانية الوعي البسيط إلى حيوانية الوعي المركب. وقد ينتقل إلى وضعية أخرى حين تجتاح كيانه الآلات الاصطناعية والمحسنات البيو-إلكترونية. وعليه، فإن التطور سيظل قانون الحياة. وحده الإنسان يمكنه أن يحدد اليوم مصير هذا التطور: فإما الاندفاع في سبيل العقلانية الهادئة والتضامن الوجداني وأخلاقيات الكرامة والمساواة والعدل، وإما الإسراف في الحيوانية الوحشية والسقوط في محنة العنف والعبث والفناء.

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...