رجل السيرك الحزين

23-03-2022

رجل السيرك الحزين

Image
هاني نديم

هاني نديم:


لا شيء يذكر في الحياة الأولى لفيديريكو فيلليني، ولد بعد الحرب العالمية الأولى في قرية قريبة من مدينة "ريميني" الريفية على الساحل الشرقي الإيطالي لعائلة فقيرة، شأنه شأن معظم مبدعي العالم، لا شيء في هذا... عائلته غير مفككة وغير نموذجية كمعظم الناس، لا شيء في هذا...

كان طفلاً حينما زار السيرك مدينته، فشغف بما رأى ولاحق المهرجين من مكانٍ إلى مكان؛ لاحقه هائماً فرآه أحد جيرانه وعاد به إلى أهله عنوةً، وهو ما يجري مع كل الأطفال. لا شيء في هذا... كان رساماً بالفطرة فقصقص الورق وصنع مسرح دمى يحركها ويروي قصصها، هذا شائع أيضاً...

إلا أن الخاص جداً، والذي يشير إلى استثناء عجيب، أنه جعل من كل هذا الـ "لاشيء" أفلاماً عظيمة، لقد أخلص لكل مفردةٍ علقت به وهو صغير وكل تجربة مرّ بها ليوظفها في أفلامه التي بدت سيرة ذاتية على أجزاء، وكان بطل كل هذا  هو السيرك الذي لاحقه فلليني في طفولته، إذ ظل دائماً محور حياته وصنع منه كل ما جاء لاحقاً. لقد حوّل العالم كله إلى سيرك ورأى جميع الناس مهرجين وكعادة المهرج العتيق أخفى نفسه جيداً وقال كل ما يريد قوله غير آبهٍ بصراخات الاعتياديين الذين يطلبون سينما تقليدية. 

يقول فيلليني: "لما كنت في السابعة، أخذني أبواي إلى السيرك، صدمتني رؤية المهرجين، لم أعرف إن كانوا حيوانات أم أشباحاً، لم أجدهم مضحكين، دخلوا أحلامي كلها، في اليوم التالي التقيت المهرج "بيرينو" فلم أفزع منه، كان أول حزين في سلسلة المهرجين الحزانى الذين رأيتهم في حياتي دوماً، اقتربت منه؛ فلقد أدركت سلفاً أن بيننا قرابة خفية، بعد هذا لحقت بسيرك كان يمر من قرب ريمني، ارتبكوا حينما عرفوا أن صبياً صغيراً تبعهم كل هذه المسافة دون أن يلحظوا، سمحوا لي في المساعدة بغسل حمار وحشي، كان مريضاً لأنه أحدهم أعطاه قطعة شوكولا! منذ ذلك اليوم حتى هذه اللحظة وأنا في السبعين لم أنسَ ملمس شعره وهو مبلل بالماء، ما شعرت به يدي حينها ظلّ معي أبداً. أنا لست مسرفاً بعواطفي، ولكن حين مسسته مسّني، مسّ قلبي... لمن سأقول وأحكي عن هذا الملمس؟".

كان كل تفصيل في حياة فيلليني يدفعه دفعاً باتجاه الإخراج السينمائي، طفولته الوحيدة حسبما وصفها، عالمه الداخلي، إجادته لرسم الكاريكاتير وعمله كصحافي رسم وأحب وتزوج ببساطة، هذا هو فلليني الذي لم يتخل طيلة حياته عن أية مفردة أصيلة فيه، عنيد عناد القرويين ومتمسك بأخطائه التي لا يراها صواباً أبداً، إلا أنه يحبها كونها أصيلة فيه، دافع عن رؤاه السينمائية في وقتٍ صعبٍ وحرجٍ جداً بعد الحرب وكسب الرهان.

بدأ الأمر فعلياً حينما زاره المخرج العبقري "روسيلليني" ليساعده في نصوص فيلم فعمل معه سنوات حياته الأولى ونشأت صداقة بين الاثنين، فتدرج فيديريكو من كاتب سيناريو إلى مساعد لروسيلليني وهو ما لم يكن يحلم به أحد وخاصةً أنه بدأ علاقته من خلال تحفة روسيلليني "روما مدينة مفتوحة"، والذي مثلت فيه آنا مانياني دور البطولة فيه، وأطلقها كنجمةٍ فازت لاحقاً بالأوسكار والغولدن غلوب على دورها في فيلم "وشم الوردة". فيلليني سجل ملاحظاته آنذاك حول مناخ الفيلم وما كان يجري من حوله، وإن سألتني شخصياً ما أهم ميزة في فيلليني سأجيبك على الفور "ملاحظته" إنها في مكان آخر غير ما يراه الناس دوماً، يقول فيلليني: "كانت آنا مانياني امرأة صاخبة وفاحشة، لم تعرني أي اهتمام، كنت نحيلاً جدا آنذاك، من العسير أن تراني، كانت نظرات الناس تجتازني أو تخترقني، إنها مهتمة بروسيلليني أما أنا فلم أكن أحدا، كل واحدٍ تلو روسيلليني لم يكن أحداً. كانت مانياني غير عادية ولم يكن الجنس لديها مبتذلاً أبداً، إنه جزء أصيل وفطري من شخصيتها تماماً، حينما ماتت حدّت عليها كل القطط الشاردة في روما.. كانت خير صديقة لها، كانت آنا تحضر لها الطعام من أفخر مطاعم المدينة آخر الليل من كل يوم.. عملت معي في فيلم روما وكان آخر أفلامها. كانت مريضة وهي تعرف ذلك، لم نتحدث عن المرض ولو لمرة، بعدما رحلت صرت أطعم القطط في الليل وأقول لها: هذه على روح مانياني".

صنع فيلليني بعد ذلك فيلمه البديع "حياة حلوة" الذي كرّسه كأحد أهم مخرجي إيطاليا رغم أنف النقّاد وتباين الآراء حول الفيلم، إذ خالف كل المكرّس حينها، تجاوز فكرة السيناريو الكامل إلى حوارات مقطوعة، صنع فيلماً طويلاً جداً من ثلاث ساعات ونصف، واعتبره الجميع أنه فضائحي ومبتذل، حتى وأن بعض الكنائس علقت على أبوابها "نعوةً" لروح فلليني جاء فيها: "دعونا نصلي من أجل خلاص روح فديريكو فلليني الخاطئ الشهير". ولكن الكاتب البلجيكي العظيم جورج سيمنون رئيس لجنة التحكيم في مهرجان "كان" ارتأى أنه تحفة فنية خالدة فمنحه السعفة الذهبية، جورج سيمنون الكاتب المجنون، أحد أهم نماذج فلليني ورموزه يمنح بيديه الجائزة الأولى لفيلم فيلليني الذي يقول: كانت فرصة لالتقي سيمنون، أحد أهم الكتّاب لديّ، كانت كتبه من الروعة بحيث أنني لم أعتقد يوماً أن شخصاً قد كتبها. سيمنون قال لي إن لقائي أفرحه، إنه حدثٌ يصعب عليّ وصفه، الغريب والمفاجئ أن سيمنون كان يعتبر نفسه فاشلاً". 

لقد أضاف فيلليني بأصالة أعماله لفظين إلى المعاجم العالمية هما: Dolce Vita حياة حلوة، وشرحها المعجم الأمريكي بأنها: حياة الدعة والانغماس في الملذات، واللفظ الآخر هو Paparzzo، والذي أصبح شائعاً في وصف مصوري الصحافة الفضائحيين، وكان قد استخدمه فيلليني مستنداً على "باباريزو" صديقه المصور الذي كان يحيا ويموت وراء العدسة ويرى العالم من خلالها، فاستثمر اسمه فيلليني كعادته باستخدام الأسماء الواقعية في فيلم "حياة حلوة" إذ كان دوره شريراً وصادماً كمصور فضولي يفعل أي شيء من أجل صورة فضائحية، فما زال العالم حتى اليوم يذكر المشهد حينما طلب المصور بابارتزو من مارشيلو دخول شقته خلسةً لتصوير جسد شتاينر الفاتن، ومن هنا تحرك اللفظ ليصبح مصطلحاً عالمياً يصبغ كل صحافي مخالف لأخلاق المهنة بأنه: "باباراتزي". فيلليني نفسه أصبح اصطلاحاً منهجياً في عالم السينما لاحقاً. وأعتقد جازماً أن هذه هي الأصالة تماماً، هذا ما قاتل فيديريكو لأجله وعاند وخالف الآخرين. إنه يؤمن بجذور أصالته التي نمت بعده غابات...

إن سألتني أيضاً أن أحدد سبباً واحداً أحبّ فيلليني من أجله سأقول: إنه لم يكن يهتم بالماديّات إطلاقاً، لا يعرف أجره ولا أرباحه ولا ما بجيبه ولا كم يملك ولا يعامل النقود إلا كورق ينجز به فيلمه القادم الذي سوف يكمله كما تصوره ولو كلفه الأمر أن يخسر كل شيء حتى المنتجين! 

تخيّل؛ في فيلم حياة حلوة طلب من المنتج "ريزولي" أن يعيد بناء جادة فنيتو لتبدو أكثر بروزاً، فطلب منه المنتج التنازل عن جزء كبير من نسبة أرباحه حتى يكون له ما أراد فوافق فيلليني دون أي تفكير إخلاصاً للفيلم من أجل مشهد واحد، يقول فيلليني: "من غير أن أتردد لحظة، تنازلت عن حقوقي اللاحقة من الفوائد المالية للفيلم، استلمت خمسين ألف دولار بينما كانت الأرباح بالملايين، لقد أغنى الفيلم الكثيرين ولم أكن واحداً منهم، الأدهى من كل هذا، أنه لو تكرر الأمر اليوم مع إدراكي التام بما سيترتب عليه، لفعلت نفس الشيء تماماً". 

لقد كان فلليني مثقفاً كبيراً إلى جانب موهبته في الرسم والكتابة قرأ الكثير حتى كاد يجن، وصنع من خيالاته التي تلاحقه أفلاماً، يقول: "تعلمت من يونغ أن الاتصال بالخيال موهبة يجب رعايتها". ولأنه أعجب بما كان يفكر، فلم يترك ثيمةً من ثيمات حياته إلا وأخرج فيلماً عنها، عانى وحفر وكدّ وجاع حتى وصل إلى ما وصل إليه، هذا يجعل لأفلامه قيمة مضاعفة، ولكني شخصياً أحب شرحه واستنتاجاته بنفس السويّة التي أحب فيها أفلامه، هوامشه بشكل موازٍ لمتونه. وخذ مثلاً ما شرحه عن تلك المرحلة النصفية بين المجد والفشل، المنتصف تماماً عندما يكون الطريق وراءك ما زال طرياً والطريق أمامك ما زال بعيداً، يقول فيلليني: "إن أصعب مرحلة هي التي في المنتصف، أن تكون مخرجاً ليس لديه رصيد كاف. إن نصف رصيد أسوأ وأقل من عدم وجود رصيد على الإطلاق". 

وفي حقيقة الأمر؛ ظل هذا الكلام يلاحقه طيلة حياته، فلم يكن المنتجون يتجرأون على إنتاج أفلام بمثل هذا التعقيد، كان فلليني على الدوام مرعباً لهم، لا أحد يعرف هل سيربح هذا الفيلم ملاييناً أم سيخسر الملايين... حتى فيللني نفسه لا يعلم، وهذا أجمل ما بالأمر، فقد كان يعمل بناءً على اسكتشات أولية وطرحٍ غير منتهٍ، يقول: "أفلامي تخلق نفسها، لست مثل هيتشكوك في التخطيط الدقيق، أنا مثل ورقة مطبوع كلام دقيق وكامل على وجهها الأول بينما الوجه الآخر ناصع البياض دون كتابة، أثناء التنفيذ يغدو الوجه الأبيض هو الأهم، وأعود للكتابة كمقترح لما سيكون عليه الفيلم منجزاً".

رغم كل تلك الأفلام ظل في قلب فلليني حسرة ضياع وقته في البحث عن الكمال، يقول للمخرج الشاب "تارانتوري" حينما جاء يستشيره في فيلمه العظيم "سينما باراديسو" لا تقع بما وقعت به أنا من تراخٍ في الأعوام بين الأفلام، لا تنتظر الكمال. أنجز ما استطعت إن الخوف من الخطأ عقبة كبيرة، حين تخاف تتوقف".

لقد نال فلليني كل ما أراد إلا أنه ظل حزيناً كمهرجٍ مفلس... حتى نجاحه لم يعجبه، لم يصبح ثرياً يوماً، لم يذهب إلى حفلات الكوكتيل الصاخبة، بالكاد لبس التوكسيدو في المهرجانات البسيطة التي لبّى دعوتها، ظل بين سائقي التاكسي وبائعي الكتب على الأرصفة والناس البسطاء الذين أحبوه رغم كل تلك الأمجاد، ظل كما هو ساخراً، متهكماً وحزينا. يقول عن النجاح: "النجاح يبعدك عن الحياة، وكلما أحرزت المزيد منه اتسعت الهوّة بينك وبين الناس، إن هالة النجاح تغدو طوقاً يحيط بك ليبعد عنك الآخرين، أولئك الذين ألهموك بالأصل، ما خلقته ليحميك يصير سجناً ينغلق عليك، إنك تزداد خصوصية باستمرار حتى تصبح وحيداً تماماً، ومن البرج العالي يتشوّه منظورك كثيراً... إن الفنان فيك يذبل في العزلة ويموت في القلعة التي هربت إليها".

نال فيلليني خمس جوائز أوسكار، الأولى عن فيلمه "الطريق" 1954، والثانية عن "ليالي كابيريا" 1957، والثالثة عن "ثمانية ونصف" 1963، والرابعة عن "أماركورد" 1973، أما الخامسة عن مجمل أعماله 1993، وقد رفض أن يذهب لاستلامها لكرهه الشديد للسفر ومغادرة روما، ولم يكن ليذهب لولا أنه سيخذل سائقي التاكسي وبائعي الخبز والنوادل في المقاهي وزوجته شريكة عمره جيوليتا، يقول فيديريكو في ذلك: "كان سائقو التاكسي يعلمونني كيف أصنع أفلاماً في كل مرة أركب بها التاكسي، وفي عمري لم أعلمهم كيفية القيادة ولو لمرة! كانوا ثرثارين إلا أنهم من أقنعني بالذهاب إلى الأوسكار فالمسألة فخر قومي لا علاقة لي بها. فذهبت".

في مشهدٍ لا ينسى حينما تسلم الأوسكار من صوفيا لورين مواطنته وإحدى ملهماته، كانت زوجته الطيّبة جيوليتا تبكي فقال لها فلليني من المنصة: "لا تبكي يا جيوليتا". تلك الكلمة التي أصبحت أيضاً لغةً دارجةً ومصطلحاً يعني الحب والعشرة بين الرجل وحبيبته في إيطاليا حتى اليوم..

أصيب فلليني بأكثر من نوبة قلبية وقرر الأطباء في جنيف ضرورة بقائه في المستشفى، إلا أنه توسل ليذهب إلى روما، لم يسمحوا له، قالوا له تذهب إلى ريمني؛ ضيعته نقية الهواء، وهناك توسّل وتحايل على الجميع ليعود إلى روما حيث كان يراها شفاءه، في ذات الوقت أصيبت زوجته جيوليتا بسرطان الدماغ هي الأخرى، فغادر مشفاه هرباً والتحق بمشفاها ليراها، خططا لعيد زواجهما الخمسين ولفيلم جديد يكون فيه ممثلون قدامى التقوا وهم مسنون في مستشفى أمراض قلبية إلا أن نوبة قلبية أخرى أدخلته في غيبوبة لأسبوعين ومات بعد عيد زواجه الخمسين بيومٍ واحدٍ فقط، يوم 31 تشرين الثاني من عام 1993، وبالطبع؛ حضر جنازته سائقو تاكسي روما والنوادل والخبازون ورئيس جمهورية إيطاليا الذي وصفه بشاعر إيطاليا القومي، وعزّى به جميع رؤساء العالم ورفعت على شرفات روما كلها عبارة "تشاو فلليني" محاطةً بأشرطة حريرية سوداء ظلت أسابيع بعد الجنازة... لقد أصبح أكثر شهرة بعد موته واكتسبت أفلامه حياة جديدة أشعلت دور العرض من جديد، تلك الأفلام التي كانوا يصفونها بالعبثية أصبحت أيقونات نادرة في عالم السينما. 

ومرةً أخرى في مشهد لا ينسى، ترفع جيوليتا يدها المرتجفة المتعبة لتقول له وهو مسجى: "تشاو يا حبيبي" كانت متماسكة إذ علمت أنها ستراه قريباً. ماتت جيوليتا بعد خمسة شه ور يوم 23 آذار 1994، مخبرةً أهلها قبل موتها بأيام وهي التي تحب أعياد الفصح: "سأقضي عيد الفصح مع فيديريكو، ادفنوني في ريميني".

 

من كتاب: بورتريهات حزينة من استديو الافراح

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...