مثقفون اسرائيلييون بين التباس الهوية والاتهام بالخيانة
يستعد ايلان بابيه، أحد أكثر المؤرخين الجدد راديكالية، في إسرائيل، لمغادرة البلاد بعد التحريض والتضييق اللذين تعرض لهما، هذا غير الاتهامات بالعمالة والخيانة. وبهذا لا يكون ايلان هو آخر الهاربين من سيطرة الاتجاه الواحد على الرأي العام الإسرائيلي ولا أولهم. وان كانت لائحة الأسماء يتوقع أن تطول من الآن فصاعداً، فهي قد ضمت سابقاً المحامية الشهيرة فيليتسيا لانغر، والأديب اليهودي العراقي سمير نقاش، وعالمة اللغويات تانيا راينهارت.
يفصل بين القدس الشرقية التي احتلت عام 1967، وشارع كورش، في القدس الغربية، شارع واحد، يكاد يكون فرعيا، لكنه مزدحم وفوار بالحركة، ربما لكونه، في الواقع، يفصل بين عالمين مختلفين كل الاختلاف.
طوال سنوات، قطع مئات الفلسطينيين من الذين اعتقلت قوات الاحتلال أبناءهم وهدمت بيوتهم، هذا الشارع، للوصول إلى مكتب المحامية اليهودية التقدمية فيليتسيا لانغر، الذي يوجد في شقة صغيرة في شارع كورش.
لانغر التي هاجرت من ألمانيا إلى إسرائيل، تبنت قضايا المعتقلين الفلسطينيين التي بدأت إسرائيل زجهم في سجونها، منذ الأيام الأولى للاحتلال، وكانت تذرع طول البلاد وعرضها، لزيارة السجون والدفاع عن المعتقلين.
وفي مكتب لانغر، تدرب محامون عرب أتوا من الداخل الفلسطيني، وبعد إنهاء فترة التدريب فتحوا مكاتب خاصة بهم، ويتهمون من قبل كثير من أهالي المعتقلين، بأنهم لم يكونوا بنزاهة لانغر، وانشغلوا اكثر بتكديس الأموال. ولم يقتصر احتضان مكتب لانغر على المحامين الشبان، وانما على أنواع أخرى من الناشطين، مثل شاب اصبح شاعرا ومترجما، وكاتب مقالات، تخصص في النيل من كل شيء له علاقة بالابتعاد عن الوطنية والقومية، وتأييد الاحتلالات في المنطقة العربية.
ولم تقتصر أهمية لانغر على الدفاع عن مئات المناضلين الفلسطينيين، لكنها أيضا برزت ككاتبة وباحثة، أصدرت كتابها الأول (بأم عيني) في سبعينات القرن الماضي، والذي يعتبر أهم كتاب أرخ لحركة المقاومة الفلسطينية المبكرة، بعد حزيران (يونيو) 1967. وهي صاحبة الفضل في نقل معاناة الأسرى الفلسطينيين والعرب إلى العالم، وتعرضهم للتعذيب الذي لا يوصف، من خلال التقرير الشهير الذي نشرته صحيفة "الصاندي تايمز" اللندنية، عام 1977، والذي احدث ضجة كبيرة.
وتوالت كتب لانغر، ومن أهمها (أولئك إخواني) و(من مفكرتي)، والتي لا يوجد غيرها مراجع لأي باحث في الوضع الفلسطيني بعد الاحتلال، خصوصا الحركة الأسيرة في سجون الاحتلال.
ورغم الشهرة التي حصدتها، وتحولها إلى شخصية مرموقة في إسرائيل وفلسطين، وعلى مستوى عالمي، فإن هذه المحامية التي انتمت إلى اليسار الشيوعي التقليدي (السوفيتي)، الذي أمن بحق إسرائيل بالوجود، وناضلت من اجل إسرائيل اشتراكية تعيش في سلام مع جيرانها، فإنها وصلت، في النهاية، إلى مفترق طرق، جعلها تقرر ترك إسرائيل، والعودة إلى موطنها ألمانيا. وفي عام 1990، كانت لانغر التي حسمت قرارها بمغادرة البلاد، تستقبل في مكتبها المتواضع، في 14 شارع كورش الذي لم تغيره، شابا، كانت تولت الدفاع عنه في المحاكم العسكرية عندما اعتقل وهو قاصر، وجاء ليودعها. كانت تصرفات المحاكم العسكرية الإسرائيلية تجاه المعتقلين الفلسطينيين، حيث الأحكام جاهزة في جوارير القضاة، خلقت قناعة لدى لانغر بأنه لم يعد هناك ما تفعله في هذه المحاكم، التي تفتقر كما قالت لأية عدالة، وانه لا يوجد أي أمل بإحداث تغيير، ولو كان متواضعاً. في ذلك اللقاء بدت فليتسيا لانغر، متحررة من كل أعباء وجودها السابق في إسرائيل، وتستعد للمغادرة بشكل نهائي إلى موطنها الأصلي ألمانيا، كان لديها قدر كبير من راحة الضمير، ومشاعر تقدير عالية تجاه "أولاد الفلسطينيين"-حسب تعبيرها- الذي طالما تولت الدفاع عنهم في محاكم الاحتلال، الذين، برأيها لم يستكينوا، برغم كل شيء، وكان يعز عليها وهي تغادر أن تفارق هؤلاء الأولاد، الذين كل بضعة سنوات يفاجئون العالم بانتفاضات متلاحقة.
لم تكن لانغر أول المثقفين الإسرائيليين الذين انشقوا عن مجتمعهم، وفقدوا الأمل بتغييره، ولا يتوقع أن يكون البروفيسور ايلان بابيه، الأكاديمي اللامع الذي قرر مغادرة إسرائيل نهائيا، هو آخرهم.
ولم يستغرب متابعو بابيه، قراره، فهو يحسب على زمرة المؤرخين الجدد في إسرائيل، وأكثرهم راديكالية، وهو صاحب نظرية التطهير العرقي ويعتبره السبب الذي يفسر عملية النزوح الكبيرة للفلسطينيين من بلادهم، واثبت بان العصابات الصهيونية اتخذت قرارا قبل اندلاع المعارك عام 1948، بتنفيذ عملية التطهير العرقي، وهو ما حدث لاحقا، وتدمير اكثر من 500 تجمع سكاني عربي ومسحها عن الوجود. وتعرض الرجل للفصل من جامعة حيفا التي يدرس فيها، لنشاطه الأكاديمي، ومن ضمنها إشرافه على رسائل علمية كشفت عن مجازر ارتكبتها العصابات الصهيونية عشية تأسيس الدولة العبرية، بحق الفلسطينيين.
وبرز بابيه كمشارك دائم في الندوات والمحاضرات التي تنظم في القرى والبلدات العربية في إسرائيل، وخلال ندواته، كان يعبر عن خشيته من ارتكاب المؤسسة الإسرائيلية نكبة جديدة، ان لم تبادر وتعترف بمسؤوليتها عن نكبة الفلسطينيين عام 1948، وانه بدون هذا الاعتراف لن يكون سلام. ولم تكن مواقف بابيه وكتاباته، لتعجب الاتجاه الطاغي لدى الرأي العام في إسرائيل، وتعرض للتحريض من قبل الجماعات اليمينية، وادرج اسمه، ضمن قائمة سوداء، وضعها ناشطون متطرفون من اليهود باعتباره عميلا للفلسطينيين.
وظهر اسمه وعنوانه الكامل ضمن قائمة سوداء أخرى أعدها اتباع الحاخام مئير كاهنا، باعتباره إحدى الشخصيات التي تهدد وجود دولة إسرائيل. وتم وصفه بالخائن وبانه والآخرين الذين ظهرت أسماؤهم في القائمة "لا يستحقون صفة يهودي". وفي اكثر من مناسبة كرر بابيه رأيه بأنه لا يوجد حل غير إقامة دولة ثنائية القومية، يعيش فيها العرب واليهود، بشكل متساو.
ولكن بابيه، وبعد تجربته الطويلة، مدافعا عن طروحاته، توصل إلى انه لن يكون بإمكانه مواصلة الاشتباك الفكري مع مجتمعه، الذي وصفه بالمجتمع العنصري، الذي يرفض مراجعة تاريخه، والاعتراف بجرائمه واقتنع بعدم وجود أية قواسم مشتركة بينه وغالبية المجتمع الذي يعيش فيه، خصوصا بعد الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان، وتفشي الأجواء العنصرية في إسرائيل، فقرر المغادرة إلى بريطانيا، والعمل في المؤسسات الأكاديمية، لمواصلة أبحاثه التاريخية التي ضاقت بها المؤسسة الأكاديمية الإسرائيلية.
واخر انجازات بابيه العلمية كتابه (التطهير العرقي في فلسطين)، الذي ستصدر ترجمته العربية عن "مؤسسة الدراسات الفلسطينية" في بيروت، وفي الوقت الذي يصدر فيه سيكون بابيه، في العاصمة البريطانية، ليبدأ حياة جديدة.
نموذج بابيه، كمثقف قرر الانشقاق عن مجتمعه الإسرائيلي، ليس كثير الحدوث، لكنه ليس نادرا، وفعلها مثقفون قبله، غادروا إسرائيل إلى غير رجعة، للأسباب ذاتها أو لاسباب شبيهة. لكن هناك نموذج متفرد بين المثقفين، ويكاد يكون نادرا، صاحبه الأديب سمير نقاش، الذي طاردته أسئلة الهوية منذ أن وطأت قدماه إسرائيل عام 1951، قادما مع عائلته من العراق، التي هاجر منه، وعمره 13 عاما.
لم يتمكن نقاش، نسيان هويته العربية العراقية، وقبول هويته الإسرائيلية، ولم يستطع أن يصبح مثل بعض زملائه كسامي ميخائيل، الذي غير اسمه ولغته، أو شمعون بلاص، وغيرهما. واصيب بحالة متأزمة من الشيزفروينيا، ولم يتصور نفسه إسرائيليا، رافضا التخلي عن هويته العربية، واختار الكتابة باللغة العربية، وكتب الحوار بين أبطال قصصه ورواياته باللهجة العراقية المغرقة في محليتها، إلى درجة أن بعض الباحثين يعتبرون أعماله الأدبية مرجعا لهذه اللهجة، خصوصا اللهجة البغدادية.
وتمسك بتعريف نفسه كيهودي عربي، وحاول الخروج مبكرا من إسرائيل، فوصل إلى لبنان، حيث سجن هناك، للشك بنواياه، وعندما أعيد إلى إسرائيل، سجن أيضا بتهمة التجسس، لكن هذا لم يثنه عن محاولات أخرى لاحقة، لم تكن ناجحة مثل محاولته العيش في مصر بعد أن وقعت اتفاق سلام مع إسرائيل. وفي النهاية نجح في الإقامة في لندن، وعمل في صحيفة عراقية معارضة، وبعد سقوط النظام العراقي السابق، عاد إلى إسرائيل مضطرا، بعد أن ضاقت به سبل العيش، وبشكل مؤقت لكنه توفي فيها في صيف 2004، ودفن فيها، وهو آخر ما كان يتمناه نقاش.
وفي شهر آذار (مارس) الماضي، رحلت وبشكل مفاجئ عالمة اللغويات تانيا راينهارت، في نيويورك، التي عاشت فيها بعد أن ضاقت بها الجامعات الإسرائيلية، لمواقفها المبدئية ضد الصهيونية، ودعوتها للجامعات العالمية لمقاطعة الجامعات الإسرائيلية.
وعرفت راينهارت، تلميذة نعوم تشومسكي بمواقفها غير القابلة للمساومة، حتى داخل ما يعرف بقوى اليسار الإسرائيلي، من رفضها لاتفاق أوسلو، إلى استهجانها لعملية اغتيال مؤسس حركة حماس، الشيخ احمد ياسين، الذي رأت فيه مناضلا من اجل حرية شعبه. واتخذت وزوجها الشاعر أهارون شبتاي، موقفا معاديا للحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان، وأبدت تأييدا واضحا للمقاومة اللبنانية، وكتب زوجها القصائد في رثاء ضحايا المجازر الإسرائيلية التي ارتكبت خلال الحرب.
ومنذ دراستها في جامعة تل أبيب، وعودتها إليها عام 1977، بعد حصولها على الدكتوراه بإشراف تشومسكي، رفضت راينهارت المشاركة فيما كانت تسميه اللعبة السياسية في إسرائيل، لان ذلك سيشكل انتقاصا من استقامتها الفكرية.
وفي إحدى مقابلاتها الصحافية عام 2006، في إسرائيل قبل قرارها المغادرة، قالت راينهارت "أجد صعوبة بالغة في مواصلة حياتي اليومية، بينما على بعد كيلومتر واحد مني يعاني أناس معاناة شديدة من القهر والجوع ويحاطون بالجنود والأسلاك الشائكة، لقد وصلت إلى نقطة لم أعد أحتمل هذا الأمر، ولذلك فأنا أفكر في مغادرة هذه البلاد".
ورحلت راينهارت آخر المنشقات عن إسرائيل، بعد عام من مغادرتها البلاد، التي يستعد ايلان بابيه الان لمغادرتها ليكون آخر المنشقين، حتى إشعار آخر.
المصدر: الشرق الأوسط
إضافة تعليق جديد