ماهي مقومات الهوية السورية ؟

03-09-2022

ماهي مقومات الهوية السورية ؟

1

سورية المتخيلة وطنياً اليوم غير سورية التاريخية التي شكلها الغزاة والتجار والحجاج، فتاريخ السلالات التي تدفقت فوق تضاريسها يفرقنا ويقسمنا ويؤخر دولة المواطنة والمساواة التي أرادها آباؤنا بعد الاستقلال.
فقد رسم المحتلون حدود سورية عبر تاريخها الطويل بحيث امتدت إلى فارس أيام الملك كورش، وإلى الهند أيام الإسكندر المقدوني، واتصلت بإرمينيا أيام الملك ديغران الكبير، مثلما اتصلت بروما أيام البيزنطيين، وبنجد والحجاز ومصر وشمال أفريقيا أيام الأمويين، وبالأناضول أيام العثمانيين... وهكذا كانت سورية الجغرافية تتمدد وتتقلص منذ عشرة آلاف عام حتى يومنا هذا بحسب سطوة حكامها وقوة جيوشهم وليس بحسب قوميتها أو دينها كما يزعم الإسلاميون والقوميون، لهذا فإن هويتنا التاريخية متغيرة وغير ثابتة مثل بقية البلدان العربية التي لاتمتلك هوية جمعية كما هو الحال في الصين والهند واليابان…
سؤال: ماهي مقومات الهوية السورية التي نسعى لأجلها اليوم؟ هل هي ماتقوله الأحزاب أم ما تفرضه السلطات الحاكمة، أم أنها شيء مختلف عن مزاعم القوى السياسية ؟


2

الواقع أن الحرب أيقظتنا على تناقض مرجعياتنا التاريخية وخطأ مقولة مشيئة التاريخ المشترك، فلم تكن سورية في الماضي دولة بقدر ماكانت ممالك مدن متصارعة تغزو وتحتل بعضها، ولم تتوحد يوماً إلا تحت قوة الاحتلال، وقد نلاحظ بقايا ذلك في العصبيات المناطقية، وفي اختلاف الأغاني واللباس الفولكلوري بين سكان الأقاليم، وفي اختلاف المطبخ الحلبي عن الشامي والساحلي عن الجزراوي والحوراني عن الحسكاوي، فنحن سوريون بثقافات وتقاليد فولكلورية متعددة بتعدد هجرات الأقوام إلى بلاد الشام، وكل محاولة دينية أو عرقية لتوحيدنا تحمل نقيضها يداخلها. ولنا عظة في أوروبا التي كانت تتصارع ممالكها ومذاهبها المسيحية، قبل أن تتخلى عن هوياتها الدينية وتتبنى هويات قومية منتصف القرن التاسع عشر، ومن ثم تبنت هوية أوروبية موحدة وتم نقل صلاحيات الدول القومية إلى المؤسسات الدولية الأوروبية حيث اكتمل الإتحاد عام 2013
فالجغرافيا واللغة وقوة النظام السياسي والمصلحة الإقتصادية المشتركة والمساواة هي مايشكل الهويات المعاصرة بخلاف الهويات السلفية القومية والدينية التي لم تعد موجودة سوى في الدول التي تعاني مانعانيه من مشاكل، لهذا يمكن القول إن وصفة المواطنة التي عمل عليها آباء الاستقلال هي الأفضل، مع الاعتراف ببدء تراجع أهمية اللغة العربية، حيث لن يستطيع أي مواطن بعد اليوم الانخراط في العمل والحداثة من دون استخدام اللغة الإنكليزية التي تستعمر ألسنة وتكنولوجيا العالم…


3

يحمل المواطن السوري بطاقة هوية واحدة في جيبه وهويات متعددة في رأسه، فهناك الهوية القومية والهوية الدينية والهوية المذهبية، ونضيف الهوية القبلية والهوية العشائرية لسكان البوادي والأرياف، مضافاً إليها الهوية المناطقية، والهوية الحزبية، والهوية الحِرفية التي تتكنى بها الكثير من العائلات السورية، مع التنويه إلى اختلاط هذه الهويات بفعل التزاوج عبر آلاف السنين لتمهد لنوع علماني جديد يحمل في جيبه ورأسه هوية المواطنة التي أقام مؤسساتها آخر مستعمري سورية الفرنسيون، مثلما أوجد المحتلون الغابرون هويات متسلسلة فينا، ذلك أن الطفل يأخذ سمة أبيه الذي أخذ أمه حباً أو كرهاً، وهذا أمر ينسحب على سائر مجتمعات الدول العربية بلا استثناء.
وبما أن الهوية منتج متبدل عبر العصور البشرية ومواكبة للقوة السياسية والاقتصادية والثقافية فقد بدأت الهويات العالمية في الألفية الثالثة بالتخلي عن مقوماتها العرقية والدينية، حيث يمحو الاقتصاد والثقافة والعملة الإلكترونية حدود الدول السياسية لتغدو المنفعة المشتركة بين السكان هي ما يوحد وتضارب المصالح والتنافس هو ما يفرق، بغض النظر عن الصراع السياسي بين الدول، حيث نلاحظ كيف يُقبل الأثرياء العرب كما أثرياء العالم وسياسيوه على التعاون مع الإسرائيليين، رغم الأحقاد الدينية والقومية والسياسية معهم، وبخلاف وصية السيد المسيح الذي طرد كهنة اليهود من المعبد فنحن اليوم بتنا نعبد ربَّين: الله والمال!


4

إذاً فهوية المجتمع تخضع أيضاً لمتغيرات الزمن: تولد وتشب وتشيخ وتموت مخلفة وراءها هويات جديدة، وماقاله الأرسوزي وعفلق وسعادة وعبدالناصر ومصطفى السباعي عن الهوية قبل عقود طرأ عليه الكثير من المتغيرات، كما حصل مع غيرنا في دول أوروبا وأفريقيا وآسيا، ولأن الحكام العرب لم يهتموا برصد متغيرات الهوية الوطنية، مطمئنين إلى هيمنة مؤسساتهم الأمنية، فإن عصبيات شعوبهم اصطدمت ببعضها وتنازعت على هوياتها التي تنتمي إلى مقابرها، حيث انقسمت شعوب السودان والعراق واليمن وسورية ولبنان على نفسها قومياً ودينياً ومذهبياً وسياسياً وعسكرياً وثقافياً وجغرافياً، بينما شكل العلمانيون وحدة متجانسة ومتشابهة على امتداد الجغرافيا العربية. وفي سورية رأينا كيف أن العلمانيين وقفوا مع الجيش الذي يمثل مجمل الأطياف السورية بينما الذين تمردوا على الدولة كانوا من أتباع الهويات الإثنية والمذهبية، وسينقسم المقسم لاحقاً إذا لم ترصد السياسات العربية طموحات ومصالح شعوبها، إذ بدأت الهويات المعاصرة بالتحرر من مرجعياتها التاريخية التي تعرقل مصالحها وتهدد حياتها أكثر مما تحميها..


5

شكل عداء السوريين لإسرائيل خلال قرن مضى جزءاً من هويتهم الوطنية، مثلما أن عداء الإسرائيليين للعرب يشكل جزءاً من هويتهم وكل كيانهم، وهي بقايا إرث الهويات القومية والدينية الذي أعادت اليهودية السياسية إيقاظه في المنطقة، غير أن المصالح بدأت تظهر رأسها، رغم إرث الدم وظلم الاحتلال خلال قرن مضى، حتى أن المعارضات السورية على اختلافها لم تجد حرجاً في طلب وقبول الدعم الإسرائيلي لها وإعطاء وعود السلام معها إن هم فازوا! وهذا دليل على اهتزاز مفهوم الهوية الوطنية لدى قسم من السوريين، وهو أمر يستدعي إطلاق مراكز دراسات ترعاها مؤسسة للأمن الثقافي الوطني، لأن هذه المعارضات سوف تُفرض مستقبلاً كشريك سياسي، وسنذهب غداً إلى حيث وصل العراقيون اليوم بسبب تغير المفهوم الهوياتي عما كان عليه الأمر أيام حكم البعث.
يجب تخليص الصراع السوري الإسرائيلي من بُعده الديني والقومي والتعامل معه كقضية احتلال وحقوق شعب، لأن استدعاء الأحقاد التاريخية ضد اليهود سيوقظ مثيلها بين مذاهب الدين الإسلامي وهذا مايحصل اليوم !! يجب تصحيح مفهوم الصراع وتذكير الشعب بأن الكيان الإسرائيلي هو مشروع استعماري متقدم وليست عداوة تاريخية. وبالطبع فإن الهوية الإسرائيلية خاضعة لنفس القوانين التي تحكمنا من حيث أنها مازالت تعتمد اليهودية كدين وقومية، ولولا دعم اللوبي اليهودي في دول العالم لما استمر كيانها المتخيل والمبني على الأساطير التوراتية، فهي أيضا تحمل نقيضها بداخلها(وهذا مبحث آخر قد نفصل فيه)..


6

من ضمن ماكان يستدعيه القوميون والإسلاميون السوريون لتأكيد مقومات هويتهم العربية أو الإسلامية هو الاستشهاد بالانتصارات التاريخية ضد الفرس والروم، بينما الواقع أن هؤلاء الأعداء، بعد خسارتهم الحرب، قد شارك علماؤهم وحرفيوهم وتجارهم في قيام الإمبراطورية الإسلامية وتشكيل جزء من هويتها، ذلك أن الثقافة والاقتصاد هما مايغذيان هوية الأمة وماعدا ذلك يبقى مجرد تخيلات شبحية تتسبب في قلق الهوية وعرقلة نموها.. فالهوية تموت وتنقرض إذا لم تتطور، وكم من هويات ذابت في غيرها وتلاشت.. وكذا مصير الهوية السورية إذا استمرت بإعادة إنتاج نسخها السابقة بأسماء مختلفة، ومن النكران لسوريتنا أن نزعم أننا عرب أو أكراد أو تركمان أو أننا شيعة أو سنة أومسيحيين، فأرضنا وحلمنا السوري المشترك هو مايجب أن يشكل هويتنا المستقبلية، وعلى مؤسسات الدولة أن تعي أن مقومات الهوية الوطنية الجديدة يجب أن تقوم على أساس الحماية والرعاية والمنفعة المشتركة والمتساوية بين أبناء الوطن، وليس على أساس العصبيات القومية والدينية والمذهبية التي فرغت ديمقراطيتنا وعرقلت تقدمنا وأضعفت هويتنا وعدالتنا وليرتنا، بحيث بات غالبيتنا يحملون حقائبهم ويغادرون الوطن بلا ندم كما لو أنه فندق قديم متداعٍ، بلا كهرباء أو ماء أو غذاء، يديره موظفو الحزب وخدم اقتصاد البقشيش .. ولايبقى من هويتهم سوى منديل أمي ومسبحة والدي وقطرميز المكدوس وكيس الشنكليش في حقيبة السفر، كي لاتغادرنا رائحة الوطن ياخديجة...

نبيل صالح

التعليقات

اخي في الانسانية الاستاذ نبيل، تحية طيبة و بعد
تعقيباً على مقالتك الرائعة و المستفيضة عن حالنا كسوريين،
مع اتفاقي التام مع رؤيتك و مقاربتك لوضع سورية و شعبها و لكنني للأسف فقدت الأمل، انا شاب سوري مازلت اعيش في سورية و لكن طبيعة عملي تفرض عليي مغادرة البلد في كل سنة لعدد لا بأس فيه من الأشهر و العودة و لكن مع الأسف في كل مرة اعود بها الى وطني الحبيب تصيبني الصدمة من ما أرى، و لست أتكلم هنا عن الحال المعيشي السيئ جداً للناس و لكنني اتكلم عن مدى التغيير السلبي الكبير الحاصل على عقلية الناس جميعا، و لذلك التغيير يوجد مبرر و هو الفقر و الحالة السيئة جدا و لكن ما قصدت هنا و انا اقرأ و استمتع بمقالتك عن ماهو التغيير او كيفية التغيير التي نتكلم عنها و نحن نفقد يوميا انسانيتنا و القدرة على التفكير، صدقاٍ لا ارى اي أمل في المستقبل القريب او البعيد حتى.

تحياتي
سامي

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...