الحكايات القاتلة
تشكل الحكايات السلفية المتوارثة مجمل هويات الجماعات والأفراد في بلداننا العربية، والمشكلة فيها أن ثقافة النقل الحفظية في المناهج المدرسية ومواعظ رجال الدين الذين يملأون المحطات والإذاعات لاتحرض المتلقي على إعادة التفكير في هذه الحكايات وتخليصها من أبعادها الأسطورية وتلفيقاتها السياسية أو الدينية التي أضيفت إليها عبر التاريخ، بل وقد تعاقبه بالحذف إن فعل، وبالتالي فإنها تعمل على إعادة إنتاج الأنساق الثقافية السلفية التي أفرزت لنا كل هذه الطوائف والإثنيات المتنافرة فيما بينها حتى ليمكن القول أننا مازلنا نعيش تحت سقيفة بني ساعدة وعلى أرض معركة ذي قار وعين جالوت، حيث الحكايات مازالت تجمعنا ثم تفرقنا عن بعضنا كما تقصينا عن العيش في زمننا الحاضر !!
فمازالت الحكايات والأساطير المؤسسة تشكل وسم العائلة والعشيرة والطائفة حيث ينشأ الفرد في ظلها وتحت سطوتها، وهي في أغلبها حكايات فخر واعتزاز وألم وكراهية ، بحيث يمكن القول أن الفرد الناطق بالعربية هو مجمل حكاياته النقلية التي توحده مع جماعته وتفرقه عن الجماعات الأخرى برواياتها المختلفة ..
ففي أوقات السلم والوفرة وسطوة السلطة تظهر حكايات المحبة والألفة بين المجموعات الدينية والعرقية والمناطقية ، حيث يأخذ النفاق الاجتماعي طابعا إيجابيا، وتغدو كما تغني فيروز (بلد الحكايات المبنية عالمجد والألفة)، أما في حالات الخوف والشح وضعف السلطات فإنها تستدعي حكايات هولوكوستها التاريخي الخاص بها ، حيث يلعب الرواة دورا سلبيا في المجتمع حتى ليمكن وصف سردياتهم المتلاعب بها جيلا بعد جيل بالحكايات القاتلة التي تغذي ماتحتاجه الحروب الأهلية من شحنات عدوانية، ويمكننا أن نتذكر ماكان يفعله معاوية بن أبي سفيان، مؤسس الدولة الأموية في دمشق، حين كانت تظهر قوة عشائر القيسية أواليمانية على قوته فيضربهما ببعضهما مستدعيا حكايات الثأر والحزازات القديمة بينهما قبل الإسلام، حيث قتل القيسية واليمانية من بعضهما في إحدى معاركهما بضاحية "المزة" الواقعة على تخوم دمشق ثمانية آلاف مسلم في شهر واحد، ومازال الأمر يتكرر عبر العصور والأزمنة وصولا إلى حروب لبنان وسورية والعراق وليبيا واليمن الداخلية، فقد شكلت الحكايات لهيب الصراع الطائفي والإثني والطبقي لصالح السياسي، ذلك أن العرب يموتون ولكن ألغام حكاياتهم تبقى راقدة في تراب الذاكرة إلى أن يتلقفها رجال السياسة في السلطة والمعارضة وشرعيوهم المتصلون بالرب من دون أوراق اعتماد، فيعيدون صياغتها وتفجيرها بين الناس..
فرواة السلطات ومعارضيها جاهزون دائما للتلاعب بالسرديات وإعادة إطلاقها في إصدارات جديد، حتى ليمكننا أن نتخيل الحكايات وقد خرجت من أفواه الناس كرصاص قاتل بين الجماعات، أو كقُبل محبة بين أفراد الجماعة الواحدة المتحدة بسردياتها، ولطالما قرَّب الحكام العرب الرواة والشعراء والخطباء وملؤوا فمهم بالدرّ مثلما تفعل سلطاتنا العربية اليوم حيث تقرب المثقفين والفنانين الذين يجمّلون صورتهم ويضخمون حكايات مجدهم في الصحف والمحطات وعلى الشاشات، وكذا تفعل قيادات المعارضة بالمثقفين والفنانين المناوئين ولا تعدم أن تجد من يمولها خارجيا، فلكل حاكم عربي أعداء يرغبون بإزاحته ويمولون أقلام معارضيه وألسنتهم للتلاعب بوعي الجماهير، حيث يكثر التلفيق وتنمو الأكاذيب المؤيدة والأكاذيب المعارضة إلى حدود اللامعقول، كما نرى في المحطات والمنصات العربية المأجورة، حيث تتراكم التلفيقات والأكاذيب مع الزمن إلى أن يغرق عموم الناس في لجتها وتقذفهم أمواجها المتلاطمة خارج حدود الأمان والأوطان، حاملين معهم حكاياتهم كقوقعة تمنعهم من الخروج والإندماج في مجتمعاتهم الجديدة التي تستقبلهم حكوماتها باسم الإنسانية، رغم معرفتها بعدم قدرتهم على التحرر من حكاياتهم وأصنامهم القديمة وفشلهم في التأقلم والإندماج، فهي تعمل على رعايتهم واحتضانهم للإنتفاع بأولادهم الذين ستربيهم على ثقافة المواطنة وتوفر تربة خصبة لنمو أشجارهم ونضوج ثمارهم لتشكل بعضاً من قوة الدول الحاضنة التي تأخذ فيها المؤسسات الإجتماعية دور العشيرة والطائفة والجماعة فلا يعود الناس بحاجة إلى قواقع تحميهم وتبطئ من تقدمهم نحو المستقبل..
ففي خمسينيات وستينيات القرن الماضي كانت شعوبنا الناطقة بالعربية مهيأة للحداثة ومنافسة مستعمريها السابقين فيما تعلموه منهم في مجالات التعليم والإدارة والمواطنة، وكانوا جاهزين للتخلي عن حكاياتهم السلفية، الدينية والقومية، التي تعرقل تحقق دولة المواطنة، فخرجت من بينهم موجات من الروائيين والمسرحيين والقصاصين وشعراء الحداثة، وكان جيل الستينات مؤهلا للدخول في واحة المواطنة، غير أن التحدي السياسي والعسكري الذي أوجده قيام الكيان الإسرائيلي المبني على الأساطير التوراتية ، استدعى وجود مقابل لها في الجانب المعتدى عليه، حيث تم استعادة حكايات الكراهية بين المسلمين واليهود، واستدعى القوميون والإسلاميون العرب سردياتهم السلفية لمواجهة روايات الصهاينة وأساطيرهم السلفية، وبات كلا الطرفين يتغنى بحكايات الماضي المجيد والتليد، حيث نلاحظ كيف أن كلا الخصمين، اليهودي والعربي، قد شكل أحدهما وجه الآخر خلال سبعة عقود من الصراع بين السرديات الإسرائيلية والسرديات العربية، وعرقل بذلك ثقافة الحداثة والمواطنة، وارتدت الحكايات السلفية على مجتمعاتها المستنجدة بها، حيث يعاني المجتمع الإسرائيلي بدوره كما تعاني مجتمعاتنا، مع فارق أن الكيان الإسرائيلي هو المجرم الذي شكل ردود فعل الضحية، فلم يتمكن الإسرائيليون ولا العرب من خلق نموذج دولة علمانية بعد، رغم الحداثة التكنولوجية التي انتشرت بين الفريقين، لتبقى الحكايات هي الموجه الأساسي في الصراع ، فلم يربحا حربهما كما لم ينجزا سلامهما حتى الآن ..
بالمقابل ننظر إلى الولايات المتحدة الأمريكية، المؤلفة من مجموعات عرقية كثيرة نسيت لغاتها وحكاياتها القديمة، باستثناء فولكلورها التراثي، لتأتي هوليود برواتها وكتابها وفنانيها ومخرجيها وتعمل على رواية وإنتاج حكاياتها الجديدة تحت شعار "الحلم الأمريكي" حيث تمكنت من تسويق ثقافة أمريكية جديدة لتملأ فراغ مجتمعات متخففة من ذاكرتها العتيقة، ومن ثم في مرحلة لاحقة تعدت مرحلة تثقيف الشعب الأمريكي وبرمجته على منطق أن القوة هي العدالة، لتروي حكايات الشعوب الأخرى من وجهة نظرها، حيث زيفت كل الروايات والتواريخ وصنعّت للعالم تاريخا افتراضيا سيغدو واقعيا مع مرور الزمن!
وعلى أي حال ستبقى الحكايات السلفية للمجموعات العربية مهيمنة على العلاقات الاجتماعية ومعرقلا لتشكل ثقافة المواطنة، إلى أن يتمكن المؤرخون الجدد من تفكيك كل الروايات والأساطير وفرز الحقيقي منها عن المتخيل ونزع الصواعق من ألغامها، وهذا مايحصل منذ ثمانينيات القرن الماضي، لولا أن أعمالهم المتفاوتة في أهميتها ماتزال عملة تقتصر على المثقفين يتداولونها فيما بينهم ولم تنتشر بعد بين عموم الناس، لذلك ماتزال الحكايات تفرقنا أكثر مما تجمعنا، وتقتلنا بدل أن تحيينا . يقول هيغل: "إذا لم يناسب الواقع مفهومنا فهذا أمر سيء جدا بالنسبة للواقع".. وبالنسبة لنا نحن العرب يمكننا استبدال كلمة (مفهومنا) ب (حكاياتنا) لكي يستقيم المعنى..
نبيل صالح: منصة مجتمع
إضافة تعليق جديد