فلسفة مارتن هايدغر
زكريا إبراهيم:
- أراد هايدغر بكتاب "الوجود والزمان" أن يكفل لعلم الوجود دعامة متينة راسخة. ولئن كان هايدغر يريد أن يفهم الوجود بصفة عامة، إلا أنه يرى في كينونة الموجود البشري سبيلاً مشروعاً لفهم حقيقة الوجود بشكل عام. يعني أنه عن طريق فهمنا لحقيقة الكينونة البشرية نستطيع أن نفهم حقيقة هذا الوجود. ومعنى هذا أن الإنسان لا يهم الأنطولوجيا من حيث هو إنسان، بل من حيث هو الكائن الذي من خلاله ينكشف معنى الوجود. وإذن فليس يكفي أن نقول أن الإنسان هو الموجود الذي يفهم الوجود، بل نقول أن فهم الإنسان للوجود هو في حد ذاته وجود، بمعنى أنه ليس صفة أو نعتاً للإنسان، بل هو أسلوبه في الكينونة.
- والواقع أن الوجود لا ينكشف الإنسان منذ البداية على صورة موضوع يتأمله، بل بوصفه ( توتراً أو هماً )، فالإنسان هو الموجود الوحيد الذي لا ينفصل وجوده عن الاهتمام بهذا الوجود. وحينما يقول هايدغر أن الإنسان ( موجود في العالم ) فلا يعني أنه موجود وجوداً مكانياً، على نحو ما يوجد الكرسي في الغرفة مثلاً، بل ثمة علاقة تربط الإنسان والعالم، وهي علاقة وجودية قوامها الشعور بالاهتمام. وهذه العلاقة هي الأصل في مفهوم "العالم". وعلى أساس ذلك يقرر هايدغر أن كل المناقشات الفلسفية التي دارت حول وجود العالم الخارجي إنما هي مجرد لغو فارغ، إذ لا يمكن أن يكون ثمة وجود بشري إلا في حال ارتباط الذات ارتباطاً جوهرياً بحقيقة خارجية هي "العالم".
- وبالمقابل فإن الإنسان يجد نفسه في هذا العالم محاطاً بموجودات بشرية مثله، ومن ذلك فإن "الوجود مع الآخر" هو المقوِّم الثاني من مقومات الوجود الإنساني. ولكن في الواقع فإن إنسان العصر الحديث - فيما يقول هايدغر - أصبح يعيش حالة جماعية زائفة، لأنه اتخذ من الوجود مع الآخر ذريعة للتخلي عن وجوده الخاص، فلم يعد وجود سوى انغماس في عالم الجمهور. وهنا يفرق هايدغر بين نوعين من الوجود البشري : وجود أصيل ووجود زائف.
وأما الوجود الأصيل فهو ذاك الوجود الحقيقي الذي تشعر معه الذات أنها قائمة بنفسها، ومسؤولة عن ذاتها. أما الوجود
الزائف فهو ذلك الوجود العيني الذي تهبط فيه الذات إلى مستوى الموضوع، فتميل للانغماس في المجموع، تهرباً من المسؤولية، وللتخلص من الشعور بالقلق.
وهكذا يبدو أن هايدغر للوهلة الأولى يمجِّد النزعة الفردية، لكننا نجده فيما بعد يعتبر الوجود مع الآخر ضرورة، وكأنه يدعو الكائن البشري للتوسط، فلا يخسر ذاته وحريته، ولا يرفع عنها المسؤولية، ولا يحيا دون حرية ومسؤولية في عالم القطيع. وهذا فعلاً ما نجده اليوم في المؤسسات الدينية والسياسية والاجتماعية والثقافية التي تدعو الإنسان نحو الانغماس في المجموع ومصير المجموع وحرية المجموع، لتُترَك لها وحدها حرية التصرف والقرار، ما يجعل الإنسان المنتمي لهذه المؤسسات كائناً فارغاً لا حرية له ولا قرار ولا مسؤولية، وهنا لا يجد نفسه إلا أسيراً
إضافة تعليق جديد