مستقبل الحوار الإسلامي- المسيحي
يهدف دعاة الحوار، من مسلمين ومسيحيين، في الوقت الحاضر، وهم يتناولون القضايا المهمة الراهنة، إلى تأسيس أرضية معرفية لحوار علمي أوضح منهجاً، وتواصل ثقافي أكبر فائدة، يُخرج الفكر من الصراع إلى التحاور والاعتراف بحق الآخر في التعبير عن رأيه، وينضج الخلاف ليغدو اختلافاً يرفد الفكر بالتنوع والرؤى المتكاملة. ويرمي الحوار إلى كسر الحواجز بين التيارات الفكرية المتعددة، وإلغاء احتكارات المعرفة، وتعويد العقل على الحوار وقبول الآخر، والاستماع لوجهة نظره ومناقشته فيها.
تبحث حوارية «مستقبل الحوار الإسلامي – المسيحي» (د. أحميدة النيفر– الأب الدكتور موريس بورمانس، دار الفكر، دمشق، ط1) في الإشكالات التي واجهت، ولا تزال، الحوار الإسلامي المسيحي من الأحكام المسبقة عن الدينين، والاتهامات المتبادلة بين الطرفين، المنبعثة من الاعتقادات الخاطئة والفهوم المغلوطة. فيبحث الكاتبان، المنتميان إلى تيارين متباينين، في طبيعة الحوار وأهميته وفوائده، والعوائق والعقبات التي تقف في سبيله، وآفاق استمراره وتطويره.
يفتتح النيفر بحثه بالتساؤل عن أهداف الحوار بين المسلمين والمسيحيين وفائدته، ويحاول تقديم الإجابة من خلال بحثه في جدارة المسلمين اليوم في الحوار. وينحي باللائمة على تراجع نتائج هذا الحوار وأهميته بين الطرفين على «الطرف المسلم»، «الذي اعتمد في مقاربته للحوار مع الطرف المسيحي على «خطاب دفاعي تختلف درجة عاطفته المنافحة عن الإسلام من باحث إلى آخر، إلا أنه في الغالب يجعل عموم الباحثين المسلمين في سياق من يريد إفحام الخصم». مما يثير، في نظر النيفر، خيبة أمل كبيرة «ذلك أنه خطاب فات زمانه، وهو عندما يستعمل اليوم يضيع على المسلمين الفرصة في أن تكون لهم مكانة الفعل في العالم». ويرى النيفر أن «معضلة هذا القصور في الخطاب الإسلامي الراهن تكمن في عدم إمكان كشفه وانحساره من دون مواجهة نقدية كالتي يوفرها الحوار مع الآخر المسيحي». ويوضح مخاطر التوقف عن الحوار والمتمثلة في تكرار إنتاج الخطاب نفسه بصورة تزداد حدتها طرداً مع ازدياد الضغوط والعثرات. وبالتالي «يكون حوار المسلمين مع المسيحيين في ظاهره حواراً مع الآخر، لكنه في العمق حوار مع الذات، قصد امتلاك آلية نقدية تؤهل ثقافة المجتمع لإنتاج قيمي متناسب مع مقتضيات العصر في المستويات المادية والعقلية والروحية».
ويشير النيفر إلى أن معالجة الحوار في الطرف المسلم تعتمد إحدى قراءتين: فهي إما أن تكون قراءة رافضة للحوار باقتصارها على مبدأ التحريف الذي وقع فيه النصارى بحسب النص القرآني. أو أن تكون قراءة مقبلة على الحوار في نزعة دعوية آملة في أن يفضي إلى «هداية» الطرف الآخر على اعتبار أن الإسلام هو دين الفطرة. في الوقت الذي كان من المفترض فيه، بحسب وجهة نظر النيفر، أن يتبع الطرف المسلم المقولة القرآنية التي تمثلها عبارة «كلمة سواء»، في حين أن الطرف المسيحي قد قطع شوطاً كبيراً في الحوار خلال تمثل القيم الدينية للمسلمين.
ثم يتطرق «النيفر» لموضوع النخب المثقفة والحاكمة في علاقتها بالحوار بأبعاده المختلفة، فيرى أن «مأساة النخب»، تحديثية كانت أم أصولية، ليست في المشاريع التي تبشر بها، ولكن في تماثل القاع الثقافي الذي تستند إليه، «قاع رافض للحوار، منتج للتمزق، وحائل دون الاستقلال الثقافي والسياسي». إلا أنه لا ينكر أثر عوامل أخرى في إبطاء عملية الحوار كالنزاعات التي وقعت بين الطرفين عبر التاريخ، وانخراط الطرف المسلم في العصر الحديث في معركة التحرر والاستقلال. ومع ملاحظة ذلك، يشيد بالجو المغاربي للحوار وتمتعه بمستوى أقل من الحساسية تجاه الأزمات التاريخية، «لقلة الجاليات المسيحية التي تعيش فيه، وانفتاحه الأكبر على الآخر عبر الهجرة إلى أوروبا»، متحدثاً عن تجربته الشخصية في الحوار الإسلامي المسيحي خلال «فريق البحث الإسلامي المسيحي» عارضاً لأهم منجزاتهم ومؤتمراتهم ومنشوراتهم.
ويقدم «النيفر» بعد ذلك مداخلة خاصة في سبيل تقريب أسس الحوار بين المسلمين والمسيحيين، فيعرض قراءة لشخصية النبي عيسى، عليه السلام، قائمة على مراعاة المنطق الداخلي للبنية القرآنية، من دون نسيان ضرورة إجراء ما تستلزمه تلك البنية من مراجعات لما وقع إرساؤه في القراءة التقليدية للموضوع نفسه، في ظل ندرة الدراسات الإسلامية حول هذا الموضوع بالذات. فقد ذهب «النيفر» في قراءته إلى أن شخصية عيسى القرآنية ماثلة في ثلاثة مجالات، يرتبط كل منها بمحور معين، كما يكوّن كل مجال مع المجالين الآخرين نسقاً واحداً تتحدد خلاله المنظومة الروحية والعقائدية المميزة للخطاب القرآني، أول هذه المجالات «يتجلى فيه السيد المسيح على الصعيد التاريخي المباشر، إذ يظهر في علاقته بخصوم من اليهود الرافضين لدعوته والطاعنين في صدق والدته، هذا من جهة، كما يبرز عيسى من جهة ثانية في تلك الساحة نفسها ضمن العلاقة بمن كان من أتباعه قد قاموا بالتبديل والتغيير في دعوته». في هذا السياق، يبرز حضور عيسى عليه السلام «ضمن صراع عقدي مزدوج تغذيه تناقضات تاريخية مختلفة يعمل النص القرآني على تجاوزها عبر نقطة الارتكاز التي تؤول إليها كل خطوط هذا المجال الأول، وهي عبارة الحق».
ويتصل المجال الثاني بولادة المسيح ومعجزاته، ثم بوفاته، ويتعلق بالجانب العجائبي من حياته وفي مواقف خاصة من دعوته. ضمن هذا المجال «تبرز الفاعلية الإلهية في سياق الأحداث، تخترقها لتصوغ منها ما يسميه القرآن دفع الله». أما المجال الثالث، فهو الذي يستعرض فيه القرآن مجموعة من الرسل السابقين والذين كانوا مع عيسى عليه السلام بمثابة التمهيد لظهور الرسالة الخاتمة. ويرتكز هذا المجال الرسالي على مفهوم «الرحمة»، تلك القيمة التي تحدد طبيعة علاقة الله بالعالم والناس، ليخلص النيفر إلى عدّ شخصية السيد المسيح في الخطاب القرآني «جزءاً أساسياً من البنية القرآنية العقدية، ومن بعدها الروحي، ومن تفسيرها للتاريخ الديني والإنساني».
ويختتم «النيفر» بحثه ببيان أن المقصود من متابعة الفهم والإنصات ليس القياس على ما يتحقق لدى المسيحيين، إنما الغاية إحداث ترابط بين الفهم الداخلي للموضوع وضرورة المراجعات التي يقتضيها وبين رديفه المتعلق بالفهم المسيحي، قصد التمكن من خصوصيات الفكر الديني المشترك ووجهته وما يمليه من معالجات ضمن المجال الديني الخاص، بحيث «تصبح خصوصيات الفكر المسيحي القديمة والحديثة مكسباً معرفياً ودينياً».
ويتحدث الأب بورمانس في مفتتح بحثه عن دعوة المجمع الكنسي الكاثوليكي للحوار مع الديانات الأخرى وخاصة المسلمين، فيرى أن الحوار ضرورة ملحة «تتطلبها ظروف عالمنا المتغير والمتجدد، من جراء تحديات الحداثة والعولمة وكثرة التبادلات الثقافية والتقنية»، فقد أضحى الحوار الإطار العام لجميع اللقاءات بين البشر وخاصة بين المؤمنين. ويستعرض تاريخ الحوار بين المسيحيين والمسلمين منذ أربعين سنة، مبدياً ملاحظاته عليها، «إذ لم تكن تلك اللقاءات تبحث في العلاقات بين المسيحيين والمسلمين إلا على المستوى الحضاري أو التاريخي أو الثقافي أو السياسي». ويرى الحاجة ماسة إلى نوع خاص من اللقاءات ذات الطابع غير النخبوي «يشترك فيها مؤمنون من كلتا الديانتين الكبيرتين، تحدوهم رغبة في التعبير عن إيمانهم الأصيل وتجربتهم الدينية، ويدفعهم شوق إلى الاستفادة مما لدى الطرف المقابل من إخلاص في الإيمان وصدق في ممارسة الدين ووفاء لسننه وقواعده».
بعد ذلك يعرض بورمانس لموقف المسيحي الملتزم في الحوار مع المسلمين والذي يجد فيه سنة ممعنة في القدم تعود إلى السيد المسيح نفسه، فالحوار، من وجهة نظره، هو وجه من وجوه التعاون الإنساني الضروري تجاه التقدم والازدهار في المجتمع البشري. ولا ينسى أن يسوق من النصوص الكنسية والإنجيلية ما يدعم وجهة نظر الكنيسة الكاثوليكية بالذات في سعيها للحوار مع أتباع الديانات الأخرى، وبخاصة المسلمين. ويلح بورمانس على مواطن التلاقي الممكن في ما يعيشه المسيحيون والمسلمون وما يعانونه، وما يبينونه، ويحدد المجال التصوفي كساحة مهمة في هذا الصدد لتحقيق الإثراء الروحي بين الطرفين المتحاورين. ويعرض بورمانس للصعوبات الموضوعية التي يراها عوائق في سبيل التلاقي والتفاهم، متمثلة «أولاً في مشكلة المحرمات الغذائية والشرابية لدى الطرفين»، وهنا يدعو إلى أن يحترم كل واحد الآخر في قراره الخاص والحر، وثانياً في الزواجات المختلطة بين المسلمين والمسيحيين والتي تستوجب ضرورة إعادة النظر في القوانين التي تضر بها» وثالثاً واجب الدعوة والتبشير، والذي طالب بخصوصه كلا الطرفين أن يوضحا الطرائق والوسائل والأهداف لجهودهما، تجنباً لوقوع الصدام بينهما. أما أخطر المشاكل في هذه الآونة، من وجهة نظره، فهو «سوء الفهم الذي ازداد عمقاً بين المجتمعات الإسلامية، وبالأخص منها العربية، والدول الغربية المتقدمة».
هشام منور
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد