موجة انتحار في أوروبا
هناك شبح يجوب أوروبا (خصوصاً فرنسا) اسمه الانتحار. مع الاعتذار لهذا الاقتباس عن كارل ماركس، لكن الأزمة الاقتصادية العالمية، وقد ذكّرت كثيراً من المعاصرين بكتابات ماركس، لها ثمن قاسٍ. لا يتّصل هذا الأمر بالاستقلالية المالية لدول مثل إيطاليا واليونان وإسبانيا، ولا بمصائر مؤسسات الاقتصاد، ولا حتى بمسألة اليورو الذي ثبت أن له من يحميه بشراسة. ليس الكلام عن الاقتصاد. إنه حديث عن ثمن مسكوت عنه إلى حدٍّ كبير: البشر. ربما لا يصعب على الحسّ البديهي العام أن يربط بين أزمة اقتصادية كبرى تطحن ملايين البشر في دول كثيرة، وبين الانتحار. لكن تناول هذه البديهة من زاوية علمية، ليس بالسهولة التي تظهر بها. ثمة شواهد غير بعيدة زمنياً من المستطاع الاستفادة منها.
لقد حدث ارتفاع في نِسَب الانتحار إبان أزمة الاقتصاد العالمي في ثلاثينيات القرن الماضي، قبل الحرب العالمية الثانية. في علم النفس، ليست المسافة بين الانتحار والقتل بعيدة جداً. ربما يقال إن القتل هو «انتحار» متجبّر وعدواني، يأتي من يد الآخر. بمعنى ما، هناك استبدال عدواني لقتل النفس انتحاراً، برمي العنف على الآخر والانقضاض على حياته.
في هذا المعنى، يبدو الكائن الإنساني وحشاً منفلتاً. تنقلب عليه غريزة حب البقاء، إذ تحضه على الانتحار. لكنه يقلِب المعادلة في الاتجاه المعاكس. وبعدوانية دموية، يجعل الآخر هدفاً للموت، ويستولي على جسده وروحه.
يصادر من الآخر حقاً إنسانياً أساسياً في الحياة والبقاء، وينحره. في اللغة العربية، تظهر الكلمات قريبة بعضها من بعض: الانتحار والنحر. إذاً، ففي معانٍ كثيرة، تبدو الحرب العالمية الثانية، التي ربما تبدو كفعل انتحار جماعي هائل، «يتوّجه» مقتلة هيروشيما، حيث نُحِر آلاف اليابانيين كي ينجو من كان في قبضة الأزمة الاقتصادية الطاحنة في الولايات المتحدة.
هل يمكن القول ان إنقاذ أميركا وأوروبا من الأزمة الاقتصادية، ساهم في نجاة العالم من مشهد انتحار جماعي هائل، بمعنى النجاة من حرب عالمية ثالثة؟ ربما. ومهما كانت الآراء بصدد الأعباء النفسية لأزمة الاقتصاد العالمية الحاضرة، فإنها تسبّبت في تصاعد ملموس في معدل الانتحار في فرنسا، بل في أوروبا. ثمة ما يصعب التغاضي عنه. لقد ضربت الأزمة الطبقة المتوسطة في الغرب بقسوة، ونالت من شرائحها كافة. غالباً ما قيل أن التعلّم وامتلاك مهارات ذكية عالية والتقدّم في التراتبية الاجتماعية، من العوامل التي تحصّن الإنسان، وتقوي الطاقات الإيجابية فيه.
هاوية الطبقة الوسطى
في الأزمة الحاضرة، وُضِعَت هذه الأشياء على محك صعب. لقد ضربت الأزمة أفراداً تمتعوا بتعليم متقدّم، وبمهارات تقنية بارعة، وبذكاء شخصي مرتفع، وأداء اجتماعي متألق. لكن الاقتصاد هوى بهم بقسوة لافتة. مثال؟ ترافقت أزمـة اليـورو مـع مـوجة انـتـحار كـبـرى ضربت العاملين في قطاع المعلوماتية والاتصالات المـتطـورة، خـصـوصـاً شركة «تكنولوجيا» Technologia العملاقة. وبحسب ما ورد في صحيفة «لو فيغارو» الفرنسية أخيراً، قدّر البروفسور ميشال ديبو، وهو اختصاصي في الطب النفسي، أن الأزمة الاقتصادية تسبّبت في 750 حال انتحار إضافية في فرنسا، إضافة الى ما يزيد على عشرة آلاف محاولة انتحار، منذ عام 2008.
وأشار ديبو، إلى أن هذه الأزمة تسبّبت في إضافة ما يزيد على 648 ألف عاطل من العمل إلى صفوف البطالة العادية. وليس ديبو بالشخص المتطفل على هذا الموضوع. فقد عمل طويلاً في «المجلس الوطني الاجتماعي» الذي انشغل بمسألة العلاقة بين البطالة والانتحار طيلة العقود الأربعة الأخيرة، كما أسّس الاتحاد الوطني للوقاية من الانتحار»، وترأّسه لـ14 عاماً، ويُنسَب إليه الفضل في إطلاق «اليوم الوطني لمكافحة الانتحار» في فرنسا. ولا يبدو ديبو متفائلاً، فاستناداً إلى أزمات مُشابهة، خصوصاً تلك التي حلّت مع عام 1929، يتوقع ديبو ان تواصل الموجة الحاضرة من الانتحار تصاعدها في العامين الجاري والمقبل، مُشيراً إلى أن الأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين 40 و55 سنة هم الأكثر عرضة للانتحار، خصوصاً الذكور. لماذا يُكثر الرجال من الانتحار في حال الأزمات الاقتصادية الكبرى؟ هل لأنهم يرفعون الارتباط بين إحساسهم بـ «ذكوريتهم» وبين مكانتهم الاقتصادية، فيكون فقدانهم للعمل موازياً للإحساس بانهيار شامل ذاتياً؟ هل أن النساء أشد تماسكاً وصلابة في المِحَن، ربما لأن رضاءهن عن ذواتهن يأتي من مصادر متعددة، ولا ينحصر في الإنجاز المهني؟
ووفق «فيغارو»، تأتي فرنسا في المرتبة السابعة بين الدول الثلاثين الأعضاء في «منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية»، وتسبقها دول مثل كوريا الجنوبية واليابان وبلجيكا. وفي بلاد الغال، يحلّ الانتحار في المرتبة الأولى في أسباب الوفيات لدى من تتراوح أعمارهم بين 35 و44 سنة. وتزيد نسبة الرجال بين هؤلاء عن السبعين في المئة.
كما نشرت الصحيفة عينها رسماً بيانياً يُظهِر الترابط بين البطالة والانتحار يشير الى تصاعد الانتحار خلال أزمتي الاقتصاد «العابرة» في منتصف الثمانينيات ومطلع التسعينيات من القرن الماضي، إضافة الى ارتفاعات مماثلة إبان أزمة البترول في سبعينيات القرن عينه، والأزمة الراهنة التي انطلقت عام 2008.
أحمد مغربي
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد