أعصاب العرب في قبضة «التصلّب المُتعدّد»
ربما يرى كثيرون أن الجهاز العصبي للعرب عموماً، يشكو من «تصلّب» تاريخي، في شؤون السياسة والمجتمع والثقافة والعلوم والقانون وغيرها. لكن ثمة ظاهرة طبية، لا شأن مباشراً لها مع هذه الصورة المجازية. ثمة مرض اسمه «التصلّب العصبي المُتعدّد» Multiple Sclerosis، ربما كان يتزايد، أو ربما أن الوعي به أصبح أقوى في الدول العربية. واستطراداً، أحياناً تذهب العلاقة بين قوة العقل والذكاء من جهة، والمرض العصبي من جهة ثانية، الى حدود معقّدة وفائقة الإثـــارة. فمثلاً، يعاني عالِم الرياضيات الشهير ستيفن هوكنغ، وهو واضع نظرية «الثقوب السود»، من مرض في جهازه العصبي (هو»التصلّب العصبي الجانبي الضموري» Amyotrophic Lateral Sclerosis)، يفوق «التصلّب العصبي المُتعدّد» قسوة. وفي شبابه، قال الأطباء لهوكينغ المتقّد العقل، إن المـــرض لــــن يمهله أكثــــر من سنتين أو ثلاث. واستطاع أن يتحمل 40 سنـــة من الصراع مع هذا المرض. ولا يـــزال حيّاً. ويدخل عمر السبعين هذا العام. ما علاقة هذا الصمود الأسطوري أمام مرض الجهاز العصبي؟ قوة الذكاء عند هوكينغ؟
ابحث عن جهاز المناعة
ثمة ميل طبي للقول بالربط بين مرض «التصلّب المُتعدّد» والخلل في عمل جهاز المناعة للإنسان، وهو جهاز يفترض به أن يحمي الجسد من الأشياء التي تدخل إليه فتهدد عافيته.
تصيب الإنسان أمراض كثيرة بأثر من مهاجمة جهاز المناعة أنسجة الجسم، بدلاً من حمايتها! ما الذي يؤدي إلى توجه الجسم لفتح حرب ضد نفسه؟ ثمة نظريات كثيرة طرحها العلم لتفسير الظاهرة، من دون وجود إجابة شافية. هناك من ذهب الى أن دخول بعض الفيروسات الى الجسم يسبّب خللاً في عمل جهاز المناعة. وهناك من أرجع ذلك الى وجود استعداد للإصابة في بعض العائلات، ما يؤدي إلى حدوث المرض عند التعرض لعوامل اخرى، سواء جاءت من داخل الجسم أم من خارجه. ويندرج «التصلّب المُتعدّد» في قائمة هذه الأمراض. ويعتبر مرضاً شائعاً في البلاد البعيدة عن خط الاستواء. وساد اعتقاد لفترة طويلة أنه نادر في المنطقة العربية. وفي العقدين الاخيرين، لوحِظ ارتفاع نسب الإصابة به في كثير من الدول العربية.
ويصنّف «التصلّب المُتعدّد» ضمن أمراض المناعة التي تؤدي إلى حدوث إعاقة وظيفية لبعض أعضاء الجسم.
في هذا السياق، وصف الدكتور زهير القاوي، وهو كبير الاستشاريين في قسم علوم الأعصاب في «مستشفى الملك فيصل التخصّصي» و «مركز البحوث في الرياض، «التصلب المُتعدّد» بأنه مرض يترافق مع التهابات متكرّرة في أجزاء من الجهاز العصبي، وأكثر ما يصيب الأغشية المُغَلّفَة لمحاور الأعصاب، إذ يدمّر غلافها الخارجي، وهو دهني التركيب يعتمد على مادة «مايليين» Myline. وبصورة تدريجية، يضرب المرض أغشية الـ «مايليين» في مناطق متعددة من الدماغ. فتظهر بقع خالية من الـ «مايليين». وعندما يفقد هذا الغطاء، تتأثر وظائف الأعصاب التي كانت مُغطّاة به، فتفقد قدراتها الطبيعية أو يتغيّر عملها ويضحى مضطرّباً. وتؤسس هذه الصورة للأعراض والشكاوى التي تترافق مع المرض.
وتناول القاوي، أسباب المرض، مشيراً إلى أن السبب الرئيسى غير معلوم حتى الآن: «يمكننا القول ان المرض يحدث نتيجة خلل في جهاز المناعة في الجسم، وهو مرض غير وراثي بالمعنى المفهوم، ولكن وجد أن هناك عائلات لديها استعداد وراثي للإصابة به، فيظهر عند تجمّع عوامل خارجية عدة. إذ تلعب الوراثة نسبة 10 في المئة من أسباب الإصابة داخل هذه الأسر»، بحسب القاوي. وتناول مدى انتشار المرض عربياً، فاستغرب الظاهرة. وأشار إلى أن المرض يزداد انتشاره في العادة، في المناطق الأكثر بُعداً عن خط الاستواء.
وأوضح القاوي أن ثمة نظريات علمية تربط بين التعرض للشمس ونسبة وجود فيتامين «د» في الجسم من جهة، وبين الإصابة بالمرض من الجهة الثانية، ما يبرر افتراض أن تكون الإصابة به قليلة في الدول العربية. وأشار القاوي إلى أن المرض كان نادراً قبل عقود، لكن لوحظت زيادة في إصاباته خلال العقدين الآخرين، خصوصاً في دول الخليج العربي.
وقال: «نحاول تفسير هذه الزيادة. هل هي ترجع الى تغير أنماط الغذاء، مثلاً؟ إذ توجد نظريات علمية تدعم زيادة الإصابة بالمرض نتيجة الإكثار من تناول الدهون الحيوانية. وهناك أيضاً من يربط المرض مع فيروسات «غريبة» عن بيئة المنطقة، وهو أمر ربما يتصّل مع كثافة التدفّق بشرياً على منطقة الخليج العربي». وأوضح القاوي أن نسب الإصابة بالـ «تصلّب المتعدّد» تصل الى 140 في كل مائة ألف نسمة في بريطانيا.
أعراض لنهاية مخيفة
وعرض القاوي أعراض «التصلّب المتعدّد» قائلاً: «تبدأ بحدوث إصابة في أحد الأعصاب، مثل البصر. وقد تؤدي الإصابة الى حدوث عدم توازن في المشي. ثم تنجلي الأعراض، لكنها تعود وتتكرر، وفي كل مرّة تخلّف آثاراً مختلفة، لكنها تتراكم. وتصل بالمصاب الى مرحلة العجز في بعض الحالات.
ويُشخّص المرض من طريق صـــــور الأشعة بالرنين المغناطيسي، إضـــافة إلى فحص للسائل في النخاع الشوكي، ورسم للأعصاب. وإذا ثبتت الإصابة بالمرض، تكون الفرصة لمحــاصرته ومنع تكرر هجماته. وهذا يعني أن الاكتشاف والعلاج المبكرين، يحسّنان حال المريض.
ويزيــــد في أهمية هذا الأمــر أنــــه لا تـــوجد علاجات شافية حتى الآن، ولكــــن ثمة أدوية تحاول خفض تكرار هجمــات المرض. وقد يستعمل بعض الأطباء مواد مثل الـ «كورتيزون» لما لها من تأثير سريع علـــــى جهاز المناعة، ولكن استخدامها على المدى الطويل يولّد مشاكل كبيرة. ويعمد البعض إلى استعمال مواد مثل «إنترفيرون»، التي يفترض أنها تخفض نشاط الخلايا المناعية المؤذية للجهاز العصبي.
ويحتاج المريض الاستمرار في تناول العلاج سنوات طويلة. ويعيب هذه العلاجات أنها قد لا تفيد كثيرين من المرضى. في المقابل، ينزعج مرضى «التصلب المُتعدّد» من تناول بعض الأدوية لأنها تؤخذ حقناً. ومع تطور العلم، ظهرت علاجات حديثة للمرض تؤخذ من طريق الفم، إذ طرحت شركة «نوفارتس» علاجاً جديداً أجازته هيئة الأغذية والأدوية الأميركية، يعمل على حجز الخلايا المناعية المتّصلة بالمرض من مراكزها، ما يحول دون وصولها الى الدماغ ومهاجمة الخلايا العصبية. وأثبتت بعض هذه العلاجات فاعليتها. ويؤخذ عليها بعض الأعراض الجانبية، مثل إبطاء ضربات القلب، ولذا يجب إعطاء الجرعة الأولى منها تحت إشراف طبي، مع التدخّل سريعاً في حال ظهور أعراض مُهدّدة لصحة المريض. ولا بد من الموازنة بين فائدة العلاج وبين المشاكل التي يسبّبها أيضاً».
وختم بالإشارة الى أن الإصابة بـ«التصلب المُتعدّد» لا تمنع المريض من العيش بطريقة طبيعية، وممارسة نشاطه العادي، بما فيها تناول العلاج بانتظام وتحت إشراف طبي. ولاحظ أن المرض يصيب الإنسان في أخصب مراحل عمره وهي مرحلة الشباب، إذ تكثر الإصابة بين سني 20 و 45 عاماً. ولفت أنه يصيب السيدات أكثر من الرجال بنسبة 1 الى 3، ما يعني استهدافهن خلال سنيّ الزواج والانجاب. ونصح بعدم تناول العلاجات أثناء الحمل والرضاعة، لأن البحوث كشفت عن تأثر الجنين والرضيع بهذه الأدوية. وفي المقابل، أشار إلى أن نوبات الإصابة بالمرض تنحسر بشكل كبير أثناء الحمل والرضاعة، وكأنها حماية إلهية للأنثى.
سحر البيلاوي
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد