لمحات ثقافية بريطانية- أمريكية
ينهي ريتشارد فورد في «موقع الأرض» الصادرة عن دار بلومزبري ثلاثية بدأها بـ «الكاتب الرياضي» في 1986 و «يوم الاستقلال» في 1995. يتابع الكاتب الأميركي تناول «الحياة العادية غير المجيدة لكل منا» بإلقاء الضوء على الصوت الداخلي المعتم، ويذكر مجدداً بمواطنه جون ابدايك الذي جعل الرجل الصغير في البلدة الصغيرة بطله غير البطولي. الأحداث قليلة في «موقع الأرض» التي تدور مثل الروايتين السابقتين خلال عطلة يفترض ان يلتقي أفراد الأسرة فيها ويتظاهروا بالسعادة. على ان فرانك باسكومب، بطل الثلاثية موعود بقنبلتين تطيحان ما ظنه مرحلة العمر الدائمة. زوجته الثانية سالي تعود الى زوجها الأول الذي ظنته توفي فيما كان يعمل بستانياً في جزيرة. والعمر لا يبدو قابلاً للتصنيف بعد اكتشاف اصابته بسرطان البروستات.
درس فورد الأدب الانكليزي والمحاماة لكنه تبع قلبه الى الكتابة. رحب النقاد بـ «قطعة من قلبي» في منتصف السبعينات، لكن القراء بقوا بعيداً. عمل في مجلة رياضية أوحت رواية «الكاتب الرياضي» عن روائي فاشل في نهاية الثلاثينات يعمل صحافياً رياضياً وتلاحقه اللعنة مع موت ابنه وفشل زواجه وخيبته من وعده الكاذب. قفزت الرواية الى لائحة الكتب الأكثر مبيعاً فاتبعها بعد نحو عقد بـ «يوم الاستقلال» الذي نال جائزتي بوليتزر وبن – فوكنر، وجعل فورد وريث كبار الأدب الأميركي، سول بيلو وجون ابدايك وفيليب روث. يعيش البطل فيها «مرحلة الوجود» ويحاول في منتصف عمره بناء علاقتين مع ابنه المراهق والمرأة الجديدة في حياته، وينتقل من الصحافة الرياضية الى بيع العقارات. في «موقع الأرض» يتوقع فرانك باسكومب الذي بات في الخامسة والخمسين حماية أرباحه وتمتين علاقته مع ابنته التي عاشت مرحلة مثلية سعيدة ثم عادت الى الاقتناع بالجنس الآخر. لكن الحياة تمتنع على خططه ويعود الشك مجدداً يظلل أيامه.
صوت ريتشارد فورد الشاعري المنساب لا يبرر لغته الزائدة لدى كثيرين. الرواية من خمسمئة صفحة مديدة قد تثقل على القارئ غير المقتنع بتضخيم مجريات كل يوم الى مستوى الدراما. ينتبه بطله الى الخلفية السياسية، مثل بطل ابدايك في سلسلة روايات «الأرنب»، ولئن وجد نفسه على الهامش في عهد رونالد ريغان في الثمانينات خاب بعجزه الكامل عن الانتماء في حقبة بوش الابن. يصور الكاتب الجمهوريين أغبياء فاسدين لوثوا الحياة الأميركية وأشعروا المواطنين بالاغتراب. تحول بطله من الكتابة الى ميدان العقارات يتحول مجازاً لأميركا نفسها التي تبدو كأن قيمها اقتصرت على قيم الملكية وحدها. اختار فورد عمر البطل لأن ما يحدث فيه يحدد ذكراه في ما بعد. مهمة الأدب إعطاء حجم لما كان يفتقر اليه، علماً ان الكتابة عنده تبدو عملية صوفية. يريد كتبه عن أهم ما في الحياة، لكن هل هذه أخطاء الملك لير، بطل شكسبير، أو أحداث حياتنا وزوجاتنا وأمراضنا وأولادنا؟ إذا استطعنا جعل هذه موضوعاً للأدب الجدي بفعل الفن ونعمة اللغة باتت حياتنا تساوي أكثر بالتأكيد.
اضطراب الحياة الخاصة في أعمال فورد لا تعكس حياته. في الثانية والستين ومتزوج منذ ثمانية وثلاثين عاماً المرأة نفسها. كانت كريستينا في السابعة عشرة وهو أكبر منها بعامين عندما تحابا واتفقا على الزواج فور التخرج. في الرابعة والعشرين قرر تنظيم حياته وكتابة الروايات ورمي نفسه على كريستينا التي غادرت الى نيويورك لتعمل وتحب غيره. ركب الطائرة من ميشيغان ودق جرس بيتها في العاشرة ليلاً. تزوجا بعد شهرين ولا يزالان معاً انما من دون أولاد لأنه لا يحبهم كثيراً وإن كان يتقن الكتابة عنهم. توفي والده البائع الجوال عندما كان في السادسة عشرة فانتقل مع والدته للعيش مع والده في ليتل روك، اركنسو، التي صار بيل كلينتون حاكمها. لم يبك والده، وحيّره ذلك ثم أدرك ان الهستيريا التي أصابت والدته احتلت مساحة عاطفية كبيرة فكان عليه أن يحتفظ بانضباطه. على أن موت والده لم يكن سيئاً كلياً «خرج من حياتي وحررني لأكون شيئاً ما كنت لأكونه أبداً. مستقلاً وحراً».
لماذا كتب جوناثان فرانزن سيرته وبقي عصي القول؟ تطرق الكاتب الى حياته الخاصة في مقالاته لكن «منطقة الضيق: مذكرات» الصادرة في بريطانيا عن دار فورث استيت تبقيه كما كان بين النور والعتمة. يظن انه يبوح بالحديث عن طفولة مضجرة ومراهقة مدعية وزواج فاشل، لكنه يتجاهل التفاصيل والأحاسيس التي تجعل أي مذكرات خاصة، ويتجنب حياته المهنية تماماً. وقفة طويلة عند تشارلز شولتز مؤلف الرسوم القصصية «تشارلي براون» تهدد باستنتاج صلة بينه وبين الطفل لكنه يتبرأ من أي علاقة بينهما. يحلل البطل في «المحاكمة» لفرانز كافكا، ويتساءل عما إذا كان «ك» مذنباً، لكن اطلالة الكاتب النمسوي المعذب تبقى بلا تفسير.
ولد فرانزن في 1959 ونشأ في ضاحية ميسورة في ميزوري «وسط العصر الذهبي للطبقة الأميركية الوسطى». كانت بلدته وبستر غروفز جمهورية، لكن الكنائس اتبعت تقاليد ليبرالية، وآمن كثيرون منهم والدة الكاتب بأن على الموهوبين والناجحين رد الجميل لمجتمعهم. انتمى في مراهقته الى جماعة مسيحية تدعى «صحبة» اهتمت بالوعي المجتمعي أكثر من اهتمامها بالمبادئ البروتستانتية. كان أخرق مع الفتيان وتقاطع اكتشافه الأدب الألماني مع اكتشافه الجنس ثم اتجه مع شقيقيه الى حياة ساحلية، ووجد النجاح مع كتابه الثالث «تصحيحات» الذي نال جائزة الكتاب الوطنية وجعله من أبرز كتّاب بلاده. الكاتبان فوستر دالاس وديفيد مينز أفضل أصدقائه لكنه ليس حداثياً تماماً مثلهما بل يراوح بين التقليد والاختبار. تصنيفه المجتمعي – السياسي ليس أكثر وضوحاً. ليس ليبرالياً ما يكفي لليبراليين أو رجعياً ما يكفي للمحافظين. «إنها قصة حياتي. لست نخبوياً كفاية لمعظمي الذات أو شعبوياً كفاية لمحبي أوبرا (ونفري). لست سيئاً كفاية لأكون سيئاً أو طيباً كفاية لأكون طيباً. لم أكن شرقياً ما يكفي لأكون من الشرق أو غربياً كفاية لأكون من الغرب. عندما كنت صغيراً كان الأمر واضحاً وبدا الوسط مكاناً جيداً. وهذا هو هدف الكتاب. الزمن السعيد الذي لم يفرض علي اختيار جهة».
أميركي في برشلونة يعمل في منظمة إنسانية نال جائزة الأكاديمية الفرنسية وقد يضيف إليها جائزة غونكور الاثنين المقبل. جوناثان ليتل الذي يبلغ التاسعة والثلاثين نشأ في فرنسا وتخرج في جامعة يال وعمل مع الجمعية الخيرية الفرنسية «أكشن ضد الجوع». كفاحه من أجل لقمة الآخرين أخذه الى الحرب في البوسنة والشيشان والكونغو، وبقي يكتب «الطيبون» خمسة أعوام تملى فيها من مآسي الحروب والبحث في الحقبة النازية.
بطل الرواية كولونيل في قوات الشرطة الخاصة يبرر فظائع الحرب في روسيا وأوروبا الشرقية ويفصلها طويلاً وبدقة. ثمة مشاهد من أوشفيتز وملجأ أدولف هتلر تضيف الى الصدمة في الرواية. المؤرخة ايلين كارير دنكوس التي ترأس الأكاديمية الفرنسية رفضت تلاوة مقطع منها، وزعماء اليهود في فرنسا رأوها «بورنوغرافيا المحرقة» وقالوا انها تمجد بطلها ماكسيمليان آو.
اشتهرت «الطيبون» بفضل القراء الذين أوصى أحدهم الآخر بها وباعت أكثر من 20 ألف نسخة منذ آب (أغسطس) الماضي. قدم ليتل المخطوطة لدار غاليمار متخذاً اسماً فرنسياً مستعاراً فخصصت له 12 ألف نسخة فقط ثم استخدمت الورق المخصص لآخر روايات هاري بوتر لتطبع المزيد. تبعت الصحافة القراء اعجاباً ومدحاً ورأت «لو نوفيل أوبسرفاتور» الرواية «كتاباً عظيماً». تمتد 900 صفحة وتفضح الروايات الصغيرة الحجم التي يفضلها الكتّاب الفرنسيون. وربما كان الأهم من ذلك كله ان الأميركي فضل الكتابة بالفرنسية لا الانكليزية فجاء قراره أحلى من العسل على قلب فرنسا.
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد