مصر: نهرٌ وبحران.. وشعبٌ تحاصره البطالة
على الرغم من طول واديها وأصالته، وخصوبة دلتاها ورحابتها، وكنوز بحريها ورمالهما، تضيق على أبنائها، وتحرم كثيرا منهم حق العمل كوسيلة للبقاء، حتى بعد أن انتفضوا ليذكروها بوجودهم وبحقهم في كل ما أفاض الله عليها من ثروات ونِعَم.
الزراعة والامن الغذائي
بطول 1532 كيلومترا، يجري نهر النيل في مصر، التي استقر في نفوس شعبها منذ آلاف السنين أنه واهب الحياة وشريانها، ومصدر الخيرات، والتي تزرع بمياهه أكثر من 6 مليون فدان، وتبلغ حصتها من تلك المياه 55.5 مليار متر مكعب. ويفرض تهديد هذه الحصة اليوم (بفعل عدة عوامل)، إعادة النظر في استغلال جريان أطول أنهار العالم في أرض مصر، بما يؤدي الى تعظيم عوائد هذا النهر على الاقتصاد الوطني، علاوة على ضمان الأمن المائي للمصريين. وثمة العديد من الأطروحات والمشروعات التي اهتمت بذلك، لكنها بقيت حبيسة الأدراج، منها المشروع الذي يطرح رؤية ابتكارية للاكتفاء الغذائي، والقضاء على البطالة والفقر بتكلفة غير عالية، وهو المشروع الذي يعتمد على تسخير الجبال والمرتفعات في توصيل المياه من السد العالي مباشرة الى الأراضي المزروعة، في أنابيب تحملها هذه المرتفعات، مما يوفر الفاقد من نظام الري والصرف الحالي، ويتيح استخدامه في زراعة مساحات جديدة، حيث تتدفق المياه في الأنابيب العملاقة بفعل الميلان والجاذبية فتغذي بالمياه الأراضي القديمة، وتزرع أراض جديدة باستخدام خطوط أنابيب هابطة من المرتفعات دون ضخ، أو باستخدام أي طاقة بترولية أو كهربية.
ويتركز هدف المشروع الرئيسي في وقف إهدار حوالى 22 مليار م3 من المياه سنوياً، وهي تكفى لزراعة نحو 7 ملايين فدان، دون الحاجة إلى زيادة في حصة مصر من مياه النيل. وهو ما يعود بنتائج هائلة أهمها تحقيق الاكتفاء من الغذاء، وخلق ما يقارب 7 ملايين فرصة عمل تسهم في القضاء على مشكلة البطالة.
كثيرة هي المشروعات التي يمكن أن يكون عصبها مياه النيل، وتشكل جزءاً من مشروع عملاق لتنمية مصر، عبر زراعة آلاف الأفدنة، وتدعيم القدرة الزراعية بزيادة الانتاج الزراعي، وخلق مجتمعات عمرانية، وبالتبعية خلق فرص عمل لملايين من الشباب المصري. وليس أقل هذه المشروعات أو أصعبها، تنمية سيناء عن طريق توصيل مياه النيل إلى أراضيها عبر ترعة السلام، التي يمكنها تحقيق التوسع الزراعي الأفقي في مساحة 400 ألف فدان شرق قناة السويس، و220 ألف فدان غرب القناة.
سمك في الشط
علاوة على ذلك، يحوي النهر العظيم ثروة سمكية هائلة، ولكنها باتت مهددة اليوم بنفوق أطنان منها، مثلما حدث مؤخراً في شمال الدلتا في محافظات البحيرة، وكفر الشيخ، ودمياط، والدقهلية، نتيجة تلوث مياه النهر، وارتفاع نسبة الأمونيا فيها، بسبب صرف المخلفات الصناعية في مياه نهر النيل، واختلاط مياه الشرب بالصرف الصحي. ومع تهالك محطات تنقية المياه وانتهاء عمرها الافتراضي، تحولت مياه النيل ليس فحسب الى مادة لقتل أسماكه التي يُفترض أنها أحد مصادر ثروة المصريين، بل أصابتهم تلك المياه بالتيفوئيد والأمراض المعوية، وهددت حياتهم.
ثروة اسمها الرمال السوداء
بترسيب مياهه على طول الساحل المصري، يمنح النهر المصريين كنزاً آخر غير مستغل، تحتويه الشطآن المصرية، يسمى «الرمال السوداء»، التي تتركز في شمال الدلتا، وخاصة في شرق فرع رشيد، وتعتبر المصدر الأساسي لكثير من المعادن ذات الأهمية الاقتصادية، التي يمكن أن تعود على مصر بملايين الدولارات سنوياً. فمصر تمتلك ما يقرب من 11 موقعاً على سواحلها الشمالية تنتشر بها «الرمال السوداء» بتركيزات مرتفعة، فيما يشكل العائد الاقتصادي من موقع واحد فقط منها أكثر من 255 مليون جنيه سنوياً، ويوفر استغلالها على مصر ملايين الدولارات التي تنفقها في استيراد تلك المعادن، كالزيركون الذي يعتبر أحد العناصر الأساسية في صناعة السيراميك، وأغلفة الوقود النووي في مفاعلات توليد الكهرباء، بالإضافة إلى الحديد، والغرانيت، والمونازيت الذي يحتوي على نسبة عالية من العناصر الأرضية النادرة التي تدخل في كثير من الصناعات الحديثة، كما أنه يصلح لإنتاج الوقود النووي. ومعدن التيتانيوم الذي يستخدم في صناعة أجساد الطائرات والغواصات وقضبان السكك الحديدية. فلماذا لا تستخدم هذه الثروة، ويتم إنشاء مجمَّع صناعي متكامل لفصل المعادن من الرمال السوداء، وتقام لكل معدن صناعة، تقول التقديرات أنها والحال تلك ستكون أكثر من عشرين صناعة مختلفة؟
الغاز في البحر المتوسط
وحيث يصب النهر الخالد، يوجد البحر المتوسط، الممتد ساحله بطول 995 كم. وقد أثارت قضية ثروات مصر المنهوبة في عرض البحر جدلاً واسعاً في الفترة الأخيرة، عندما أكد عدد من الباحثين والخبراء وعلماء الجيولوجيا المصريين وقوع ثلاثة حقول غاز طبيعي في المياه الاقتصادية المصرية، وهي الحقول التي اعتدت عليها إسرائيل وقبرص، وتحتوي على ثروة هائلة من احتياطات الغاز الطبيعي، تتجاوز200 مليار دولار، في حين أن هذه الاستكشافات هي باكورة التنقيب في تلك المنطقة البكر، التي تحتوي على أحد أكبر احتياطيات الغاز في العالم، بما قد يعيد ترسيم خريطة القوة والثروة في المنطقة. ولحصول مصر على ثروتها من الغاز الطبيعي، ثم استغلالها من خلال الصناعات التكميلية، عوائد ضخمة يمكنها توفير فرص عمل للشباب، مباشرة وغير مباشرة، فضلاً عن زيادة القيمة المضافة لدعم الاقتصاد الوطني. لكن مسئولي وزارة الخارجية ووزير البترول المصري حاولوا جاهدين نفي استيلاء إسرائيل على الغاز المصري، أو وجود أية عمليات استكشاف أو حفر في حقول بترول أو غاز داخل المناطق المصرية الخالصة... حرصا ربما على أن يظل الدور الرئيسي للبحر المتوسط، هو حملِه فوق امواجه (أو في جوفه، كمقبرة) الشباب المصري الهارب من البطالة إلى مصير مجهول.
في البحر الاحمر أسماك...
ويشترك البحر المتوسط مع البحر الأحمر، الذي يمتد ساحله بطول 1941 كم، في كونهما أيضا مصدراً لثروة سمكية ضخمة، حيث تحتل المصايد البحرية المرتبة الثانية من مصادر الإنتاج السمكي في مصر، فتشكل مصايد البحر المتوسط حوالي 11 في المئة من الإنتاج السمكي الكلى، بينما ينتج خليج السويس والبحر الأحمر حوالي 8.81 في المئة من ذلك الإنتاج سنوياً. وهذا يمكنه أن يكون أحد المجالات الأساسية المساهِمة في تحقيق أهداف خطط التنمية الصناعية، باعتباره أحد مصادر إمداد العديد من الصناعات بالمواد الأولية. كما تقوم بجانب هذه الصناعات الأساسية مجموعة أخرى من الصناعات المساعدة، أو الصناعات الخدمية. ومجموع الصناعات الأساسية والمساعدة هي ما يطلق عليه «الصناعات السمكية»، التي تتعدد وتتنوع مجالاتها، مثل تصنيع المنتجات السمكية الغذائية، وورش بناء السفن والإصلاح والصيانة، والصناعات المتصلة ببعض نظم الاستزراع السمكي. حيث أن الاستغلال الأمثل للثروة السمكية وغيرها من الثروات البحرية يتحقق في وجود صناعات سمكية متطورة، باستثمارات مالية كبيرة، وتوطين التكنولوجيا الحديثة، وتشغيل الأيدي العاملة الوطنية وإكسابها مهارات وخبرات العمل اللازمة.
... ومعادن
وتبقى جبال البحر الأحمر المنطقة الرئيسة لإنتاج كثير من المعادن، فتضم المحافظة 75 في المئة من الثروة المعدنية في مصر. وهي على الرغم من احتوائها على غالبية ثروة مصر التعدينية لا يوجد بها إلا مصنع واحد صغير لتقطيع الرخام في رأس غارب. فمعظم إنتاج مصر من المعادن يصدَّر كمواد خام، بينما ستعود مكاسب هائلة في حال الاستثمار في المعادن، وإقامة عدد من المشروعات الصناعية القائمة على خاماتها، التي يمكنها استيعاب أعداد كبيرة من العاملين، فضلاً عن دعم قدرة الاقتصاد بتصدير مشتقات المعادن الصناعية.
لا فقر بل إفقار
مشكلة البطالة في مصر ترتبط بسياسات التنمية غير المتوازنة قطاعياً، بين مختلف القطاعات الاقتصادية، وغير المتكاملة جغرافياً بين مختلف الأقاليم والمحافظات، كما تقترن بالعجز في العمالة الماهرة، وهي التي تعالج باعتماد سياسات تعليمية وتدريبية قوية، توفر التدريب المستمر للمستويات الوظيفية والمهنية المختلفة. لكن الأهم هو تغيير بنية النظام الاقتصادي، وتغيير السياسات الاقتصادية التي كانت البطالة أحد أهم إفرازاتها، والتي شكلت عوامل الانفجار الثوري في كانون الثاني/يناير 2011. سياسات تُراكم الفشل، وتراكم ثروة الطبقة المستفيدة منها، والمستحوذة على موارد البلاد وثرواتها.
وتلك السياسة يقطن موجهوها في واشنطن. فلقد أكدت كل مسودات الدستور المصري الذي كتب بتعجل الآن، ويطرح لاستفتاء لا يقل عن تلك الصياغة تعجلاً، أن النظام الحالي يتبنى سياسات السوق الحرة. وهذه تعني خصخصة ما تبقى من القطاع العام، وتفكيك القطاعات الأساسية من مؤسسات التعليم والصحة والخدمات العامة، وذلك في إطار سيطرة القطاع الخاص على إدارة الاقتصاد، وانسحاب الدولة من دورها في تلبية الاحتياجات الاقتصادية والاجتماعية للناس. ويعني هذا عدم قدرة الدولة على ضمان حق العمل، والحد من البطالة، وعلاج الفقر، لأن تلك الضمانات تتناقض مع السياسات الفعلية التي يتبناها النظام. بل لن تعود الدولة تستطيع القيام بدور الإسفنجة التي يمكنها امتصاص جزء من البطالة، من خلال تحميله على أجهزتها ومؤسساتها، فيما يعرف بالبطالة المقنَّعة. وإلا ما اعتصم العشرات من خيرة أبناء مصر، وعقولها المستنيرة، حاملين في جيوبهم وعقولهم شهادات درجتي الماجستير والدكتوراه في مختلف التخصصات، على رصيف مجلس الوزراء، وأمام منزل رئيس الوزراء، كي يمن عليهم بالتعيين في الجهاز الإداري للدولة، بعد أن تنازلوا كرها عن حقهم في العمل من أجل بناء عقول شباب مصر واقتصادها الممكن!
نجلاء مكاوي
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد