المتنبي في محكمة 30 شاعراً عربياً

26-05-2007

المتنبي في محكمة 30 شاعراً عربياً

ماذا تعني العودة الى المتنبّي اليوم، بعد أكثر من عشرة قرون على رحيله؟ بل ماذا يعني أن يعيد ثلاثون شاعراً عربياً قراءة المتنبي وكأنهم يعيدون اكتشافه، محاكمين إياه انطلاقاً من التهم التي كيلت له وما أكثرها؟

لم يعرف شاعر عربي ما عرف المتنبي من العداوات والخصومات، ولا ما عرف من المجد والعلياء، ومن الألم والأسى ومن الخيبات. حتى موته بدا مأسوياً وبطولياً، مثلما حدس به طوال حياته التي لم تطل كثيراً. هذا الشاعر الذي لم يكد يتخطى الخمسين سرعان ما أصبح أسطورة، بحياته وشعره، بشخصه وما حوى من خصال نادراً ما عرفها الشعراء قبله ومن بعده. شاعر قضى معظم أيامه ساعياً الى حلمه الأكبر: ان يزاوج بين صورة الشاعر وصورة الحاكم، جامعاً بين القصيدة والسيف، بين الألم والعظمة، بين الشعر والقوّة، بين الأسى والثورة.

قيل الكثير عن المتنبي وعن مواقفه المتناقضة، عن عبقريته وأطماعه، وكان له خصوم بمقدار ما كان له محبّون ومعجبون فتنوا به وبلمعاته الشعرية البارقة وحكمه وبلاغته وبيانه. وحظي ديوانه بزهاء خمسين شرحاً منذ القرن الرابع هجرياً (العاشر ميلادياً)، وهذه ظاهرة نادرة في تاريخ الشعر العربي. وسمّى أبو العلاء المعرّي ديوانه «معجز أحمد»، وتلهى النقاد بما سمّوه «سرقات المتنبي» و «عيوب المتنبي» و «معاني المتنبي» و «بديع المتنبي» وحاول بعضهم الطعن به انتقاماً من تعاليه وكبريائه وعنجهيته التي سمحت له بأن يقول: «وما الدهر إلا من رواة قصائدي...». وكم أثارت «الأنا» النرجسية لديه حفيظة الخصوم والسلاطين، وما برحت حتى الآن تثير الكثير من السجال حولها: مَن هو هذا الشاعر المدّاح والرثّاء والهجّاء كي يقول: «أنا الذي نظر الأعمى الى أدبي...؟».

ثلاثون شاعراً من العالم العربي، من مدارس وأجيال مختلفة، يتصدّون لأسطورة المتنبي، يحاكمونه، كل على طريقته، يعلنون حبهم الحارق له أو يخفون شيئاً من الغيرة حياله أو يجاهرون بمآخذهم عليه.

الشاعر أدونيس يقرأ المتنبي في مرآة نفسه ويقرأ نفسه في مرآة المتنبي الذي «أوكل» اليه عبر المخيلة وضع «الكتاب» بأجزائه الثلاثة، ويعتبره «الشاعر - الغريب» عن الجماعة وداخلها. الشاعر غازي القصيبي يتناول بجرأة معنى انتقال المتنبي من موقع الشاعر - الأجير الى مرتبة الشاعر - العظيم بل «الأعظم في اللغة العربية». الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي يُعرب عن عدم اطمئنانه الى «المكانة» التي وُضع فيها المتنبي داخل الشعر العربي، ويعترض على المبالغة في مديحه معتبراً انه ليس الشاعر الأكبر. الشاعر شوقي أبي شقرا، أحد رواد مجلة «شعر» يرى فيه شاعراً شديد الحرص على اللغة العربية، وذا كبرياء لا يطيق المهانة ولا الهوان، وقادراً، من فرط براعته في النظم، على الارتجال معبّراً عمّا يخالجه من الأوجاع. الشاعر سميح القاسم يعدّ نفسه من هجاة المتنبي على رغم إعجابه الكبير به، لكنّ هجاءه يطاول مسلكه السياسيّ أو «رياءه» و «تهريجه».

إنه المتنبي في «محكمة» الشعراء العرب المحدثين والجدد والشباب، شاعر المتناقضات و «الأنا» النرجسية، العبقري الذي تمكن من كسر قيود الزمن منطلقاً دوماً نحو المستقبل.

عبده وازن

*****

- تجذبني أناه المريضة-

 لن أتكلم عن شاعر المتناقضات كما يحرِّض السؤال عن المتنبي. وما دام غير ممكن أن يُهزم شعره حتى اللحظة، فمن الأفضل غض النظر عن تناقضاته (المديح، الهجاء) وتضخم أناه حتى المرض على ما تسألون. المتنبي شاعر عظيم خارج هذه الذرائع، ما دمنا الآن نتساءل عن سر أسطورته، أسطورة شعره أعني، أنا شخصياً تجذبني «أناه» المتضخمة، يجذبني مرضه في هذه «الأنا» ويجذبني انحرافه. «أنا الذي نظر الأعمى...» وحده الذي يقولها، فيما الباقون يضمرونها.

نكتب بالطبع بطريقة مغايرة الآن، سوى أننا نعود الى أبياته مع ذلك، بين وقت وآخر لنتعرف من خلالها على الشرط العالي والمحتوم لكتابة الشعر.

لا تهم هنا فروق أسلوبية، بل تهمنا تقنية أبياته وصفاتها الجوهرية، ونوع الحكمة (الجمالية) التي تصلح لكل زمان، وأيضاً تسند حزناً وصراحة وإن تعاطت الهجاء والمديح في معايير عصره (نفعلهما الآن في عصرنا وإن بطرق ملتوية) وتحت نظر حاسديه وملوكه وظُلاّمه، في الاستخدام الاجتماعي لشكل بعض شعره، وفي اختياره الذي يتحمل عواقبه!

كل الشعر ملتبس في كل الأحوال. كل الشعر مأسوي، حتى الضاحك منه. فعل الشعر بحد ذاته عمل درامي. نغفر للأنا المتضخمة عند المتنبي فهي تليق به.إنها ذاكرته الثانية الممتدة بغموض الى دلالات جديدة في كنه الشعر وأصله، والمتنبي تحديداً هو تلك التسوية بين «الأنا» والشعر. لقد كتبها من دون صبر أو دهاء، الأمر الذي يُضمره كل الشعراء. لا تُمكن تصفية ريادة المتنبي، مداحاً كان أم هجاء أم مريضاً في أناه. مفتونون به حتى اللحظة، إنها لعنة شعره المتشاوف.

عناية جابر

*****

 

- شاعر أجير... شاء عاشقوه أم كرهوا-

 في نهاية العصر العباسي الأول تحول الخليفة الى رمز لا حول له ولا قوة «خليفة في قفص» كما يقول الشطر الشهير. وانتقلت السلطة السياسية الى دويلات تتقاسم العالم العربي، ويمتد نفوذها وينحسر بحسب الأحوال وحسب مواهب الحاكم وقدراته.

لم يعد هناك بلاط واحد يقصده الشعراء بحثاً عن المال والمجد وتعددت القصور بتعدد السلالات الحاكمة. اضطر الشعراء الى مواجهة هذا الوضع الجديد، لم يكن من سبيل أمامهم سوى ان ينتقلوا من حاكم دويلة الى حاكم دويلة عارضين خدماتهم على من يريد شراءها. وهكذا تحول الشعراء/ الموظفون الكبار المثبتون على وظائف في بلاط أمير المؤمنين الى إجراء يبحثون عن رب العمل السخي كما يبحث البدو الرحل عن المطر.

كل خصائص الشعر العباسي في مرحلته الذهبية تبدو لنا في شعر الشعراء/ الأجراء، إلا انها تبدو مصابة بتضخم شبيه بمرض الفيل. الغلو في المديح اصبح القاعدة الرئيسة التي تقاس بها جودة الشعر، ويكفي هنا أن أشير الى هذا البيت «البشع» لا أجد كلمة أخرى، للمتنبي: «لو الفلك الدوار أبغضت سعيه/ لعوقه شيء عن الدوران».

الغزل في الغلمان أصبح القاعدة العامة التي لا يخرج عنها سوى القلة. زاد شعر الهجاء بذاءة وفحشاً كما زاد شعر المجون مجوناً.

ظهر صنف جديد من الشعراء لم يعرف من قبل وهم «شعراء الكدية» أو التسول، ولجأ هؤلاء الى سلاح الابتزاز. إذا لم يصلحوا على ما يريدون مقابل المديح لجأوا الى هجاء مقزز في إسفافه.

اتجه الشاعر/ الأجير شأنه شأن الأجراء في كل زمان ومكان الى اكثر أرباب العمل سخاء وأصر أصحاب العمل – مثل شيلوك في تاجر البندقية – على ان يتقاضوا مقابل ما دفعوه، ولنا هنا ان نتذكر أن المتنبي تلقى مقابل قصيدة من افضل قصائده ديناراً واحداً. ودخلت القصيدة التاريخ تحمل هذا الاسم: «القصيدة الدينارية» حقيقة الأمر ان المتنبي صور الكابوس الذي عانى منه الشعراء في هذه الحقبة بدقة تتركنا – وجهاً لوجه – امام الكابوس.

حاول المتنبي ان يكون شاعراً/ ملكاً – هل يوجد سبب آخر يفسر إصراره المستميت على ولاية؟ - ولم ينجح. وحاول ان يكون شاعراً/ فارساً ولم يوفق. جرب وظيفة في بلاط سيف الدولة الا انه ما لبث ان ملها. كان المتنبي – شاء عاشقوه او كرهوا – شاعراً/ أجيراً يتنقل بين مختلف أصحاب العمل. كانت النقمة المتأججة على هوان الشاعر/ الأجير هي الدافع الذي قاد حياة شاعرنا الصاخبة الى نهايتها الدامية. الشاعر الذي فشل في ان يكون ملكاً. مات وهو يقاتل كالملوك ولسان حاله يردد:

«وفؤادي من الملوك... وان كان/لساني يٌرى من الشعراء».

لولا كبرياء المتنبي الشهيرة لقال «من الأجراء» ولعل هذا هو المعنى الذي كان في بطن الشاعر. لم يكن ليخطر ببال الشاعر الجاهلي ان هناك فرقاً يذكر بين الشاعر والملك، إلا ان دوام الحال من المحال.

لا بد لنا هنا من أن نتوقف قليلاً عند ظاهرة المتنبي ما الذي حول شاعراً/ أجيراً الى اعظم شعراء العربية في نظر البعض والى واحد من أعظمهم في نظر الجميع؟ وما الذي يجعل منه، في أيامنا هذه أكثر معاصرة من معظم المعاصرين؟ ولماذا يروي الناس حتى العامة منهم، أبياته من المحيط الى الخليج؟ كتبت آلاف الرسائل والبحوث عن المتنبي، ولا تزال تكتب، ومن المستحيل في عجالة كهذه ان أضيف جديداً وان كان بوسعي ان ادلي بدلوي في الدلاء.

كان المتنبي ككل شاعر عظيم قادراً على تصوير النفس البشرية مجردة من قيود الزمان والمكان، لم يكن يصور ضياعه وحده، ولكن ضياع كل إنسان حين قال: «على قلق كأن الريح تحتي/ أوجهها جنوباً أو شمالاً».

ولم يكن يتحدث عن النهاية المأساوية لحب مر به شخصياً بل عن النهاية الفاجعة لكل حب عبر التاريخ حين أعلن: «نصيبك في حياتك من حبيب/ نصيبك في منامك من خيال».

وكان المتنبي يعبر عن شعور كل من جرب هوان الرياء عندما قال: «ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى/ عدواً له ما من صداقته بد».

إلا ان المتنبي بجانب تناغمه مع النفس البشرية المجردة، كان يملك حاسة سادسة، لا نعرف كيف ولماذا جاءت، جعلته وثيق الصلة بالنفس العربية، تحديداً، وبكل همومها وتطلعاتها (ولعل هـذا ما قـصده الأستاذ إبراهيم العريض حين اعتبره ابن العربية «البكر»).

عبر المتنبي بصدق عن ظمأ هذه النفس المتحرق الى الأمجاد. وسخر من قيادات زمنه: الأصنام التي لا تحمل عفة الأصنام، والأرانب النائمة بعيون مفتوحة، ووصف باحتقار الشعوب الخانعة التي ترعى وكأنها قطعان غنم. وتحدث بوجع عن عيش الذليل الذي يتحول الى موت أسوأ من الموت الحقيقي. ولم يتورع عن وصف الأمة بأسرها بأنها أضحوكة الأمم. هل يستطيع عربي معاصر أن ينكر ان هذه المشاهد العربية الأليمة لا تزال أمامنا بعد أكثر من ألف سنة من رحيل الشاعر؟ وهل يستطيع أحد ان ينكر أنه لا يوجد بين الشعراء المعاصرين من عبر عن الفجيعة إزاء هذه المشاهد تعبيراً يرقى الى مستوى المتنبي؟

غازي القصيبي

*****

- غربته غربة الشعر نفسه:

   - 1 –

«أنا، في أمة تداركها الله، غريب...»: ذلك هو المفتاح الأول لكي نفهم ظاهرة المتنبي، شخصاً وشعراً. مفتاح «الغربة» داخل «الأمة» – داخل «الجَمع» واللغة التي ينطق بها. غربة «لغة» تُعبر، جمالياً، من جهة على نحو يغاير ما هو مألوف في الحياة اليومية. وتحمل، من جهة ثانية، رؤية للعالم تغاير الرؤية التي تسوده. غربة مزدوجة: فكرياً وجمالياً.
       - 2 –

الشاعر / «الغريب»، بدئياً، لا يقيس نفسه بالجمع الذي ينتمي إليه، ذلك أنه «غريب» فيه، وعنه. ثم إن الجمع ليس هو من يكتب القصيدة. وإنما يكتبها الفرد الشاعر.

والشاعر بوصفه خلاقاً لا «يُصلح». إنه، على العكس، «يهدم» من أجل الوصول الى ما هو أجمل وأفضل. حين يكون الشعر «إصلاحاً» يلغي نفسه. والشاعر، إذاً، ليس صوت «الجمع»، وإنما هو صوت الوجود والمعنى، وصوت نفسه عبرهما. وبوصفه كذلك، يجيز لنفسه كل ما يُجيزه فعل الخلق:الوحدة، والتميز، والفرادة. ولا «أَنَوية» فردانية في هذا كله، وإنما هي أنوية الذات الشعرية.

هكذا نرى أن الذات الشعرية التي تُفصح عن «غربتها» داخل «الجمع» وعنه، ليست «تضحية» فردية، أو أنانية، أو «فحولية»، لكي نستخدم المصطلح القديم، وإنما هي ذات «غريبة»، ذات شعرية – رؤيوية.

غير أن ثقافة الجمع، أو ثقافة القبيلة لا ترى من طبقات هذه الذات، المتعددة، المتنوعة، المتصارعة، المتناقضة، إلا الجانب الأكثر التصاقاً بالقبيلة – السطح المبتذل. ذلك أنها لا تقيس الشاعر على الشعر، وإنما تقيسه على الجمع. ولا تراه بعين «الإبداع»، وإنما تراه، على العكس، بعين «الاتباع». وفي قياس الشاعر على الجَمع لا على الشعر، ما يضمر نفيه بوصفه شاعراً، أولاً،وإثباته بوصفه، أولاً، مجرد عضو في قبيلة.
       - 3 –

داخل هذه الغربة، عاش المتنبي وكتب، (وقُتل): في الترحل، الى الأمام، في المخيلة. لا لكي «يصل»، بل لكي لا يصل. لكي يخلق دروباً يمحوها، فيما يخلق غيرها. لكي يرى، لكي يظل يقظاً، لكي يحلم، لكي يبقى نبضاً، توتراً، استبصاراً واستقصاء. لكي يلمس، ويُحيط، ويستدرك، ويتقدم. لكي يُغل في فهم الأشياء، في حطام البشر ورُكام العالم، في بهاء البشر وبهاء العالم. لكي يضع السماء والأرض في ثوب واحد. لكي يرتدي هذا الثوب. لكي يزاوج بين المرئي واللامرئي، ويحضر أعراس هذه المزاوجة. لكي يزرع اللغة فتنبت في كل شيء، كأنها عشب الأرض. لكي يقشر اللغة كأنها البصلة الكبرى: البصلة – الوجود. لكي يوحد بين الظل والضوء، النهار والليل، ويكون كمثل إيقاع ينسكب في هذا التوحيد. لكي يستأصل الجدران التي تحول دون الرؤية، والسير، والتحرر. لكي يبقي الفضاء مفتوحاً، والكون بلا حدود. لكي يرفض أن يكون «الجمع» فوق كل شيء. لكي يقول: الانسان الفرد هو سيد نفسه، ووجوده، ومصيره. لكي ينفصل عن عمال القبلية عمال «العقيدة» و «التمذهب» و «التسيس». لكي يضع هو نفسه شروطه غير قابل إلا بها (ألم يشترط ألا يقرأ شعره أمام سيف الدولة إلا جالساً، فكيف، إذاً، لا نرى في «مدحه» له، إلا مجرد المدح له؟ ألم يقل مزدرياً أولئك الذين انتقدوا علاقته مع كافور: «وما كان شعري مدحاً له ولكنه كان هجو الورى» – هجو «الجمع» الذي دفعه لكي يذهب الى كافور). لكي يلغي الخضوع الى ما يقوله «الجمع». لكي يلغي نفسه، إذا ضعفت وخضعت. لكي يلغي الآلة الاجتماعية: السيد/ العبد، العبد/ السيد. أحميك إذا خدمتني/ أخدمك إذا حميتني.
       - 4 –

«مدح» المتنبي أشخاصاً كثيرين، لكن ليس لكي يُمجدهم، بل لكي يملأ فراغ الغربة والرغبة. كان في «مدحه» يستبطن تخيلاته. شهواته. ومطامحه، بوصفه رائياً، لا «مستجدياً». كان يستقصي مخيلته – يمتحنها، يرجها، فيما يزن حياته، ويعركها، ويعلو عليها. كانت «مثلنة» الممدوح وليدة البحث عما يحلم به. كانت صورة لذاته في الآخر. كان يتماهى مع الآخر، لكي يصبح هو نفسه الآخر – السيد. كان يعارض نفسه لكي يثبتها فيما يعارضها. كان يخلق فوضاه الخاصة، فيما يخلق نظامه الخاص. وفيما كانت السلطة، آنذاك، رهان العرب الأول، وفيما كان يمتدح بعض ممثليها، كان يعلن رهانه الخاص: «ولا أعاشر من أملاكهم أحداً/ إلا أحق بضرب الرأس من وثن».

في هذا كله، كان المتنبي يهدم الأنا القبلية، والأنا المذهبية. لا ينتمي إلا الى ما يتسع لتناقضاته، ويحتضنه، ويتيح له أن يقيم فيه: اللغة. كانت اللغة وطنه الحقيقي. كانت بيته الحميم. باللغة صاغ مشروعه: تحرير الحياة، جمالياً، وتحرير الإنسان، شعرياً. وكانت السياسة عنده طوباوية إنسانية تؤسس لها طوباوية جمالية – شعرية.
        - 5 –

شعر المتنبي قطيعة وانشقاق. فهو مليء بالتمزق، والانتهاك، والمخالفة والحيرة، والمرارة، والتصدع، والترحل، والفسخ، والفصم. مسكون في الوقت نفسه بحسب العظمة التي يسميها بعضهم «فحولة»، فيما هي نقض كامل وجذري للفحولة. فهذه تجسيد للأنا التقليدية القبلية، وشعره هدمٌ منظم للقبيلة والقبلية. وهي، كذلك، «أنا» صغيرة أنا ارتكاس وارتداد، والأنا التي يلهج بها، عالية: انفتاح على الكون. هجوم واقتحام، نحو ما هو أعلى وأبعد.
        - 6 –

ثمة ركام من الآراء حول المتنبي وشعره لا تشوه شخصه وحده، وإنما تشوه كذلك تجربته وشعره. وليس سهلاً زوال هذه الآراء. فهي تحتاج الى عمل مزدوج: القراءة – الفهم – النقد، على نحو حاذق وخلاق، من جهة. ومن جهة ثانية، الخرق الكامل للمعايير والنماذج والقواعد والضوابط العادية، المألوفة.

وهذا ما نراه في الثقافات المدنية، في العالم، عندما تدرس شعراءها. فالصفات التي تطلق على المتنبي كمثل «الفحولة»، وتضخم الذات... الخ، لا تطلق، مثلاً، على نيتشه أو رامبو، اللذين يشبهانه، من هذه الزاوية، حصراً. فلا ينظر إليهما إلا بوصفهما خلاقين. العقل هنا شعري – فني. إنه عقل إبداعي. أما العقل الذي «يحاكم» المتنبي فهو عقل «أمّيّ» (نسبة الى الأمة، ولتسمح لي اللغة بهذا «الخطأ»)، عقل فحولي، بوصف الأمة هي، وحدها، «الفحل». عقل لا يرى في المتنبي الشاعر، أولاً، وإنما يرى فيه، أولاً وأخيراً، «الجمع»، و «دينه»، و «انتماءه». عقل «جمعي» (نوع من التوهم)، لا عقل شعري – فني.

«الجمع» خندق مليء بالسلاسل، يتدوّر أو يتكوّر حول «قائده» وطبيعي أن يرفض من يخترق هذا الخندق. أو أن «يقتله»، بشكل أو آخر. وأولئك الذين يقومون بهذا»القتل» إنما هم «حراس» هذا الجمع، اللغويون، أو الناطقون باسمه – نظاماً، وقيماً.
        - 7 –

في هذا السياق تقاس الأهمية الفنية والثقافية والإنسانية لشعر المتنبي وتجربته. وتقاس قوتهما وقيمتهما. لكن هذا يقتضي مستوى عالياً من الإدراك والفهم والخبرة الشعرية – الجمالية، كما أشرت، وهو ما افتقده النقد الشعري العربي، ماضياً، ويفتقر إليه اليوم. المتنبي عالم متنوع ورحب يفرض علينا أن نعيد تحديد العلاقات بين الشعر والحياة، الشعر والزمن، الشعر والتاريخ، الشعر والبشر. وأن نجدد فهمنا لمعنى الشعر، ولمعنى التجربة الشعرية.

عندما يعيش بشر في مناخ يهيمن عليه ثلج الانتماءات، وشراسة السياسات، فإن علينا أن نعطي الأولية للخرق، و «الهرطقة»، والتجاوز، للتمرد/ والخروج وما يتولد عنهما أو يصاحبهما من نشوات وانخطافات، وأن نتهيأ داخلياً، نفسياً وفكرياً، لكي نحسن فهم الطرق التي تتيح للشاعر أن يبني نقاط انطلاقه واستدلاله، وعلاماتها، وآفاقها، وكيف يعطي لهذا كله معناه، وكيف يكشف عن هذا المعنى.

ولا بد لنا، في هذا كله، من أن نتمتع بالقدرة على تخيل الشاعر منفلتاً من كل قيد إلا «قيد» الجمال، والإبداع، و «اللغة» يندرج في الكون بمتعة فكرية وجسدية بحيث يبدو كأنه يغامر في هذا الكون خفيفاً، وفي ما وراء كل حد. وفي هذا الإطار يبدو المتنبي مثالاً شعرياً لاسترداد إنسانية الشاعر العربي الذائبة في «الجمع»، و «القبيلة» و «الأمة».
         - 8 –

«الكتاب» الذي كتبته مرتدياً قناع المتنبي، إنما هو نشيد داخل «غربته» القديمة وداخل الغربة الحديثة المتواصلة.

نعم، لا يزال شعر المتنبي صامتاً.

«الكتاب» محاولة أولى لجعله ناطقاً.

أدونيس

*****

- شاعر الانتهازية بإفراط-

 أطرح السؤال مجدداً: من هو المتنبي؟ صورة بأنف محدب، وعينين غاضبتين، وحاجبين منخفضين عند ملتقى الأنف، مرتفعين عند الصدغين. كبير العمامة. مستدير اللحية. مفتول الشاربين: العزم، والتصميم، في زعم الرسم التخيلي على معنى الفراسة العربية. والصورة نصفية، أعني الصورة المعتمدة رسماً للشخصية في متحف من متاحف أرض الشام، أنشأها حبر ملون من مطالع القرن، ثم نحا بها التعميم على سائر الأمصار اقتباساً بسواد على بياض. أما هوية الرجل الشاعر فعلى ضربين، قاسمهما الإرادة والتصميم من كرم ثابت في التصنيف الثابت كالرسم بالصورة. والضربان هما: الفخر بالذات مدحاً للنفس، ومدح الآخر وهجاؤه، وبينهما الحكم خالصاً بطموحه اللامحدود، في شهر فحل.

فلنحاول، في معرض الرواصد البينة، «تفكيك» الرسم الشخصي المدروس النسب في توزيع جوارح الشاعر، النصفية، على الخطوط التي هي إطار تخومها، وحدودها المطلق:

أ - شغف (شاغل) بمدح الآخر نزوعاً الى عطاء ما.

ب - شغف بامتداح الذات.

ج - شغف بامتداح الذات في مرآة الآخر.

د - شغف بامتداح الآخر في ذاته هو.

هذا تحصيل النظر العمومي فيه شاعراً. فهل العناصر، مجتمعة بلا «تفكيك»، يجمعها ناظم لا حدود لفخره بكيانه، أم الأمر يستوجب اعتماد تلك العناصر كما هي، على أساس ترتيب «واقعي» لمكونات المتنبي شخصياً؟

لعل الصفات، التي يحتكم اليها النظر النقدي في تعيين الموصوف، تتطهر من «خيال» النقصان، وتتراكم عناصر الشخصية على نحو يعصف بسياق العقل في المراتبة، فينعقد «المشهد» كالتالي، بالنتائج وبنفيها:

شاغل المتنبي، في مدح الآخر، ليس كسباً لعطاء، على مذاهب المشتغلين بالشعر تكسباً، بل الإقامة في ملكية يزاحم بها ممدوحيه(!). شاغل المتنبي، في مدح الآخر، هو «صقل» المشهد الأنقى معنى كي يخص به نفسه (!). شاغل المتنبي، في امتداح ذاته، «محو» مدحه الآخر بإقامته لصفات هي سقف بنائه المدح لنفسه، وما تحته لسواه (!). شاغل المتنبي، في مدحه الآخر، ميله النزق الى النقض عبر الإبرام المتواصل (!).

فما هي القراءة الواقعية، بألفاظ لا ميل في مسوغ سوقها على عاهن التوصيف الشخصاني، لكل هذا، لو تعلق الأمر بشخص غير المتنبي؟:

أ - النرجسية بإفراط.

ب - النفاق بإفراط.

ج - الانتهازية بإفراط.

د - التقلب بإفراط.

ولربما قيض للدرس ان يعيد مبالغة المتنبي، المتواصلة في توليد «المرافعات» الشعرية عن شخصه، الى شعور النقص المفرط بازاء ما يولده مدح الآخر من «مهانة» داخلية، مردها المعرفة باللاإنصاف الحاصل من قول لا يستقر على مقوله (مدح لا يستقر على ممدوح). والأرجح ان الترف المشمول بالخوض في معنى «القلق» عنده، من مقوضي الوقائع لترتيبها في سياق «الهمة الجسورة»، ونزوع النفس الى «الغامض النبيل»، لا يستقيم في بناء هذه الخاصية، لأنه - بلمس الخيال والنظر معاً - خيبة من تحصيل سلطة لا تستكمل في ظل أي ممدوح. انها معرفته الجلية، شأناً بعد آخر في المدح والتقرب من ممدوحيه الأقوياء، انه ينساق - بإرادة مفرطة في تسامحها - الى قنص في عراء النفوس (نفوس الحاكمين) لا مخرج منه الا بما تهبه متاهته من «استقواء» بالكلمات شحذاً شعرياً، كي تستقيم له أملاً يعرف العاقلون في القراءات انها متخمة باليأس، بل تصير الكلمات، وحدها، حضور ما لا يكونه هو - أي المتبني - المنجرف الى غيابه في المدائح، كونها سلطة إضافية، معنوية، الى سلطة الممدوح الواقعية، التي تحجب ما سواها، وتزدري ما سواه.

سليم بركات

*****

- كيف نحرره من سلفيتنا الحداثية-

 منذ ما قبل المتنبي حاول الشعراء التمرد بتحرير الرؤية المقيدة، أحياناً بذم الدنيا، أحياناً بعشق الغلمان، أحياناً بالخمر، وحاولوا أيضاً التمرد بإعادة تشكيل الشكل، إما بطعن الطلل، أما بطعن سلم الأغراض الشعرية، إما بجنوح البديع إلى أقصاه. لكن المتنبي لم يفعل أياً من هذه، كأنه يخفي انقلابه عن الأعين، يقوم به في المكان المظلم. كأنه لا يبحث في دولة الشعر عن أساليب جديدة لتطوير الدولة التي لن يعمل فيها، وكأن الشعر قلبه ولن يبخسه، أما عمله فشأن آخر. ألهذا يمكن أن اختار المتنبي صديقاً خصوصاً بعد أن فترت حماستي لأقاويل الحداثة ودعاواها ما دامت تحجب الشعر ذاته، ومنذ ما قبل رحلتي مع القراءة. وغالب الشعراء الذين عاصرتهم لا يميلون إلى المتنبي ميلهم إلى سواه، هكذا صلاح عبد الصبور كمثال، مثله في ذلك مثل الذين سبقوه: المازني والعقاد وزكي مبارك وطه حسين. ومثل آخرين كان المتنبي عندهم يلوح بقلب يشبه قلب نيتشه ورأس على غير مثال، رأس مشوش موتور. وقيمته، أي المتنبي، تنحصر في كونه ذاتاً محمومة وفاعلة، يقدرونها أكثر من تقديرهم لنتاجه. ألهذا يمكن أن أختار المتنبي صديقاً بعدما رأيت عينيه تعملان دائماً في خدمة قلبه، وفي سياق ثالث وجدت أن بعض الشعراء يستهجنون الإعجاب العام بالمتنبي وكثرة حفاظه وتداول أبياته في كل معرض من معارض الاستشهاد والاقتباس، لأن هذا دالة على أنه قد يكون شاعر العوام، فيما هو أيضاً شاعر المناسبة. والعبارة هكذا تخبط أحشائي لشيوعها على رغم أنها حجبت الشعر العربي كله خلف قشرة رخوة اسمها المناسبة. وإذا كان طه حسين قد كشف عن كراهية للمتنبي قابلتها محبة عند محمود شاكر، فإنني أعتقد بأن طه كان يرى في المتنبي تمثيلاً كاملاً لثقافة يشعر طه أنه محكوم بالثورة عليها، تلك الثقافة التي تحتفل كثيراً حسب لغتها برجولة الشاعر القادرة على أن تخرج البيت مخرج المثل، وأن تُحكم التسديد إلى الغاية وتقتصد إلى الحد الواجب وتحسن تخير الألفاظ التي يؤدي بها المعنى وتعرف حلاوة صوغ هذه الألفاظ، وتعليق بعضها ببعض. وكلها معاً اجتمعت في شعر المتنبي لتجعل منه المثال الكامل لثقافة سعى طه حسين إلى تبديل مساراتها ربما من الصحراء إلى البحر، ربما من الشفاهة إلى التدوين. الغريب أن شعرنا الراهن مازال شعراؤه الشفاهيون الذين خامرهم حلم المتنبي هم الأكثر حظوة وإن كانوا أقل إقناعاً من إقناع المتنبي لنا، لأن شفاهة الشاعر الآن تشبه سرج الناقة. كما أن سيف الدولة، ممدوح المتنبي، كان أكثر إقناعاً من ممدوحيهم، أو على الأقل أكثر فهماً لشعر شاعره وأكثر ملائمة، كيف يمكن، إذاً، أن نحرر المتنبي من سلفيتنا الحداثية، كيف يمكن أن نحبه ونحب تناقضاته الغنية، من دون عُقد تدل على تناقضاتنا الفقيرة؟

عبد المنعم رمضان

 

 

المصدر: الحياة



 

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...