«الجزيرة» إلى «الجهاد» في سوريا «من المسافة صفر»

19-11-2016

«الجزيرة» إلى «الجهاد» في سوريا «من المسافة صفر»

مساء الأحد الماضي، كنّا على موعدٍ مع برنامج جديد يحمل اسم «المسافة صفر» على قناة «الجزيرة» القطرية. لم تكن الحلقة الأولى التي حملت عنوان «بين المقاتلين في سوريا» بريئة من اللعب بوعي المشاهد. كانت أشبه بمادّة للتعاطف المجّاني مع فصائل المعارضة المسلحّة بأكملها. هذا البرنامج الذي يعرّف نفسه بأنه «برنامج وثائقي يستعرض القضايا الشائكة في المناطق الساخنة من المسافة صفر» كان في حلقته الأولى أشبه بجهاز تعبويّ للمعارضة. وضعتنا مقدّمة البرنامج، سلام هنداوي، أمام مقاربة «نوعيّة» لفصائل المعارضة. مقاربة تحاكي تحديات فصائل المقاومة في قطاع غزّة. عبرت هنداوي أحد أنفاق حركة «أحرار الشام» في حلب القديمة، وبدأت تُصيب قلب المشاهد بالقول: «تواجه الحركة تحديات كبيرة في حفر النفق، أهمها أن النفق يتواجد في مناطق صخرية، فضلًا عن الرطوبة العالية التي تفسد عمل المتفجرات». صحيح أن المذيعة ليست في قطاع غزّة، بل في الشمال السوري. لكن لا مشكلة لديها في إسقاط حالة على أخرى، من دون الالتفات لأيّ ظروف ذاتية أو موضوعية تفسِد التوأمة بين الحالتين.
في هذا الإطار، سألت هنداوي أحد عمّال النفق عن المدّة التي يعملون فيها داخله، ليجيبها بالقول «إحنا بنشتغل 24 على 24». انتقلت بعد ذلك إلى «مطار تفتناز» العسكري لمقابلة «أبو مصعب» المسؤول عن الأنفاق في الحركة. ارتسمت البسمة على وجهه حين قال «نحن نستشير الإخوة في غزّة في مسألة الأنفاق، لأنّ لديهم خبرة واسعة في هذا المجال». كأنّ البرنامج بذلك يحاول أن يقول لنا إنّ فصائل المعارضة تنحت في الصخر أيضًا، وقد يقضي بعض أفرادها نحبهم على قاعدة «شهداء الإعداد»، كما في غزّة تمامًا. ما يعزّز هذه الفرضية هو التعامل مع النظام السوري والعدوّ الإسرائيلي على مستوى واحد، إذ اتفقت المذيعة وكلّ ضيوفها «الجهاديين» في الحلقة على أنّ النظام هو «عدو» علينا أن «نثخن الجراح» فيه ونعود إلى قواعدنا بسلام، كما جاء على لسان قائد معسكر «الانغماسيين» في «أحرار الشام»، أبو فاروق الذي قال: «إننا لا نزود أبناءنا بأحزمة ناسفة، بل ندرّبهم على أن يثخنوا بأعداء الله ثم يعودوا».
تنقّلت المذيعة بين معسكرات التدريب المختلفة، وبدأت تشرح لنا المراحل «الشاقّة» التي يمرّ بها المقاتلون. صور بانورامية واسعة للمكان، مع سردية واضحة مفادها أن هذه «النخبة» هي اعتزالية بالدرجة الأولى. ترك أفرادها كلّ ما خلفهم، وربما تحمّلوا شقاء الغُربة من أجل «تحرير» سوريا من «الطغيان». الخطير هنا أنّ البرنامج يحوّل تلك السردية إلى نوع خاص من الامتياز. امتياز يمكن أن يحظى به المشاهد في حال التحاقه بصفوف المعارضة المسلّحة، لكن كيف؟
 ببساطة، كانت رسالة الحلقة أشبه بدعوة مفتوحة للمشاهد الساذج ليولّي وجهه شَطْر سوريا، ويقف مع «إخوته» في «الجهاد» هناك. يمكننا ملاحظة ذلك بسهولة من تبيان «محنة» المعارضة في مسألة التصنيع المحلي. تدخل هنداوي أحد المصانع العسكرية التابعة لـ «أحرار الشام»، وتقابل «أبو جعفر» أحد مؤسسي التصنيع في الحركة. يقول لنا الأخير إنّ الحركة تصنّع 100 قذيفة هاون يوميًا، فيما تذهب هنداوي بنا إلى معنىً آخرَ أكثر إبداعًا. تخبرنا المذيعة بأنّ «أحرار الشام» استطاعت أن تتفوّق في هذا المجال على الفصائل الأخرى من رحم الحاجة. كأنّها بذلك تقول لنا إنّه من داخل الألم الكامن في الحصار، تمكّن «المجاهدون» من أن يربّوا الأمل ويعوّلوا على أنفسهم بالدرجة الأولى. مقاربة مماثلة بحذافيرها لصورة قطاع غزّة المحاصر الذي لجأ إلى التصنيع المحليّ في حروبه الثلاث التي خاضها.
تأتي لحظة الصفر التي تعاينها هنداوي من «المسافة صفر». تشارك في الاستعراض من مدخلها الخاص، فتكون ابنة التجربة الجديدة أيضًا. تجربة قصف مواقع النظام السوري براجمة صواريخ جديدة بعد إجراء تعديلات عليها. ترافق «أحرار الشام» في هذه التجربة، حتى تعلو صيحة «الله أكبر» بنجاح المهمة. لا مشكلة لدى المذيعة مع الدّم ومتابعة القتل عن بُعد، إن كان أفراد النظام هم الضحيّة.
تلك الصيحة تخترق آذاننا أكثر من مرة في الحلقة. لكن هذه المرّة بتوقيع «أبو أمجد الحمصي» قائد «كتيبة التاو» في «جيش النصر»، أحد فصائل «الجيش الحر». إنها صيحة «ثورية» بامتياز وفقًا للبرنامج، بإمكان أثرها أن يتسرّب بسهولة إلى جسد المشاهد الساذج، بعد تدمير إحدى الدبابات السورية على يد «جيش النصر». يأتي الآن دور الجهاديين «المهاجرين»، فتضطر هنداوي إلى ارتداء النقاب لتتمكّن من مقابلة «أبو عبد الله البخاري» القادم من أوزباكستان، والذي قاتل مسبقًا في أفغانستان والبوسنة. تخبرنا عن «مميزات» هؤلاء المهاجرين بالقول: «إنهم يتميزون بالشراسة في القتال، ولا يزالون يتوافدون إلى سوريا»، ثم تصطحبنا إلى إحدى مدارس الأوزباك والنازحين السوريين، لتضع أمامنا صورةً من الاعتدال بدلًا من التطرّف الموصومين به. كلّ هذا بجانب فرز طائفي مقيت طوال الحلقة، وتجييش حاد ضدّ العلويين والأكراد، مع إعطاء الميكروفون لضيوف الحلقة للتعبير عن مشاعرهم «الدافئة» تجاه الأكراد، بالقول «الكرد شعبنا، إحنا منو وهو منّا. كانت صعبة بالأول علينا، بس هم اضطرونا لنقاتلهم». جملة تصلح لأن تصبح أوبريت غنائيا يغنيّها «الجهاديون»، ومن تحتهم دم السوريين.

عروبة عثمان

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...