ندرة اليازجي في : المساواة الجوهرية

08-06-2006

ندرة اليازجي في : المساواة الجوهرية

الجمل :  إن تصنيف البشر يؤدي إلى التفريق بينهم ، وبالتالي إلى لا مساواتهم. لقد نشأت طبقة من الناس أو بالأحرى مجموعة منهم تعتقد أنها تتميز عن غيرها بصفات اجتماعية. وهم يفتخرون بتلك الصفات التي تحلَّوا بها وصاغوها على نحو يتفق وموقفهم من الحياة وسلوكهم في المجتمع. ويعتبرون أن من يتحلى بها هو إنسان له أصالة المحتد وشرف المولد.
      يؤدي هذا التصنيف إلى صراع عنيف بين أبناء هذه البشرية . وتتولد عقد النقص عند الفقير وعقد العظمة عند الغني ، ويتعرض كلاهما للنقص. وهكذا، تصبح البشرية مريضة في نفسها. وأنت تعلم شدة هذا المرض ووطأته. فالفقير متذمر وحاقد وناقم ، ولا يرضى بمركزه الاجتماعي لأنه ينظر إلى وجوده من خلال المزايا والمفاهيم التي أوجدها التصنيف. ويجد أن تلك المزايا لا تنطبق عليه فلا يرثها ولا يورثها. وهكذا، يبقى خارج دائرة المفاهيم. ويعتقد أن الشقاء والتعاسة يخيمان عليه وأنهما من نصيبه. إنه برم بالحياة حتى ولو كان يتظاهر بالقناعة .
      أما الأغنياء فإنهم صرعى عقدتهم أيضاً. إنهم مرضى الكبرياء والغطرسة وحب العظمة الفارغة والسعي وراء المفاهيم التي خلقوها. وهكذا، تتشكل في أعماقهم عقدة الطبقة أو عقدة الجماعة المميزة. ففي زعمهم أنهم يمتازون عن غيرهم. وأماّ العناصر والعوامل التي تخلق هذا الامتياز فهي تلك التي أدت إلى إفقار الغير. إنهم يعتبرون الغنى والألقاب المتوارثة من دواعي وأسباب امتيازاتهم. ولماّ كانوا يحتكرون هذه الامتيازات فإنهم يعتبرون أنفسهم جماعة مختارة.
      يعجبني الاعتقاد أن الإنسان يولد في عزلة عن كل المفاهيم ، لكنه يتصف بها بعد أن يكبر وينمو  ويتعلق بها لأنها تصبح جزءاً منه. فهو قد تعلم أن يعيش في وسطها ، وتعلم أن يعمل بها ، وتعلم أن يتعلق بها لأنها تمثل وجوده التجمعي وتميزه عن غيره. لقد أوجد الكون إنساناً طبيعياً ولم يخلق معه ميزاته . إنه لم يرث صفات على الإطلاق، لكنها أصبحت مكتسبة على مر الزمان. لقد اختار له أهله اسماً كما اختاروا نوعية حياته ومعيشته. ولذلك، فقد ألصقوا به الصفات التي تعتبر من أصول وجودهم الاجتماعي. ولذلك ، يكتسب الإنسان تلك الصفات الاجتماعية أو التجمعية ، وينتمي إلى المجموعة التي ولد فيها ، ويعتبر أنه فردٌ منها وحامل لوائها .
      لقد وجد الإنسان في حال طبيعية كغيره. فكما تشكل الفقير في أحشاء أمه كذلك تشكل الغني. وكما ولد هذا ولد ذاك. والدوافع التي دفعت بوالدَيْ الفقير هي ذاتها التي دفعت بوالدَيْ الغني. والفرح الذي اجتاح أهل هذا هو ذاته الذي اجتاح أهل ذاك. وكيفية الوضع تمت لكلتا الولادتين وفي حالة واحدة.
      إن الطبيعة لم تبخل على إنسان دون إنسان ، ولم توزع المواهب على أحد دون الآخر ، ولم تعط أسباباً للوجود وعناصر معينة لهذا دون ذاك . ولم تفرق بين هذا وذاك. ولم تهب إنساناً أكثر من إنسان من حيث الوجود الكامل ومع ذلك, ومنذ ولادة الإنسان، اكتسب واحد أكثر من الآخر، وربح واحد أكثر من الثاني. وأخذ واحد أكثر من الآخر . إن هذا الكسب لم يكن على حساب الطبيعة بل على حساب الإنسان الذي يؤدي إلى التناحر الاجتماعي . لم يكسب واحد من المواهب الطبيعة أكثر من الآخر ولم يربح من حكمة الطبيعة وذكائها وعقلانيتها أكثر من غيره. ولكنه حصل على مكاسب تجمعية أكثر بكثير من غيره . وفي عرف الطبيعة لا تعتبر هذه المكاسب مكاسب حقة أو صفات حقة ، وذلك لأنها لا تفرق بين إنسان وإنسان من حيث الجوهر ، ولأنها تساوي بين الناس من حيث الكرامة والوجود .
      فمن أين أتى تصنيف البشر ؟ لقد أتى من الإنسان ذاته ... الإنسان الذي أوجد حدوداًُ بينه وبين أخيه وحاول أن يترفع عليه، وأن يستثمره ويستغله أبشع استغلال. ولذلك، وقع واحد تحت تأثير الآخر. وهكذا وجه الإنسان قواه لاستغلال غيره. ويعود هذا الاستغلال إلى التصنيف الذي قام به وإلى تحديد الصفات وانتحال بعضها وتجريدها من بعضها الآخر. وهكذا، أدى هذا الانتحال إلى اللامساواة والفوارق.
    هذه الحضارة موبوءة الكبرياء والعقد النفسية التي تقوم على تصنيف الناس وتقييمهم نسبياً، وعلى المفاهيم التي خلقها الإنسان...ومتى كان الإنسان أفضل قيمة من الإنسان؟ .
    أدت هذه الحالة إلى مفهوم تجمعي يسمى بالانتهازية أو الوصولية. وهذه الانتهازية هي "فلسفة" العصر ومبدؤه المتأصل في البشر. ولما كان الإنسان عبداً لأصنامه التي هي القيم التجمعية المتعددة، فهو يدأب بكل قواه للحصول عليها. وإذا لم تكن هذه القيم والمفاهيم نتيجة خلق جيد أي لم تكن وليدة الطبيعة وبالتالي ليست خيراً، فإن الإنسان يدأب ليحصل عليها بشتى الوسائل ومختلف الأساليب. فهو لا يهتم إن كذب، إذا كان الكذب يحقق له مبتغاه. ولا يهتم إن خادع الناس إذا كان الخداع يكفل له الوصول إلى الكراسي أو إلى المرتبة التي يتمناها. وهو لا يهتم إن باع نفسه إذا كان هذا البيع يشتري له رغبته.
    لقد باع الإنسان نفسه. فهو يبيع الكلام إذا كان سياسياً. ويبيع نفسه عندما يطلق العنان للسانه بالوعود الكاذبة وتخدير ضمير الناس. ويبيع نفسه عندما يحدثهم بما لا يعتقد وبما لا يؤمن. ويبيع نفسه عندما يتخاذل أمام الناس ليحصل على "رضاهم". ويبيع نفسه عندما يخرج عن نفسه، فيصور لهم نفسه بأنه محب وعطوف وغيور على مصلحة الناس. ويبيع نفسه عندما يصل إلى الكرسي بالوسائل الكاذبة. لقد وصل...وهذه هي الوصولية:والوصولية هي الانتهازية لأنها استغلال للوسائل اللاأخلاقية وتسويغها. وهكذا "يصل" الإنسان بوسائله التي استطاع أن يستغلها. فهو إنسان يرقص الرقصة التي يطلبها الناس حتى يجذب اهتمامهم وينال رضاهم. فإذا جذبهم وحصل على مبتغاه، أدار ظهره لهم وأبقاهم في ظلمتهم. وعندئذ... ماذا يمكنهم أن يفعلوا؟ إنهم يثابرون...ويسيرون على الطرق ذاته. فإما أن يعود إليهم بالأساليب ذاتها أو بأساليب جديدة مختلفة ويوقع بهم مرة أخرى، وإما أن يعود إليه غيره فيقوم بتمثيل الدور ذاته ليحصل على النتيجة ذاتها.
    لقد وصل ذلك الشخص إلى مركزه وبات لا يتعرف على أحد. لقد حقق هدفه ومركزه التجمعي بالانتهازية، بتخدير الأفكار، بقوله أنه خادم للناس، بإصراره أن يفضل المصلحة العامة على مصلحته وبترديده أنه أمين على مصالح غيره، إنه ينادي بكل هذا ويدعي أنه الوحيد المؤهل لحمل هذا العبء الثقيل.
    ما هي إرادة الناس؟ إنها إرادة ضعيفة هشة. وأين هي إرادتهم؟ هي في بساطتهم التي استغلها     "راقص الحبل" هذا. وأين هو التمثيل الصحيح؟ إنه في كلمات منمقة وأساليب ملتوية تخدر الجمهور فيخضع ويستسلم. وهكذا، يقول الشارعون إن الشعب يسلم إرادته ... إنه الاستسلام لا التسليم .. إنه الخضوع لا الإرادة ! .
    إن إنسان هذه الحضارة ممثل بارع يتظاهر بما لا يبطن، وهو قادر على إخفاء أمور كثيرة لم يعودوا يطالبونه بها. فهو يُظهر لهم الخيال دون الحقيقة والظل دون الشخص. وماذا يمكن أن يعمل المتفرجون؟ إنهم يصدقون ... فيستسلمون ويرضخون.
    إن إنسان هذه الحضارة ممثل ميكيافيلي بارع. فهو يستعمل كل الوسائل لكي يفوز وينتصر ويكسب. ومتى يكسب فإنه يدير ظهره. وإذا طالبه أحد بالعودة إلى المسرح ليروه كما كانوا يرونه سابقاً، فإنه يرسل لهم وفوداً تسليهم "وتلهيهم" عن واقعه وواقعهم. وهم في كل هذا لاهون! وهو في كل هذا يلهو بكرامة الإنسان التي اعتدى عليها وخذلها.
    إن حضارتنا هي حضارة الانتهازية والوصولية. هي الانهزامية بكل معنى الكلمة. وإنسان هذه الحضارة فارغ في عمقه : لقد أفرغ كيانه من الشرف والضمير والوجدان والكرامة، وانتزع نفسه من واجباته ومسؤولياته. و في القديم قيل: "من مات ضميره مات وجوده, ومن مات وجوده ماتت قيمته". وعندئذ  تندثر معالم الحضارة الحقة لتقوم مكانها حضارة الإنسان الانهزامية والوصولية.
    إن حضارتنا هي حضارة استغلال الحقيقة الإنسانية، هي حضارة تخدير العقل وتوجيهه كآلة يتصرف بها المستغل كما يشاء. هي التظاهر بالفضيلة والتخلي عنها بآن واحد. هي اعتناق المبادئ الصالحة لفترة قصيرة جداً والتخلي عنها نهائياً. هي القضاء على الغير إذا كانوا منافسين. هي المهارة التي يعتمد عليها "راقص الحبل" لكي يحبط أساليب الغير ويفوز بالغنيمة. ولذلك، تحتضر قيم الحضارة. 
   
        
     

      
    

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...