الاسلام والدعوة إلى تجديد الدلالة

19-12-2006

الاسلام والدعوة إلى تجديد الدلالة

يعد التجديد عملية ديناميكية في الإسلام من خلال تأكيد القرآن الكريم على قانون التجديد المستمر في حياة الفرد والجماعة من خلال تركيزه على أن التغيير عملية مستمرة كقانون في حياة الفرد والجماعة كما في قوله تعالى فى سورة الرعد آية 11: «إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ». هذا القانون الإلهي يعد عملية ديناميكية مستمرة ودافعاً للأمة نحو تطوير ذاتها وتجديد واقعها. وذلك على اعتبار أن الإسلام بمعناه العام دين الله للبشرية، كما جاءت به الأنبياء والرسل جميعاً هو الأساس في تطوير حياة البشرية، والأخذ بيدها نحو التقدم والرقي. وكان الإسلام كخاتم الأديان دليلاً على أن البشرية بهذا الدين بلغت درجة الوعي والتطور الذي لا تحتاج بعده لنبي جديد أو رسالة جديدة، وهذا يفسر لنا لماذا كان الإسلام آخر الأديان ولماذا كان محمد (صلى الله عليه وسلّم) آخر الرسل؟ وهذا يؤكد أن طبيعة هذا الدين، وحياً وفكراً، هي التي قادت البشرية إلى ما وصلت إليه من رقي علمي واجتماعي وثقافي وحضارة عظيمة، وإن هذا التقدم والرقي نشآ في البيئة الإسلامية ثم انتقل منها بعد فترة طويلة إلى الغرب الذي أسس على هذا الفكر نهضته الحديثة.

ولهذا أختلف مع إقبال في تفسيره لختم النبوة أن البشرية وصلت إلى مرحلة من الرشد تؤهلها لكي تعتمد على وسائلها الخاصة، وهذا واضح في قوله: «إن النبوة في الإسلام لتبلغ كمالها لاستحالة بقاء الوجود معتمداً إلى الأبد على مقود يقاد منه، وإن الإنسان لكي يحصّل كمال معرفته لنفسه ينبغي أن يترك ليعتمد في النهاية على وسائله هو». فالبشرية وصلت إلى نضجها العقلي والعلمي بهذه الرسالة الخاتمة، وعلى رغم هذا فهي بحاجة دائمة إليها لهدايتها ولإشباع حاجة الإنسان الروحية والنفسية ولتنمية ملكاته الإرادية لإحداث نوع من التوازن بين المخترعات العلمية والتكنولوجية التي هي ثمرة من ثمرات العقل الإنساني وبين حاجته المعنوية إلى الاطمئنان والسعادة الروحية التي لن يجدها إلا في دين لا يتعارض مع العلم ويتفق مع مقتضيات العقل.

ويبدو مما سبق تأثر إقبال في حديثه عن ختم النبوة التي شكلت محوراً أساسياً في كتابه عن التجديد الديني في الإسلام بفكر التنوير الأوروبي في نقد الدين وخصوصاً في القول بأن الأديان أدت مهمتها وأن البشرية وصلت إلى مرحلة من النضج العقلي والعلمي تؤهلها لكي تنطلق بعيداً من الدين، كما لم يكن - إقبال - بعيداً من التأثر بفكرة التطور التي أحدثت تأثيراً عميقاً وجذرياً في مجال العلوم الإنسانية في بداية القرن العشرين.

وهكذا يتضح لنا إن الوحي في الإسلام منذ بدايته أكد على أهمية العلم وجعله المحور الرئيس في رسالته، واستثار العقل، وفجر طاقاته في إنشاء حضارة شاسعة مترامية الأطراف استوعبت في أحشائها الحضارات السابقة وتجاوزتها إضافة ونقداً بما يؤكد «أن هناك تلازماً علياً بين نشأه الدين وقيام الحضارة في حال الإسلام، فما كان يمكن تصور قيام حضارة في شبه الجزيرة العربية آنذاك من دون قيام الإسلام، فما عسى أن يكون في الإسلام من مقومات أدت إلى قيام حضارة عقب ظهوره.»

علاوة على ما سبق قدّم الإسلام تصوراً مبايناً للمسيحية سواء في صدد بدء الحياة على الأرض أو مهمة الإنسان كما حددها له الله، فليس نزول آدم عقوبة له على خطيئة وإنما ليكون خليفة الله في أرضه ليعمرها ويُمكن له فيها. وعلى هذا فما ذهب إليه بعض الباحثين من أن نشأة الدين لا تؤدي بالضرورة إلى قيام حضارة، فقد يظهر دين في أمة من الأمم وتظل سيرة التاريخ من دون منعطف جوهري كما في البوذية أو اليهودية، وقد يؤدي انتشار الدين إلى انهيار الحضارة كما ذهب إلى ذلك بعض الباحثين من أمثال جيبون إلى أن المسيحية مسؤولة عن تدهور الحضارة الرومانية لكن الإسلام بمكوناته يشذ عن هذه القاعدة.

فالإسلام بمعناه العام - وهو الدين الإلهي الذي أرسل به الأنبياء والرسل جميعاً بعبادة الله – هو الأساس في تطوير حياة البشرية. والأخذ بيدها نحو التقدم والرقي في سلوك البشر وفي مسيرة البشرية، فحينما تنحرف الأمم الكبرى عن القيام برسالتهافيسود الظلم ويغيب العدل وتدخل البشرية في مرحلة من تكبر القوة الغاشمة وبطشها بالضعفاء، وتتدخل السنن الكونية فتعيد الأمور الى نصابها، حتى تستقيم مسيرة الحياة. وهذا قانون إلهي أكد عليه القرآن الكريم وهو يقص علينا قصص الأمم الغابرة كقوم عاد وثمود وفرعون ولوط وغيرهم ممن تكبروا وطغوا وانحرفوا عن جادة العدل والحق والصواب، وهكذا كان مجيء الإسلام تصحيحاً لهذا الطغيان والفساد الذي انغمست فيه البشرية فساد الظلم وكسد سوق الحق والعدل، تطبيقاً لهذا القانون الإلهي الذي لا يتخلف ولا تعوقه العوائق عبر تاريخ البشرية الطويل.

فحينما اندحرت بيزنطية، وتراجعت روما، نهض الإسلام من هذه الجزيرة ليصحح التطور العالمي، ويقود التجديد ويضع البشرية على طريق الحق والصواب، ليس من طريق حروب كبرى، وإنما من طريق الأخلاق والسلوك. وهكذا «تحولت الإمبراطوريات من ثم إلى كيانات هامشية أمام سلوك خالد هو السلوك الإسلامي. إن التطور يكيّف السلوك دائماً، كما أن السلوك يكيف التطور. وقد اختلف بعض الفلاسفة حول: أيهما الذي يقيد الآخر؟ السلوك أم التطور؟ ومتى يتم ذلك؟ هنا نلقي شبه إجماع على أن التطور يقيد السلوك في اللحظات الانسجامية. حينما تكون المسيرة إيقاعية فيملي عليه التغيير، أما في حال التأزم فإن السلوك هو الذي يقوده إلى التطور. وقد تجاوز الإنسان الأزمات الكبرى بسلوكه لا بتطوره. ومن الخطأ بمكان أن نتبنى القول بأن التطور قاد البشرية في مجتمعاتها القديمة، وإنما السلوك – بمعنى الرسالة الإلهية، والوحي الإلهي – هو الذي قاد هذه المجتمعات التي كانت تعيش في الصنمية الوثنية غير قادرة حتى على تعديل أبسط الأمور حولها».

فالإسلام كوحي إلهي منزل ليس مجموعة مواصفات بشرية، نبّه الرعيل الأول من المسلمين من خلال مبادئه وأحكامه، على قانون كان ولا يزال نافذاً لا يشذ ولا يلحقه أي خلف. يتلخص هذا القانون، في أن من شأن الإسلام أن يبعث على التطور من دون أن يتطور هو في حد ذاته، بمعنى كلما كان المسلمون أمناء على مبادئ الإسلام وأحكامه، لا يعبثون بها ولا يغيّرون فيها، فإنه يدفع بهم إلى مراقي التقدم والتطور من دون توقف. وفي الوقت الذي يتلاعبون به ويستبدلون شرائعه وأحكامه بغيرها من قوانين وأحكام تنبعث فيهم عوامل التخلف والركود.

من جهة أخرى، فالسؤال الذي يفرض نفسه على مفكري الإسلام ويتطلب منهم التعمق والتأمل هو: هل لمتطلبات التقدم المادي والتطور التكنولوجي من حدود ينبغي للإنسان المسلم أن يقف عندها تطلعه إلى آفاق العزة والمنعة والقوة، أم عليه أن يأخذ بجميع ذلك من غير تمييز؟ مع العلم بأن التطور المادي أصبح شاملاً لجميع مظاهر الحياة من الاتجاه إلى التحكم في النسل الإنساني والحيواني، إلى إنتاج أسلحة الدمار الشامل ونشرها فوق الأرض وفي أقطار السماوات. ويؤكد أحد المفكرين المعاصرين أن التقدم التقني والعلمي المعاصر، لا يقابله تقدم قيمي ولا فلسفي. وهذا ما يؤكد عليه في قوله: «ثمة ظاهرة في الواقع – وهنا يأخذ عالم الاجتماع والمؤرخ حقهما - لم تعد بالمطلب الفلسفي بل هي ظاهرة ملموسة تتضح باستمرار منذ أكثر من قرنين وهي امتداد نطاق الثورة التكنولوجية والعلمية على ظهر كوكبنا. فهذه الظاهرة امتدت إلى أقاصي المعمورة، ولا أعرف بلداً أو ثقافات غير مجبرة - رضيت أم كرهت على أن تأخذ في الاعتبار. فمن الواضح إذاً إن هذا التطور لوسائل إنتاج وللعلاقات الاجتماعية ولأساليب المعرفة المرتبطة بها ليس لها ما يقابلها في مجال تطور القيم ، ولا في مجال ممارسة القيم خاصة، ولا حتى في إيجاد المنظومات الفلسفية».

هذا التطور كان أمراً واقعاً في تاريخ الإسلام وكان له أكبر الأثر في تجديد الخطاب الديني على مر التاريخ الإسلامي بفضل جهود علماء المسلمين من خلال الاجتهاد الذي صار أصلاً من أصول الإسلام.

أحمد عرفات القاضي

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...