الدستور في فكر الحركات الإسلامية

20-10-2007

الدستور في فكر الحركات الإسلامية

يمكن القول إن الالتباس المفترض بين الإسلام والدستور ناشئ في الأساس عن التباس أكبر في فهم رؤية الإسلاميين للنظام السياسي وركائز مشروعه لإقامة المجتمع وعمارة الدنيا. وقديماً كان ثمة من يرفض الدستور لمجرد أنه غربي المصدر أو لمجرد عدم إشارته إلى الإسلام كدين الدولة الرسمي. والواقع، أن توجس أتباع الحركات الإسلامية من الديموقراطية ككل، والدستور بصفة خاصة، لم ينته بعد ولا تزال صوره تبدو من فينة لأخرى لكن، وفي المقابل، لا يزال هاجس الخوف من وصول الإسلاميين للحكم، ولو عبر آليات ديموقراطية، يسيطر على أذهان القوى السياسية ذات المرجعية العلمانية. ثمة التباسات مركبة ومعقدة إذاً تبدو على السطح أحياناً وتتخفى في لبوس ديني أو ليبرالي أحياناً أُخرى من دون مقاربة موضوعية لحلها أو لفض الاشتباك القائم في ما بينها. وفي كل الأحوال، فإن موقف المسلمين من الديموقراطية يبدو دائماً كما لو أنه بؤرة موبوءة ومسكونة بالتباسات لا تنتهي، حيث لا يتم النظر إليها كنظام حكم رشيد يقوم على الحرية والمشاركة الانتخابية والتعددية الحزبية وحق الأقلية، وإنما كرمز لهيمنة غربية - صهيونية تحاول إبعاد المسلمين عن دينهم وتفكيك بنية العالم الإسلامي في مجمله ونهب موارده.

الديموقراطية بهذا المعنى جزء من مشروع غربي للهيمنة، فالجماعات الإسلامية تشجب الأسلوب الغربي للديموقراطية ونظام الحكم لمجرد أنه آتٍ من الغرب «الحاقد والمتآمر على الإسلام والمسلمين»، وكأن هذا الغرب المتخيل طور عبر عشرات السنين فهمه للديموقراطية فقط ليغزو بها دار الإسلام وممالكه!!. وينسى هؤلاء أن اعتماد الديموقراطية كأساس ونظام للحكم، كان ثمرة نضال طويل وباهظ التكلفة، خاضه الإصلاحيون والثوريون من كل دين ضد مختلف قوى التسلط والقهر والاستبداد، وأنها لم تأخذ مكانها في الخطاب الإنساني وضمن أسس وبنى المجتمع المعاصر، إلا بعد كفاح مرير قدمت فيها الإنسانية العديد من التضحيات على مر العصور.

لا تنفك إذاً ذهنية المؤامرة تحكم سياق التفكير عند قطاعات كبيرة من أتباع الحركات الإسلامية في طول البلدان الإسلامية، وغير الإسلامية، وعرضها. وهو أمر ربما يعد مبرراً تاريخياً بالنظر إلى إرث الاستعمار الثقيل الذي أرهق كواهل تلك البلاد، لكن التساؤل الذي يفرض نفسه وبقوة هنا هو: لماذا استطاعت دول أخرى، عانت طويلا من ربقة الاستعمار، أن تتحرر منه ثقافياً مثلما تحررت منه سياسياً، بل وأصبح بعضها يقف موقف الند من المستعمر القديم؟!. هل المشكلة تكمن في بنية الثقافة العربية - الإسلامية كما لو أنها تحول بالفعل دون الإيمان بقيم الديموقراطية والتعويل عليها، أم إلى انظم الإسلامية المتسلطة والتي تتابع على ممالك الإسلام واحدة تلو الأخرى؟!.

الواقع، أن كثيرين قد استثمروا سوء الظن لدى المسلمين بالدستور الغربي وتجربته لتحقيق أهداف سياسية غير معلنة، ولا يزال هذا المنحى واضحاً، وإن بصورة أقل إلى الآن، فالسلطان العثماني سليم الثالث تم عزله في مستهل القرن قبل الماضي، تحديداً في سنة 1807م، استناداً لفتوى المفتي العثماني عطا الله أفندي والتي جاء فيها: إن كل سلطان يدخل نظامات الإفرنج وعوائدهم، ويجبر الرعية على اتباعها لا يكون صالحاً للملك!!. هكذا بمنتهى البساطة تم عزل السلطان لأنه يفرض على المسلمين دستور الكفرة ونظم حكمهم. وبالمثل استخدم السلاطين الحجة ذاتها في سياق قمع قوى المعارضة الداخلية، فحين أراد الشاه الإيراني محمد علي بن مظفر الدين القاجاري توجيه سهامه لحركة القوى الوطنية المناهضة لحكمه في البلاد سنة 1907، لم يجد أفضل من تلك الذريعة لفض التفاف الجمهور حولها، فأشاع أن النظام الدستوري الذي تدعو إليه الحركة يخالف الإسلام جملة وتفصيلاً، وأن أولئك الذين نقلوا أنظمة الغرب الكافر ألغوا في المقابل منصب الخلافة الإسلامية ليقيموا بدلاً منها نظاماً جمهورياً!!. وحين دعت الحركة اليمنية المعارضة لحكم الإمام يحيي، إبان ثورة 1948، إلى إقامة «الحكم الدستوري» ما كان من الإمام أحمد الشامي سوى أن بعث برسالة استنهاض واستثارة لشيوخ ونقباء القبائل اليمنية جاء فيها: «هل يرضيكم قتل الإمام وأولاده وأن يحل محل شريعة الله حكم القانون، وأن يُستبدل القرآن بالدستور، وتباع اليمن للنصارى؟!». وحتى عندما ألغيت الخلافة الإسلامية بالفعل على يد أتاتورك حاول الشاه رضا خان أن يثبت دعائم ملكه مستخدماً الذريعة ذاتها.

كانت كلمة الدستور حينئذ تقع في التضاد من القرآن الكريم باعتباره دستور المسلمين الأوحد، وساءت سمعتها لدرجة أن كانت تعني ألا يكون للمرء بيت ولا زوجة ولا دين!!. كما كان اليمنيون يهتفون بحياة الإمام والموت للدستوريين، ويحكي الشامي في كتابه رياح التغيير في اليمن قصة طريفة مؤداها أن كبير السجانين أتى إلى المحبوسين بتهمة الدستور مبشراً وقائلاً: أبشروا بالفرح، سيطلقكم الإمام جميعاً بعدما ألقى القبض على الدستور وزوجته في بيت الفقيه!!!. وإن دلت تلك الحكاية على شيء، وقد وقعت بالفعل، فإنها تدل على سوء الانطباع الناشئ لكلمة دستور في المخيال الإسلامي والذاكرة الإسلامية وكيف أن رفضه كان يعبر في الأساس عن رفض قاطع للمرجعية الغربية وإحلالها محل المرجعية الإسلامية، على رغم عدم وجود بديل ديموقراطي آنذاك في ما يتعلق بنظم الحكم السائدة. وفي كل أولئك، تبدو المرجعية الدينية في هذا السياق بمثابة المعيار الأوحد والمصدر الأمثل الذي تقاس به درجة الصلاح والاستقامة «إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان». كما كانت تمثل الجهة المختصة بإصدار واعتماد شهادات حسن السير والسلوك، وكان رفض الدستور يتم في الأساس احتراماً للذات والتماساً للخصوصية الحضارية وأيضاً لواذاً بالهوية الإسلامية الجامعة المانعة.

وتبعاً لرفض الإسلاميين للدستور يتأتى رفضهم أيضاً للأحزاب السياسية بدعوى أنها تساهم في تفريق شمل الأمة، وهو أمر متجذر وبقوة إلى الآن، فقد نشرت الجرائد المصرية تصريحاً للمفتي يصف فيه قوى المعارضة بأنهم تافهون ومرضى وأنه يتوجب على المصريين أن ينضموا تحت لواء حزب واحد، الحزب الوطني بالطبع، كما أكد شيخ الأزهر في تصريحات مماثلة أن القرآن هو الدستور الوحيد الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وعلى المسلمين أن يحتكموا إليه دون غيره من القوانين!!. ولا تزال فكرة الحزب السياسي تثير امتعاض رجال الدين على رغم انضمامهم جميعاً تحت لواء الحزب الحاكم الذي يصدر قرارات تعيينهم وترقيتهم. وفيما يعكس الدستور فكرة حكم الشعب، يؤكد الإسلاميون أن الحكم لله وحده وأن السيادة التامة للحق وأن الاحتكام يجب أن يكون للنص المقدس وليس لقانون وضعي يتعارف عليه البشر الناقصون!!. وفيما يوفر الدستور الفرصة لكافة القوى الوطنية للمشاركة في الحكم بغض النظر عن اعتبارات الدين أو الجنس، يخرج الإسلاميون كل من لا يدين بالإسلام من وصف «الأمة الإسلامية».

ولعل التجربة السياسية الإسلامية أثبتت أن الحكم لم يكن في وقت من الأوقات مطلقاً للأمة، فبيعة أبي بكر كانت فلتة بشهادة عمر وهو نفسه أوصى بالخلافة للفاروق والذي بدوره رهنها لستة من الصحابة اختاروا عثمان باعتبارهم أهل الحل والعقد ومحل الشورى، أما معاوية فحدث ولا حرج!!.

ليس بمقدورنا فض الاشتباك القائم ما بين الشريعة والدستور من دون الإجابة عن تساؤلات متعددة من بينها: هل يعد الدين في الدولة الإسلامية مصدراً للقيم أم مصدراً للسلطة؟!! وكيف يكون مصدراً للقانون، بحسب فهمي هويدي، من دون أن يكون مصدراً للسلطة؟!. كيف يمكن فهم قول بعضهم: إن شرعية السلطة في الدولة الإسلامية مرهون في قيامها واستمرارها بالتزامها بالعمل على إعمال القطاع القانوني الإسلامي في جملته، دونما تمييز وأن سيادة الشريعة وخضوع الجميع لها، حكاماً ومحكومين، من شأنه أن ينصب قانوناً أعلى فوق القانون!!!. هل الأمر يتعلق هنا بهيئة فقهية تشريعية كالتي يطالب بها حزب الإخوان حالياً والتي تتشابه وجهاز تشخيص مصلحة النظام في إيران؟! وكيف يبقى التشريع في جملته وتفصيله رهنا ببعض الفقهاء الدينيين؟!. ينطلق الإسلاميون في نقدهم للدستور من القول بكمال الشريعة استناداً إلى مصدر كل منهما، فالدستور نتاج بشري قابل للخطأ والنسيان مملوء بالثغرات، بينما الشريعة وحي إلهي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه يعلو ولا يعلى عليه «قانوناً أعلى من القانون». مؤكدين أن الفقه الإسلامي أوجد فصلاً كاملاً وعضوياً بين الجهة التي تصوغ التشريع وتستنبطه، والسلطة السياسية التي تتولى الحكم والتنفيذ، وأن هذا الفصل تميزت به الشريعة الإسلامية من بين النظم الديموقراطية كلها!! وسبقتها لتطويره منذ أكثر من ألف عام.

محمد حلمي عبد الوهاب

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...