الفاتيكان.. كنيسة تستعيد تاريخها

24-07-2007

الفاتيكان.. كنيسة تستعيد تاريخها

مازال بابا روما بنديكت السادس عشر يشعل حروبا فكرية ودينية، وكأن الرجل رجل معارك، وهو في الواقع رجل فكر ولاهوت، واختير لمنصب البابوية، ولا نظن أن اختياره كان بعيدا عن آرائه ومواقفه التي عرفت عنه قبل وصوله لمنصب البابوية.

بابا روما إذن، يمثل مرحلة جديدة في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية الرومانية، ولكنها مرحلة بدأت بالفعل بالبابا يوحنا بولس الثاني، وإن كان الكثيرون يفصلون بين الاثنين.

وهذه المرحلة لا تمثل مجرد أسلوب جديد في إدارة الكنيسة، بل هي مرحلة إعادة تأسيس دور الكنيسة عالميا، في محيطها الأوروبي ومحيطها المسيحي وأيضا محيطها العالمي. الأمر لا يتعلق إذن ببعض الآراء التي تثير موجات من الاعتراض، بل يتعلق أساسا برؤية حول دور الكنيسة وعقيدتها ورسالتها العالمية.

والمحاضرة المثيرة للجدل، التي هاجم فيها بابا روما الإسلام، أو هكذا فهم الأمر، تمثل الحلقة الأولى الكاشفة عن القضايا والمعارك الأساسية التي تستعد الكنيسة لخوضها.

فالمحاضرة التي بدأت باستعادة أقوال لإمبراطور بيزنطي، كانت في الواقع تستعيد تاريخ كنيسة روما ومعاركها الأساسية، وتستعيد أيضا هوية الكنيسة وتميزها عن غيرها.

فالبداية كانت بنفي العلاقة بين الإسلام والعقل، وكأن الإسلام دين يخاصم العقل، ولا يعرف للعقل مكانا في الإيمان الإسلامي. ولكن المحاضرة استمرت لتتناول العلاقة بين المسيحية والعقل، حيث يرى البابا أن تلك العلاقة بدأت مع القديس بولس الرسول، الذي كان له دور بارز في تحقيق الاندماج بين العقل والمسيحية.

وخلفية هذا الأمر تتعلق بالعلاقة التي قامت بين الحضارة والفكر والفلسفة الهيلينية أي اليونانية، وبين المسيحية، حيث يرى البابا أن تلك العلاقة حققت إنجازا مهما للمسيحية وإضافة بارزة، تمثلت في قيام العلاقة بين الإيمان المسيحي وبين العقل.

وهنا يرى البابا في محاضرته المثيرة للجدل، أن المسيحية الشرقية ورغم أنها قامت في موضع ظهور المسيحية، ورغم دورها في انتشار المسيحية، ورغم ما قدمته للمسيحية وتاريخها، فإنها افتقرت لتأسيس العلاقة بين الإيمان والعقل.

وبهذا يكون البابا قد أدان المسيحية الشرقية برمتها، واعتبرها صورة أقل تقدما من المسيحية، وقلل بهذا من دور المسيحية الشرقية في التاريخ المسيحي. وفي الوقت نفسه، فقد ربط البابا بين المسيحية الشرقية وبين الإسلام، من حيث ضعف العلاقة بين العقل والإيمان في كليهما.

وهنا تظهر المعركة الأولى لبابا روما، وهي معركة حضارية بامتياز، تقارن في الواقع بين حضارة الشرق وحضارة الغرب، وتستعيد مقولات تفوّق الغرب على الشرق، تلك المقولات التي صاحبت الحملات الصليبية، لأنها ببساطة تجعل من شعوب الشرق درجة في المنزلة الإنسانية وفي المنزلة الحضارية أقل من الغرب.

هذه المعركة الحضارية لم تغب عن الغرب، ولم تغب عنه فكرة سيادة الرجل الأبيض، ولكن نقول إنها غابت مرحليا عن الكنيسة الكاثوليكية الرومانية، ولكنها تعود لها الآن، لتعلن الكنيسة تميزها الحضاري، ومن ثم تميز مسيحيتها، ليس فقط عن الإسلام، بل أيضا عن أي مسيحية أخرى ليست غربية.

وهذا الموقف الحضاري لم يراع خصوصية كل حضارة، وأهمية كل حضارة في التاريخ البشري، بل نقول أيضا إنه لم يراع تساوي الحضارات والشعوب في الكرامة الإنسانية.

وهذا الموقف أيضا لم يراع أن مسيحية الشرق هي البداية، بل جعل من المسيحية الحقيقية أو الصحيحة، هي تلك المسيحية التي خرجت من الشرق، ثم خرجت من حضارة الشرق، ثم التحمت بالحضارة الغربية، وبعدها أصبحت المسيحية الحقيقة.

ولكن الأمر لم يقف عند هذا الحد، فقد استعاد بابا روما المعارك التي جرت داخل إطار الحضارة الغربية، والتي مثلت معارك فكرية وفلسفية، ملأت ساحة الجدل اللاهوتي، ودارت أحيانا بين أتباع أفلاطون وأرسطو في الفكر اللاهوتي المسيحي.

وتلك المعارك كانت لها علاقة بموقف الكنيسة الكاثوليكية من فكر ابن رشد الذي انتشر في العالم الغربي، خاصة شمال البحر المتوسط. وكانت لها علاقة أيضا بالخلاف الحادث بين الراهب الكاثوليكي مارتن لوثر، وكنيسته في روما، والذي نتج عنه قيام الإصلاح الكنسي المعروف باسم الحركة البروتستانتية.

وهكذا استعاد بابا روما هذا التاريخ، ليلعن لنا في نفس محاضرته، أن مفهوم الإيمان عند البروتستانت، قد غيب دور العقل، عن الدور الذي تحقق له في اللاهوت الكاثوليكي.

وبهذا خرج بابا روما من معركته مع الحضارة الشرقية، ليقيم معركته مع أحد روافد المسيحية الغربية، لينتصر لفكر غربي على فكر غربي آخر، وكأن البروتستانتية هي إعادة إنتاج للفكر المسيحي الشرقي في سياق غربي.

وهنا لم يعد الأمر مقصورا على اختلاف الحضارات، بل تجاوزه لاختلاف الكنائس حتى في الحضارة الواحدة. وهنا نرى أن بابا روما أراد أن يؤكد العقيدة الكاثوليكية الصحيحة من وجهة نظره، أو من وجهة نظر الكنيسة، ويؤكد الاختلاف بينها وبين غيرها، ويضع حدودا فاصلة بين الأفكار والعقائد والكنائس.

وبعيدا عن الجدل اللاهوتي لهذه الآراء، نرى هنا محاولة لإبراز تميز الكنيسة الكاثوليكية ووضع حدود فاصلة بينها وبين أي كنيسة أخرى، وهنا نتصور أننا بصدد محاولة لإعادة تأسيس دور الكنيسة الرومانية من خلال إعادة تأسيس لاهوتها الخاص، ومن بعده تتم إعادة تأسيس دورها.

وهنا يبرز دور البابا الراحل يوحنا بولس الثاني، فقد كان من أهم الرموز التي قامت بإعادة الدور العالمي للكنيسة الرومانية، ومعنى هذا أنه رأى أن على الكنيسة أن تغير من الدور الذي فرض عليها نتيجة ظهور العلمانية، وأن عليها استعادة دورها العالمي في محيطها الأوروبي أو المسيحي، وفي غيره من الأطر.

ولم يكن البابا يوحنا بولس الثاني إلا واحدا من المحافظين الذين استعادوا لكنيسة روما آراءها المحافظة في الشؤون السياسية والاجتماعية والاقتصادية، مع الاهتمام باستعادة أوروبا الشرقية مرة أخرى إلى المسيحية بعد سيطرة الشيوعية عليها عقودا طويلة.

وهنا نستطيع الربط بين ذلك الاتجاه المحافظ للبابا يوحنا بولس الثاني، ونفس هذا الاتجاه لدى البابا بنديكت السادس عشر. فالغالب هنا هو عملية استعادة لصورة الكنيسة الكاثوليكية الرومانية التاريخية، استعادة للاهوتها ودورها ومكانتها.

وربما نسأل عن استعادة الكنيسة من ماذا؟ أتصور أنها محاولة لاستعادة الكنيسة من مؤتمر الفاتيكان الثاني، الذي انعقد في ستينيات القرن العشرين، واستعادة للكنيسة من فكر هذا المؤتمر وتوجهاته وظروفه، وحذف هذه المرحلة، والعودة للمسار الأول للكنيسة الكاثوليكية، أي العودة للكنيسة الكاثوليكية الرومانية ما قبل مؤتمر الفاتيكان الثاني.

ربما يبدو غريبا هذا الدور لمؤتمر الفاتيكان الثاني، ولكنه كان بالفعل تحولا من قبل الكنيسة الكاثوليكية الرومانية في العديد من القضايا، وغلبت على هذا المؤتمر النزعة الليبرالية إن جاز التعبير، وجاء المؤتمر بمقرراته في أجواء انتشار واسع للعلمانية.

ففي ذلك المناخ تصالح الفاتيكان مع العديد من الضغوط المحيطة به، أو لنقل تجاوب معها. وظن البعض أن مؤتمر الفاتيكان الثاني هو مرحلة جديدة من تاريخ الكنيسة الرومانية، وقد كان بالفعل مرحلة جديدة، ولكن الآن يتم التراجع عنها، وكأنها كانت حالة استثنائية، أو ربما كانت حالة خرجت عن أسس العقيدة الكاثوليكية الرومانية.
ولهذا يعاد تفسير مقررات المؤتمر، ومنها الموقف من الطوائف المسيحية الأخرى، وكذلك الموقف من الإسلام، والموقف من حوار الحضارات وحوار الأديان. وهي نفس الموضوعات التي شهدت مرونة كبيرة من قبل مؤتمر الفاتيكان الثاني، وربما شهدت مواقف شبه ليبرالية.

وهنا تأتي الدراسة الخاصة بالموقف الكاثوليكي من الطوائف المسيحية الأخرى، لتصبح إعادة إنتاج للموقف الكاثوليكي الروماني ما قبل مؤتمر الفاتيكان الثاني، وهو الموقف الذي يعتبر أن المسيحية الصحيحة هي مسيحية الكنيسة الرومانية، وغيرها من المسيحيات هي في الواقع تصورات ناقصة، مثل الكنيسة الأرثوذكسية، أو مجرد جماعات تنسب نفسها للمسيحية مثل الكنيسة البروتستانتية.

هنا أراد بابا روما التأكيد على أن المسيحية هي مسيحية واحدة، وطائفة واحدة، ومن عاداها فليس مصيبا أو ربما يكون ضالا. وبهذا استعاد البابا الموقف التقليدي للكنيسة الكاثوليكية، الذي قام أساسا على فكرة الحرمان للطوائف الأخرى.

ففي المعارك الكنسية، وبعد أن كانت الكنيسة المسيحية كنيسة واحدة عبر العالم، وبعد معارك القرنين الرابع والخامس الميلاديين على الأخص، بدأت الكنائس في الانشقاق عن بعضها البعض. وكانت كل كنيسة تصدر قرار حرمان في مواجهة المنتمين للكنائس الأخرى، وقرار الحرمان يعني قرارا بأن المنتمين للكنائس الأخرى ليسوا مسيحيين.

وهذه القرارات استمرت، وغيرها مؤتمر الفاتيكان الثاني، عندما اعتبر الطوائف المسيحية طريقا للخلاص المسيحي، وإن اختلف معها.

ولكن الطوائف الأخرى، لم تفعل نفس الشيء. وعلى سبيل المثال، فإن الكنيسة الأرثوذكسية القبطية مازالت تحرم المنتمين للكنائس الأخرى بما فيها الكنيسة الكاثوليكية والكنائس البروتستانتية.

والتوافق الوحيد الذي تقوم به الكنيسة الأرثوذكسية القبطية، هو مع بعض الكنائس الأرثوذكسية، التي تم التصالح معها وإسقاط قرارات الحرمان المتبادلة معها.

لهذا نستطيع القول إن مقررات مؤتمر الفاتيكان الثاني كانت خطوة على طريق تأسيس العلاقة بين الطوائف المسيحية المختلفة، يقوم على قبول مسيحية كل الطوائف مع إقرار الاختلاف في العقيدة.

ولكن هذه المحاولة لم تنتشر في كل الكنائس التقليدية، وتجاوبت معها الكنائس البروتستانتية، التي لم تصدر أساسا قرارات حرمان بحق الكنائس الأخرى، حيث إنها قامت تاريخيا بعد الكنائس الأرثوذكسية والكاثوليكية الكبرى.

وبهذا المعنى لا نستطيع القول إن تمييز كنيسة عن غيرها، أو حتى رفضها لغيرها من الكنائس، أمر شاذ ولم يحدث في التاريخ، بل هو الأمر الحادث والمتكرر في التاريخ.

ولكن دلالة مواقف البابا بنديكت السادس عشر، تتجاوز مسألة الحرمان المتبادل للكنائس، لتكشف لنا عن الموقف الراهن للكنيسة الكاثوليكية، وعن تصور كنيسة روما لدورها الراهن والمستقبلي.

وتلك هي المسألة المهمة، فكنيسة روما تريد استعادة دورها كقائد للعالم المسيحي، وتريد استعادة أوروبا للمسيحية، لتعود أوروبا مرة أخرى بمثابة العالم المسيحي كما كانت تسمى في الماضي.

ولهذا ناضلت كنيسة روما مثلا لإقرار أوربا بأصولها المسيحية، ولهذا تناضل الكنيسة الرومانية أيضا ضد العلمانية التي حدت من دور الدين في الحياة، فأصبحت أوروبا المسيحية أوروبا العلمانية.

وحتى يتحقق لكنيسة روما الدور الذي تريده، كان عليها التمدد شرقا في أوروبا الشرقية، والمشاركة مع الولايات المتحدة الأميركية في مواجهة الشيوعية، كما فعل البابا الراحل يوحنا بولس الثاني.

وحتى تستعيد كنيسة روما دورها وتستعيد أوروبا للمسيحية الكاثوليكية الرومانية، كان عليها التخلص من مقررات مؤتمر الفاتيكان الثاني، الذي قرب مسيحية الكنيسة من الليبرالية وصالحها مؤقتا مع العلمانية، وتلك التوجهات أثرت سلبا على الكنيسة، التي تضاءل تميزها الفكري والموقفي في الأمور اللاهوتية والاجتماعية، وبالتالي انفض الناس عنها نسبيا.

وهنا نرى أن كنيسة روما باعدت بينها وبين الليبرالية والعلمانية في عهد يوحنا بولس الثاني، وتباعد بينها وبين الطوائف المسيحية الأخرى، وبينها وبين الإسلام، وبينها وبين الحضارة الشرقية حتى بمنجزها المسيحي، وتستعيد لاهوتها المتميز الخاص، وتستعد لاستعادة دورها العالمي، بأن تحاول استعادة أوروبا مرة أخرى لأحضان كنيسة روما، بعد تمدد كنيسة روما في أوروبا الشرقية وفي أميركا اللاتينية.

وهنا ستبدأ كنيسة روما في تحديد سياستها ومواقفها في مواجهة السياسات الغربية، فماذا ستفعل؟.

رفيق حبيب

المصدر: الجزيرة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...