الفتاوى عند المسلمين خلل وفلتان وضوابط و"تدخّل سياسي"

01-02-2010

الفتاوى عند المسلمين خلل وفلتان وضوابط و"تدخّل سياسي"

شأنها عظيم... بمثابة تشريع عام... ميزان الشريعة في المجتمع... دستور ديني... اهم من قضاء القاضي... ملزمة...شاملة... غير تابعة لحدود الجغرافيا السياسيّة... هذا بعض ما يقال عن الفتوى عند المسلمين. اهميتها الكبيرة، لا بل اولويتها، تضع كل مفتٍ وكل مسلم امام مسؤوليات دينية جدية، لكن التحدي الذي تواجهه حاليا هو بروز جوانب "غير مضبوطة" منها: غرابة بعضها، شذوذ او مخالفة أخرى، تضارب، تشدد، تساهل مفرط، تحريم متبادل، صدور بعضها عمن لا تتحقق فيه شروط المفتي...
"المشكلات" عديدة في الافتاء، ويدلّ علماء مسلمون كبار أليها والى اسبابها ونتائجها بالاصبع، بصراحة، "اذ بقدر عظم الفتوى يكون عظم خطرها واشتداد ضررها، اذا تصدى لها من ليس اهلا لها، على من يستفتيه وسائر الامة(•)". وقد استدعى ما سمي "فوضى الفتاوى" بهيئة كبار العلماء المسلمين في السعودية الى اخذ المباردة، بطلب رسمي، للتصدي لهذا "الفلتان". والاقتراحات تدرس، تنقّح، تبحث حاليا. هل المسلمون في مهب فوضى الفتاوى؟ هل تستغل حقيقة لغايات سياسية ودينية؟ وهل تطبق شروط الافتاء بالفعل؟ وكيف يتميز الموحدون الدروز عن السنة والشيعة في هذا المجال؟

تعريفات وشروط و"مشكلات"

هكذا يُعَرَّف بالفتوى. "هي الاخبار بالحكم الشرعي للسائل عنه في امر واقع". وقيل ايضا "انها الاخبار بالحكم الشرعي وفق قواعد الفقه واصوله، او هي بيان حكم الله بمقتضى الادلة الشرعية على جهة العموم والشمول"، وايضا "الاخبار بحكم الله عن دليل لمن سأل عنه(•)". ومن شروط اصدارها، انه "لا ينبغي ان يتعرض لها الا فقيه عالم بالشريعة... اي العارف باحكام القرآن وكلام رسول الله وما صح نقله مما لم يصح، وما اجمع عليه العلماء وما اختلفوا عليه...".
المفتي اذا هو المجتهد المطلق، الفقيه، "المخبر بحكم الله عن دليل لمن سأل عنه(•)". وقد تعددت التعريفات به وبدوره، وفي حصيلتها عموما انه "يستنبط او يستشف مراد الله ورسوله من خلال القرآن والسنة، مستعينا باللغة وعلومها وعلوم القرآن الحديث ومراعاة الواقع وحال المستفتي وصورة الواقعة الحادثة". وقد اشترطت فيه شروط عدة، منها "الاسلام، التكليف، اي ان يكون عاقلا وبالغا، العلم والاجتهاد، العدالة في الاقوال والافعال، اي ان يكون مستقيما في احواله، صادقا في ما يقوله وموثوقا به...". وحددت ايضا له وللمستفتي آداب.
النبي محمد كان اول مفتٍ. "علّم الناس امور دينهم وبلغهم شرع ربهم وافتاهم في ما استجد لهم من حوادث". ثم خلفه في ذلك خلفاؤه الراشدون، وعمد الصحابة في عهدهم الى النهي عن الافتاء في مسائل لم تقع، خشية ان يجترىء الناس على القول في الدين بلا علم، الا اتباع الهوى والظن. وبعدما انتشر الصحابة، اصبح لهم تلاميذ، وظهرت مدرسة الحديث ومدرسة الرأي في عهد التابعين وادلة جديدة للاحكام تلقاها العلماء بالقبول، وصارت هي القواعد المعمول بها حتى اليوم. ولكن بعد منتصف القرن الرابع الهجري، انتهى دور الائمة المجتهدين، وراج التقليد. وساعد في رواجه "تفكك الدولة الاسلامية وتعصب اتباع المذاهب لمذاهبهم وشدة الحكام".
الجوزو: السياسة تتدخل للاسف
اليوم، يواصل المفتون الاجتهاد والافتاء، وتضاعفت الفتاوى، شاملة "كل تصرفات العباد"، متصلة "بمختلف المجالات: العقيدة والعبادة والمعاملة والمال والاقتصاد والاسرة والسياسة والحكم والقضاء وغيره". وترافق هذا الزخم في اصدارها "مشكلات عدة" يحددها علماء مسلمون كبار بوضوح: "ابتعاد بعض المتصدين للفتوى عن منهج الوسطية المبني على الكتاب والسنة وسلوكهم احد طريقين متطرفين، اما التشدد، اما التساهل المفرط، صدور بعض الفتاوى بآراء شاذة عارية عن الدليل الصحيح المعتبر، او مخالفة لاصول الاعتقاد وكليات الشريعة ومبادىء الاخلاق، اجتراء من ليس اهل العلم الشرعي على فتاوى العلماء الربانيين وقرارات المجامع الفقهية، تعارض فتاوى في المسائل المتجانسة، التصدي للفتوى ممن لم تتحقق فيه شروط المفتي...(•)".
بالنسبة الى مفتي جبل لبنان الشيخ محمد علي الجوزو، "لا خلل في الفتاوى، انما هناك اجتهاد، وكل فريق يجتهد من وجهة نظر معينة، اي ان هناك متسعا في الدين في الاجتهاد". لكنه يرى ان "السياسة تتدخل للاسف في الفتاوى، خصوصا عندما نجد تضاربا بين بعضها البعض. فالسياسة لها تأثير كبير في حياتنا اليوم، خصوصا في القضايا الدينية"، يقول لـ"النهار".
تحصين الفتاوى من التدخلات السياسية صعب، ان لم نقل مستحيلا. "لا نستطيع ان نلزم اي فريق اصدار فتوى معينة في شكل يخدم اي جهة"، يشرح. "بالنسبة الينا، هناك متسع من الحرية. لكن للاسف دخلت السياسة في كل قضايانا من بداية التاريخ". وماذا عن الفتاوى التي تصدر بطابع جهادي او مسماة استشهادية تستهدف مدنيين ابرياء؟ يجيب: "يجب العودة الى الاسباب. لقد وقع ظلم رهيب في تاريخنا الحديث يتمثل في زرع الغرب مجموعة من الغرباء، اي اليهود، في المنطقة، وفرضهم علينا بقوة الاستعمار. وهذا ما يشعر الشباب المسلمين بالاحباط... الفتاوى سببها هذه الظروف القاهرة التي تملي على الشباب المسلمين مواجهة خصومهم".
لكن ماذا عن الفتاوى التي تغطي عمليات انتحارية بين السنة والشيعة؟ يجيب: "انها السياسة. وتقف وراء الشيعة ايران التي تتنقل تدخلاتها بين مختلف الدول العربية لتثبت وجودها...السبب سياسي، والشيعة والسنة يذهبون ضحية هذا الصراع السياسي القائم بين دول لا يهمها الا ان تفيد وتركب الموجة". والمطلوب في رأيه لضبط الامور، "عملية تغيير الانسان نفسه، اي طموحاته وتطلعاته الى السلطة والسيطرة والحكم...".

زراقط: هناك بعض الخلل

لم يتوقف العلماء المسلمون الكبار عنه المشكلات الظاهرة في الفتوى حاليا، بل ذهبوا الى تحديد اسبابها، وابرزها "ضعف العلم بالنصوص ودلالاتها والضوابط والاصول الحاكمة للاستنباط والتفسير والتأويل، قلة عدد المؤهلين للفتوى الذين تتوافر فيهم شروط المفتي، التذرع بالمحافظة على المصالح وتلبية الضرورات والحاجات، الفهم غير الصحيح لمعنى التيسير في الاسلام، وعدم فهم فقه الواقع ومآلاته...(•)".
هل المشكو اذا منه فوضى في الفتاوى؟ يتحفظ الاستاذ في الحوزة العلمية في بيروت محمد حسن زراقط عن "تعبير فوضى"، معتبرا ان "مثل هذه الفوضى، لو وُجدت، لازم ضروريّ من لوزام حريّة التعبير عن الرأي". لكنه يوافق على "وجود بعض الخلل من ناحية تصدّي بعض من ليس أهلاً للفتوى لإصدار الفتاوى".
ويقول لـ "النهار": "لا أدري إذا كانت الفوضى عارمة إلى هذا الحدّ. فعندما تكون الفتوى رأياً للفقيه، فبأي طريقة قانونيّة أو مبرّر يمكن أن يُمنَع شخص من التعبير عن رأيه؟ ولا أريد الدفاع عن الأخطاء أو تبريرها، لكنّها ضريبة حريّة التعبير عن الرأي المصونة بالقوانين والأعراف، ولا يمكن منع الناس من التعبير عن آرائهم، بذريعة أنّ بعض الناس يفيدون في شكل خاطئ من الحرية، ومن الوسائل التي تساعدهم على إيصال أصواتهم إلى الناس".
وبالسؤال عن استغلال الفتاوى لغايات سياسيّة ودينية، وبغطاء له طابع جهادي... او في عمليّات تسمّى "استشهادية" تستهدف مدنيين أبرياء، يجيب: "إذا كانت هناك مشكلة في إصدار الفتاوى، وهي موجودة بحدود معيّنة، فأحد الحلول المناسبة هو رفع مستوى الوعي عند الناس الذين يتّبعون هؤلاء المفتين ويسيرون على هدي فتاواهم أو ضلالها، ويجب أن يعلم هؤلاء الناس الطيّبون في كثير من الأحيان أنّ الفتوى يجب أن تكون نتيجة جهد مضنٍ يبذله الفقيه المؤمن الورع الذي يفتي من أجل الله ومن أجل الإنسان، لا من أجل حفنة من الأموال أو من أجل أطنان من الكراهية الدفينة التي تغذّي أحقاده ضدّ هذا أو ذاك".
ويستدرك: "إذا كان الإذن بتفجير الإنسان نفسه في جماعة من الأبرياء فتوى وموقفا نظريا يقبل المناقشة، فإنّ حرمة قتل الأبرياء فتوى حاسمة لا تقبل النظر، ولا الاجتهاد". وردا على سؤال عن تبادل فتاوى التحريم بين السنة والشيعة، يرى ان "حرب الفتاوى ليست بين السنة والشيعة، بل هي بين صاحب هذه الفتوى وبين من يخالفه، أكان سنياً أم شيعياً".

البعيني: سببان لتميّز الدروز

في مسألة الفتاوى، يتميز الدروز عن السنة والشيعة لسببين، "الاول غلق باب الاجتهاد والآخر التزام مبدأ التقوى"، يشرح قاضي مذهب محكمة بعقلين الدرزية الشيخ فؤاد البعيني. ويقول : "باب الاجتهاد الفقهي اكثر من المذاهب الفقهية عند السنة، حيث اكتفى باربعة منها تختلف بينها في امور كثيرة وتتوافق في اخرى. فهل من الممكن ان يكون الانسان مخطئا بالنسبة الى مذهب ما ومصيبا بالنسبة الى آخر في آن معا؟ اما عند الشيعة، فما يفتي به احد المجتهدين يصبح تقليدا... واما في خاطر مشايخ الدروز المستند الى مبدأ التقوى وما سلك عليه السلف الصالح، فان كل ما يتسبب بضرر حرام... ومن تعلق برضى الله ابتعد عن زينة الظاهر...".
واذ يرى انه "من الطبيعي اختلاف الآراء ما بين مفت وآخر باختلاف فهم القضية او تفسير المستند المعتمد لاثبات وجهة نظره"، يشرح ان "معظم الدروز يأخذون بالخاطر الذي يصدر عن الشيخ الثقة. اما بالنسبة الى تضارب الفتاوى الصادرة عن المذاهب الاخرى، فالدروز يأخذون بالرأي الغالب المؤيد في كل طائفة".
والشكوى من استغلال الفتاوى لغايات سياسيّة ودينية وبغطاء له طابع جهادي او في عمليّات تسمّى "استشهادية" تستهدف مدنيين أبرياء، يجيب عنها بشرح الطريقة المعتمدة عند الدروز. "لقد اشار سيدنا الشيخ الفاضل الى الشيخ الروحاني (الملتزم دينيا) والشيخ الجسماني (غير الملتزم دينيا) وفرض عليهما الاتفاق والتعاون معا في ما يعود بالفائدة على المجتمع عموما. فلهذا لا يجوز استغلال أي موقع ديني او علماني لمنفعة خاصة يكون فيها فساد العامة. وان حصل شيء من هذا، فهو احق ان يرفض ولا يعتمد".
ويميّز بين العمليات الجهادية وتلك المسماة استشهادية. "الاولى نحترم ونقدر ونكبر، لان الجهاد فرض لازم على كل قادر والتخلف عنه عار وذل ومخالفة لأمر الهي اكيد. اما الاخرى، فهي من وجهة نظر الدروز حرام، لان القائم بهذا العمل انما يقتل نفسه قبل ان يقتل عدوه. والاوجب والافضل ان يقتل عدوه ويحافظ على حياته... فاي شهيد هذا الذي يدمر المسجد على المصلين؟ الشهيد هو الذي يُقتَل في ساحة الجهاد مع العدو".

 

 هالة حمصي - المصدر: النهار
("المؤتمر العالمي للفتوى وضوابطها" الذي عقده "المجمع الفقهي الاسلامي" في رابطة العالم الاسلامي في مكة من 17 كانون الثاني 2009 الى 20 منه. ) 

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...