المسألة الطائفية ومسالك العلاج

22-12-2006

المسألة الطائفية ومسالك العلاج

تشهد المنطقة العربية الإسلامية في صورتها العامة، ضروبا شتى من الصراعات السياسية والتصدعات الاجتماعية المدمرة انعكست سلبا على مستوى الاستقرار الأهلي ووحدة النسيج العام، كما فتحت المجال واسعا أمام التدخلات الأجنبية.

ولعل أخطر هذه الظواهر على الإطلاق ظاهرة الانقسام الطائفي والعرقي التي بدأت تطفو على السطح الخارجي وتطل بوجهها الكالح والمرعب في الكثير من البلاد العربية والإسلامية، ويقدم العراق بما يشهده من قتل طائفي أعمى وإهراق دماء الأبرياء تحت مسوغات دينية ومذهبية صورة كاشفة لهذا الوضع الكارثي الذي بدأ يغرق فيه هذا البلد ويتهدد عموم المنطقة.

من المؤكد هنا أن أزمة العراق الراهنة لا يمكن فصلها بأي حال من الأحوال عن سياسات الاحتلال الأميركي وما جره من تداعيات خطيرة على مقومات التعايش الوطني، سواء من خلال انتهاجه نظام محاصصة طائفيا وعرقيا ألغى كل مقومات المشترك الوطني والعربي والإسلامي، أو من خلال استخدامه بعض الجماعات أو الطوائف ضد البعض الآخر بحجة تخليص البلد من إرث حزب البعث المنهار.

الكل يعلم أن السياسة تلعب دورا أساسيا في إشعال لهيب الفتن الطائفية مثلما تلعب دورا في إطفائها، بل كثيرا ما تكون الفتن الطائفية والحروب الأهلية ناتجة عن ألاعيب السياسة وحسابات السياسيين أكثر مما هي نتاج الجماعات والطوائف.
قد يبدو هنا نوعا من المفارقة الغريبة والعجيبة، وضربا من الجمع بين ما لا يجمع، القول بأن بعض الجماعات الدينية الناقمة على العلمانية والعلمانيين، والتي انتدبت نفسها لمحاربتهما أن تكون أكبر دعاة الحل العلماني بلا وعي منها.

فعلا إنها لمفارقة عجيبة، ولعلها تدخل ضمن ما أسماه الفيلسوف الألماني هيغل بمكر التاريخ، أن تصبح أكثر الجماعات مناهضة ونقمة على العلمانية والعلمانيين هي نفسها أول من يستدعي الحل العلماني ويقوي الحاجة إليه قبل غيرها: كيف ذلك؟

إن هذه الجماعات بحكم ما يطبعها من ضيق الأفق الفكري والديني، فضلا عن منزعها الاستبعادي والعنفي، فإنها تدفع الأمور دفعا نحو تعميق التمزقات الدينية والاجتماعية وزعزعة أسس الاستقرار العام، ومن ثم تجعل من المعطى الديني عامل تفجير للحمة الداخلية وتمزيق عرى السلم الأهلي بدل أن يكون عامل توحيد ورأب للتصدعات، وكأنها تريد أن تثبت -فعلا لا قولا- بأن الدين عاجز بطبعه عن بناء أسس الإجماع العام.

فحينما يكف الدين عن بناء المشترك ومد جسور التواصل بين الأفراد والمجموعات، أو حينما يتحول إلى عامل تناحر وانقسام، فإن أتباعه هم قبل غيرهم أول من يؤسس شروط تجاوزه وإلغائه، ومن ثم يشرعون الباب واسعا أمام الحل العلماني باعتباره الأقدر على ضمان السلم المدني واستعادة مقومات الوحدة وعوامل الانسجام الاجتماعي المفقودين.

لا ننسى هنا أن العلمانية بما في ذلك ضمن سياقاتها الغربية كانت في أصلها معالجة عملية لمعضلة التمزق المذهبي والديني التي فتحتها الحروب الدينية في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، قبل أن تكون رؤية فكرية أو نظرية فلسفية كما يتصور الكثير.

فالجماعات الطائفية بوجهيها الشيعي والسني والتي لا تتورع عن ممارسة العنف والقتل الطائفي بحجة الدفاع عن المذهب أو الطائفة على نحو ما نراه اليوم في العراق أو بعض البلاد الإسلامية الأخرى، إنما تعجل الخطى هي قبل غيرها نحو العلمانية، وهي أول من يضر بالمذهب والطائفة وحتى الدين الذي تدعي مناصرته.

حينما يتعاطى الشيعي العراقي مثلا مع مسألة الحكم بما يشبه الغنيمة التي يتوجب اختطافها أو الاستئثار بها لصالح طائفته على حساب بقية التشكيلات الاجتماعية والمذهبية الأخرى، وحينما يتحول الانتماء السني إلى جماعة طائفية مغلقة تريد الثأر لنفسها أو الانتقام من غيرها فإن ذلك لن يخلف إلا الصراعات وتغذية الأحقاد، ومن ثم إعطاء مشروعية للحل العلماني.
مهما كانت مبررات الطائفية ومهما كانت قوة سلطانها وثقل أثرها، فإنه لا يجب الاستسلام لهذا المرض الطائفي الذي يتهدد الجسم الإسلامي في الصميم، كما أنه لا يمكن الرد على هذه الطائفية المريضة بطائفية مضادة، بل إن البديل عن ذلك يقوم على ترسيخ روح التعايش وبث معاني الهوية الجامعة، والتشديد على أولوية الأمة والدين والأوطان على الطوائف والمذاهب و الجماعة الإثنية.

يجب الاعتراف هنا بأن التعصب الطائفي والعرقي شأنه في ذلك شأن المرض العضال الذي ينهك الأبدان فإنه يصيب المجتمعات في الصميم، ويملأ الأفراد والجماعات أحقادا ووساوس، كما يعمي البصر والبصيرة، ولعل أولى الشروط اللازمة لعلاج هذا الخلل يقوم على تقديم التشخيص الدقيق والصحيح الذي يعترف بأن التعصب الطائفي والإثني مفسد للسلم الأهلي ومهلك لأسس الاجتماع السياسي السليم.

إن أولى الخطوات الصحيحة التي يتوجب قطعها لمعالجة هذا الخلل تبدأ بإرجاع الطوائف إلى حجمها ووضعها الطبيعيين باعتبارها خيارات فقهية ومدارس كلامية وليست كتلا دينية أو هويات اجتماعية سياسية مغلقة.

فالمشكلة لا تكمن في الانتماء لهذا المذهب أو ذاك، بل في تحويل المذاهب إلى طوائف مغلقة على نفسها تتربص الدوائر ببعضها بعضا، مثلما يتم تحويل القبائل إلى ضرب من القبلية المقيتة.

نعم هنالك خلافات فقهية وأصولية وتاريخية ين السنة والشيعة لم تحسم بالأمس البعيد والقريب مثلما هي لن تحسم اليوم أو غدا، ولكن هذه القضايا يجب أن تظل موضع تحاور بين علماء المسلمين ومفكريهم بدل أن تكون مجالا للمساجلات العقيمة والتنازع بالألقاب، خاصة وأن الكثير من القضايا التي يثار حولها الضجيج هي من مخلفات التاريخ وصراعات الماضي أكثر مما هي تعبير من مشكلات الحاضر.

إنه لأمر محزن ومخجل في ذات الوقت ألا تتورع بعض جماعات التخلف الشيعي عن سب الصحابة وتجريحهم، وأن تقدم جماعات التعصب السني على استدعاء مقولات الروافض والباطنية وما شابه ذلك من مصنفات جارحة. فالحرب أولها الكلام على ما قالت العرب.

من المؤكد هنا أن الأمم التاريخية الحية هي التي تجعل من ميراث التاريخ مساعدا على مد جسور التواصل ونسج خيوط الهوية العامة، في حين تعمل الأمم المأزومة على النبش في تاريخها عما يفسد حاضرها ويهلك مصيرها.

نعم هنالك مظالم قد ترتكب بحق هذه الجماعة أو تلك أو بحق هذه الطائفة أو تلك ولكن مدخل العلاج لا يقوم على تأجيج الصراعات ومزيد إنهاك الجسم الإسلامي المنهك أصلا بلعبة التقسيم والحذف، بل الالتزام بميزان العدل والإنصاف، وترسيخ عرى الوحدة بين مختلف "طوائف" المسلمين وقومياتهم.

ومهما كان موقفنا من المذاهب والعرقيات فسيظل هناك سنة وشيعة ومتصوفة، ومسلمون ومسيحيون وعرب وفرس وترك وبربر وكرد وغيرهم في العالم العربي والإسلامي، هذه هي تركيبة المنطقة وهذا هو ميراث التاريخ، ولن تقدر أي فئة أو مجموعة مهما كان اندفاعها وحجم تعصبها على إلغائها أو نقضها، كما أن بعض "الاختراقات" الشيعية في الجسم السني أو بعض الاختراقات السنية في الجسم الشيعي لن تغير واقع التوازنات التي استقر عليها المسلمون لقرون متتالية بين أغلبية سنية وأقلية شيعية.

إن الاستسلام لنزعات الجهالة والتعصب الطائفي التي تجتاح بعض البلاد العربية والإسلامية معناه نسف ما تبقى من مقومات مشروع النهوض الإسلامي من الجذور، وإخراج العرب والمسلمين من دائرة التاريخ أصلا بعدما تم محاصرتهم في الجغرافيا.

فما معنى الحديث عن نهضة العرب والمسلمين، أو مواجهة تحديات الخارج في الوقت الذي ينساقون إلى إهراق دماء بعضهم بعضا والاحتكام إلى غريزة القتل والانتقام الأعمى الذي يتناقض مع كل مقومات الدين ومتطلبات الحياة المدنية السليمة؟
قد يقول البعض إن الوضع الراهن للاحتراب الطائفي على نحو ما نشهده في العراق أو ما نشهده من توترات مذهبية في الخليج العربي أو في لبنان ما عاد يفيد فيه التشبث بالمبادئ السياسية والأخلاقية، ما دام الأمر يتعلق بمصالح كبرى لدول وجماعات لن تصغي كثيرا للمطالب الأخلاقية والدينية ولن تثنيها عن تحقيق مطامحها.

فما يعني هذه الدول والجماعات ترسيخ مصالحها القومية أو تثبيت مواقعها الطائفية والعرقية قبل أي شيء آخر، وهي لن تتورع عن توظيف كل شيء لبلوغ مآربها السياسية.

أقول إن هذه القراءة لا تخلو من بعض الصحة في التوصيف ولكنها مع ذلك تظل "واقعية" مدمرة ومهلكة، لأنها لا تعني شيئا في نهاية المطاف سوى ركوب موجة الجهالة والتخلف بحيث يصبح الكل في محاربة الكل تحت ادعاءات المصالح ولعبة الواقعية السياسية.
في الأخير نقول إن ثمة حاجة ملحة لبذل جهود مشتركة بين إيران والعالم العربي لإعادة الأمور إلى نصابها الصحيح في إطار مصالحة تاريخية بين إيران المسلمة وجوارها العربي، مصالحة تأخذ بعين الاعتبار مقومات الجوار ورابطة الدين مع العمل على كف التدخلات الخارجية التي لم تجن منها شعوب المنطقة سوى الحروب والدمار.

ولعل أولى الخطوات الصحيحة التي يتوجب على إيران اتخاذها تبدأ برفع الغطاء السياسي والديني في العراق عن الجماعات الشيعية المتعصبة وما تمارسه مليشياتها المسلحة من اعتداء على الأرواح والأعراض، مقابل خطوة أخرى من الجسم الإسلامي السني العربي برفع الغطاء عن جماعات التعصب والجهالة السنية التي لا تتردد في إعمال سيف القتل والتدمير ضد المخالفين، مع التشديد على الحق في مقاومة الاحتلال، وعزل كل المتعاونين معه مهما كانت مذاهبهم وطوائفهم أو حساباتهم الخاصة.

من هنا يبدأ الحل والعلاج وما عدا ذلك فلا يعني شيئا سوى مزيد التمادي في مسار الفتنة والدمار المهلكين للحرث والزرع.

رفيق عبد السلام

المصدر: الجزيرة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...